نص مسرحي: "مقتل الحقيقة "/ تأليف : د. طالب هاشم بدن

  مسرحية من فصل واحد 

 
 أحداث هذا النص المسرحي مأخوذة عن قصة حقيقية حدثت في إحدى القرى الأوربية التي دخلها الجنود الغازين وقاموا باغتصاب نساء القرية وبعد أن ذهب الجميع خرجت أحدى نساء القرية حاملة رأس جندي بعزة نفس وبينما الباقيات يولولن ويبكين خرجن يلملمن ملابسهن وما بقي من بقايا لهن . ولأنهن جميعاً ركبن العار وصرن لا يقوين على رفع نظرهن بوجهها إذ قالت (هل كنتن تظنن أتركه يغتصبني من دون أن اقتله أو يقتلني ) حينها نظرن إليها وقررن مجتمعات قتلها ليطمسن حقيقتها وحقيقتهن . استوحينا هذه الفكرة وأضفنا عليها مجموعة من القصص المتخيلة وما نملك من ثقافة متواضعة لنضعها بين يدي المتلقي عسى أن نكون قد وفقنا في تقديم مادة جديدة تسلط الأضواء على ما يحدث من طمس للحقائق ومعالجتها بتصفيات جسدية وربما هذا سلاح الضعفاء الذين لا يملكون الحجة في إبداء الأفكار أو الآراء في معالجة المشكلات وإعادة بناء المنظومة الأخلاقية الاجتماعية وتطوير البناء بشكله الصحيح .
شخصيات المسرحية
ـ فهيم
ـ أطرش
ـ أبكم
ـ ثقيل النطق
(مجموعة من الشخصيات يؤدون حركات بهلوانية توحي بالعودة إلى ماضٍ ، يقومون بإيماءات يحاولون من خلالها التعبير عن قيود قيّدتهم وجعلت منهم كتلا متجمعة مع بعض لا يقوون على التخلص من بعض )
فهيـــــــم : نريد الخروج إلى عالم آخر .
ثقيل النطق : كك .. كي .. كيف .. نننخخررج .. ووونحححنمققققيييدوووون ؟
أطـــــرش : من قال مقلدون .. ها .. نحن لا نقلد أحد بل نحن نقد أنفسنا ..
أبكــــــــم :  و…ووو .. هه  .. هه .. أم . ( يومئ بيديه )
أطـرش : ما بالك تشعرنا بالضجر من تلك الايماءات .. أسمعنا ماذا تريد ان تقول .
فهــــــــيم : لو قدر لنا أن نخرج من هذا التيه ؟؟ ماذا نصنع ؟؟
ثقيل النطـق : نننننصصصصنعحححححلوى .. نننأككككلححححححللللوى .
فهيـــــــــم : أتريد أن تأكل حلوى وأنت في مخاض عسير !!؟؟
أطـــــرش : نعم يجب أن نتنعم بالخلوة .. الخلوة جميلة …
فهــــــــيم : يا هذا الاطرش ما بال الكلمات تتقلب في أذنيك وتصاغ كما تفهم .. أقول حلوى وتقول خلوة .. عجباً لك !!.
أطـــــرش : نعم نحتاج إلى كمامات كي نخفي ما آت وما فات ونستر جزءاً من أنفسنا ونستر أرواحنا اثناء الخلوة .
أبكـــــــــــم : هه.. ببه .. هه .. بببه ( يصفق بيديه) .
فهيـــــــــــــم :  نحتاج إلى مترجم ليفك لنا تلك الشفرة .
ثقيل النطــــق : سسسسفرة .. يياسسسسللام .. نننحتاجإلللىسسسسفرة .
فهيــــــــــم : يا رباه ما هذا العالم الذي يحيط بنا .. مترجم آخر يكون أفضل .. للكلمات المتقاطعة ..
أطـــــرش : ألله أحب الكمامات المترصعة ..
فهيــــــــم : نريد الخروج من هذا العالم ..
( يحاول الجميع الحركة ومقاومة التيار عبر تركيبات جسدية يجر بعضهم بعضاً في صراع مستمر يوحي بوجود قوة جاذبة تمنعهم من الخروج عبر دائرة مغلقة لا يقوون على اجتيازها ) .
ثقيل النطـق: أأأأكاددد .. أخخخخ .. اخخخخ .. أسسس ( يسقط ) .
فهيــــــــم : ثقلك تضاعف يا هذا حتى فقدت توازنك ..ما بال اثقال ثكالى الجوع وبقايا ممسوخي العالم .
( أرى اني الوحيد في هذا المكان لا أحد يشبهني .. لا احد يشبهني بعد ..)
(موسيقى يتخللها ضربات صخب وتداخل ايقاعات طبول يتفرق على اثرها كل واحد على جهة من خشبة المسرح ومعلقة في رقابهم حبال تتدلى من أعلى رقابهم تقارب خصرهم )
فهيــم : لم كل هذا الخوف .. مقيدون بآهات وتجرون خيبات العمر بلا مأوى .. ألا يوجد ما يمنع ..؟.
اطرش : ( يتأمل وكأنه رجع له السمع ) يوجد ما يمنع ( يصرخ بصوت جهوري وكأنه تذكر شيئاً أعاد له تلك اللحظة ماضٍ مؤلم ) جاثمة على صدري تلك القصة، أصوات قناباهم ترعبني.. صرخات الموت تلاحقني.. هل قادته إلى مضجعها أم قاومت تلك اللحظة التي أطلق رصاصته فيها؟؟  قاومت.. بكل ما لديها من قوة دفعت..هل دفعت نحو الاعلى أم نحو الاسفل !!  ياه … كانت بين يديه حانية حبيسة تلك اللحظات الحرجة.. هل كانت لحظات حرجة ؟؟ رصاصته تشهد ان الوضع مريب.. اقتحم مخدعها بلا رحمة وسرق عفتها.. أتذكر انها همست لي وكان آخر ما سمعت ( كان لعفونته رائحة خنزير بري أهوج ، ألقى بجثته المثقلة بشظايا الحرب على رقتي ، رائحة الحرب تفوح من فيه لا يقوى على مقابلتها بشر ، وحشي هذا الخنزير الماجن ، كم كانت ملامحه تقتل جمال أنوثتي وبدت واضحة ملامح جسدي تتكسر كخشبة محترقة دثرها الزمن . أطلق رصاصته البشرية بوحشية ، حملت ملامحه الدموية .. كان دميم المنظر .. لا أقوى على ردعه ( بكاء) .. هل كان بجثته يلاحق فتاة مغتصبة ؟؟ هل ما زالت تحلم بعودة فارسها ليخلصها من هذا الجاثم فوق انوثتها ؟؟ ما زلت أحلم بتلك الليلة السوداء وقساوتها .. بدت هادئة بعد عاصفة هوجاء وصخب الحرب.. لم تبرح سريرها المدنس بالرذيلة..ولدتُ أطرش من أطرش وتلاحقني لعنات الاطرش صرت أكره كل وجوه الحرب..لا شيء سوى البكاء ..
فهــــــيم : ( باستغراب ) أنت احد الذين تلوثوا ؟؟؟ .. (صمت )..
اطرش: (يسمع بوضوح) أنا وصمة عار حملها زمن الحرب ورذيلة جندي قاد نساء القرية إلى الاغتصاب..لابد أن (يصمت).
فهيـــم : ما ذلك الصمت الذي يطبق على المكان ؟!! يبدو أن الخروج عسير..نريد الخروج إلى عالم آخر (يتوجه إلى الابكم) هل تريد الخروج ؟؟
أبكم : ( كأنه يعود إلى زمن ماضي في رواية قصته .. يتأمل المكان جيئة وذهابا ) ما زالت تلك الايام توقد ناراً في قلبي..كل تفاصيل حياتي شريط.. تمر عبر شريط يتكرر أمامي..لا تريد مفارقة ذهني ولو للحظة.. أحلام وهواجس توقظني من نومي.. كيف أتخلص منها..ماذا أفعل كي أمحو كل خفايا تلك الليلة..أأكون على ما كنت أم ألغي ذاك الصمت القاتل بصرخة..صرت على شاكلته (يتفقد المكان حوله ويتطلع إلى مرآة خلفه يتحسس ملامحه) يشبهني حتى في بكمي.صمتي القاتل جمع ما بينه وبيني..نعم انا هو..هو أنا..كل ما فينا يشبه فينا.. تتشابه حتى بصمات الكلمات..نفس تقاسيم الوجه وتجاعيد العمر القاتل..بنيتنا طبق الاصل..أبكم..كل منا أبكم.. حتى هذه لم تخرج عن صلب إرادته كما أمي..فقد كلانا النطق وصرنا واحدا..ذهب لسانه أثناء الحرب بينما ذهب لساني مع أول رصاصة بشرية ما بين الجدران الاربع (بحزن) لماذا نملك نفس صفات النطق؟ ألم تختلف الامكنة؟؟ كيف يتكون طفل حرام من أول رصاصة بشرية !! هل ركبنا العار بلا ستر ونساء يتوسلن ويضعن تمائم ويدعين ولا يتوانن في طلب العرّاف بعد اليأس من الاطباء ويمسين بلا أطفال..عاقر تلك وذاك غير قادر..يا رباه.. نحن تكون في احشاءها بلا كل تلك الترهات..لم تتوسل وبقيت صامداً بلا هزيمة..أسقط لا أسقط.. أرحني وأسقط.. لا.. نلتصق ولا نسقط ولا نجهض .. حاولت التخلص من هذا المخلوق وذاك العار البائس بلا جدوى . مخلوق ضائع لا يملك من أصله شيء سوى جندي عابر شهوة (ينتكس يجلس القرفصاء) حاولت وحاولت لكن تمسكي في جوفها غلبني..وحملت صفات قذارته وكل ما جثم على صدري طيلة تلك الحقبة.. بقاياه كبقايا قريتنا بعد الحرب، لا شيء غير دمار وعويل نساء وبكاء ..
فهيــــم : ( باستغراب وتمعن ) . يا للهول !! . أنت الاخر احد الذين تلوثوا ؟؟ .
أبكـم : (ينطق بطلاقة غير معهودة) أخد رذائل تلك الحرب وجنودها العابثين بقريتنا (صمت). لابد أن …
فهيم : (يفكر ملياً) يبدو أن الرجس يعود وهناك خطب ما يحدث (يصرخ) نريد الخروج إلى عالمنا الذي نحب..هنالك حقيقة تطغى وتتكشف والماضي يعيد الكرة مرة أخرى.. ماذا نحمل وماذا حلّ بنا ؟؟ (يتوجه إلى ثقيل النطق يتساءل) وهل لك قصة يا هذا ؟؟
ثقيل النطق : (كأنما ينفث التراب عنه يترجل بخطوات ليأخذ جانب المسرح في مواجهة الجمهور ويسرد قصته) أيحق لنا البكاء؟ أنعترف بأننا مهزومون؟؟ الهزيمة وحدها لا تفي ما نحن عليه الان..أطبقت على أفواهنا رصاصة بشرية ولم تفارق مضاجعنا..التهديد يثقل أسماعنا ولا ننطق..ماذا تحمل؟ من أين لك هذا؟ كيف وصلت إلى هنا؟ أين ذاهب ومن أين قدمت؟؟ أين ومتى؟ أجلس ووجهك على الحائط..مشبوه متهم قاتل؟؟ أعصبوا عينيه. لا تدعوه يفلت منكم ضعوا الاصفاد بشكل محكم.. أربطوه..تنحوا الان أفسحوا المجال أريد أن أضع رصاصاتي البشرية أمام أعينكم (يتقمص دور الجندي يضحك بهستيرية يصاحبها مشهد حركي لوضعيات مختلفة وتأوهات) قوتي قوة ألف حصان..بشر على هيئة حيوان..حيوان في مرحلة هيجان.. (يعود لشخصيته) حتى في كلماته ثقيل النطق وحشي محارب ذو عقلية جوفاء لا تملك سوى غريزة حيوان..جثة ثقيلة بلا ثقل جسد مكتنز العضلات يعاني ثقل النطق يطبق على عضلة لسانه صمغ لزج لا تخرج من فيه الكلمات إلا بشق الانفس..ليته يعاني كمعاناته في نطق الكلمات..ليته (صمت) هذا ما كنت وكان ولا أملك غير ذكرى جندي على هيئة انسان خاض الحرب وفكر في رصاصته البشرية بعد غزو القرية..حروب زانية لا عدالة فيها..أكلت منا وقتلت كل الاحلام (صمت) .. لابد أن ..
فهيم: (بعد تفكير) يحمل تاريخ حروب الارض العارات..زيف البطولات لا يتحلى به سوى الرجال..أمجاد وفتوحات..نخرج من هذا العالم إلى عالم ولا نعلم ما هو آت..ربما القادم أفضل ونعيش العمر بلا آهات..الزمن الفاضح لم يطمر حقيقة أمي..أمي رفضت تلك الصرخات وأبت أن تسلك طرق النساء المتخاذلات الخانعات.. أدرك ذلك الجندي الصعلوك بزييه الوحشي قوة وصلابة أمي (يجسد الجندي ويخاطب إحدى نساء القرية) لابد أن أحصل على ما أريد ورصاصتي تعرف طريقها إليك وانا قادر على ذلك (يحدث صراع يحاول من خلاله سرقة عفتها تقاومه بحركات ماجنة..يرجع إلى شخصيته) رفضت حتى تمكنت منه (يسرد القصة بسرعة) على حين غفلة، استلت حربته من جنبه ووضعتها في حجره بشراسة فصلت رأسه عن جسده، وسقط جثة هامدة، لم يرهبها ذلك المنظر الدموي الرهيب  كانت طهارتها بيضاء كثلج يتساقط على قمة جبل..أطلقت لنفسها العنان خرجت مرفوعة الرأس لتروي ما حدث لنساء القرية.. نساء القرية يبكين بحرقة ويلملمن بقايا ملابسهن الممزقة ويسترن بها ما ضاع من عفة. جاءت حاملة رأس المغرور المتجبر قائلة ( أأتركه يغتصبني من دون أن أقتله أو يقتلني ؟؟.). حينها نظر نساء القرية لبعضهن البعض وبدأن يتهامسن وقررن . أنه يجب قتلها كي لا تتعالى بعفتها عليهن..قتلنها..قتلن الشرف قتلن الحقيقة الوحيدة التي بقيت عفتها دون دنس..بقيت أنا الحقيقة.. انا امتداد لحقيقتها التي بقيت من أمي ..
( ابكم وأطرش وثقيل النطق ينظر بعضهم للبعض .. يتهامسون .. يلتفون حول بعضهم ليقفوا يحاصرون فهيم من كل جانب، يلفوا عليه الحبال ) .. أنت الحقيقة الباقية ويجب طمسها ومحو كل خيوطها ما دمت تلاحقنا بعاراتنا .. (يمسكون بالحبال ويضعونها في رقبته ويديه ورجليه ليكون جثة هامدة) ..
ثلاثتهم : لابد أن لا تظهر حقيقتنا .. لابد أن تموت الحقيقة ..

….. ستــــــــــــــــــــــار ….

 
* د. طالب هاشم بدن (22/4/2021)
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت