طوبولوجيا الصمت في رواية أنجيرونا .. / بقلم : د. طالب هاشم بدن
دراسة تحليلية نقدية لرواية الكاتبة المغربية ليلى مهيدرة
معنى الطوبولوجيا .
في قواميس المعاني يذهب معنى الطوبولوجيا ( التوبولوجيا ) إلى دراسة الاشكال الهندسية في علم الرياضيات ، و( TOPOLOgy) كلمة يونانية تتألف من شقين والتي تعني بعلم المكان بعيداَ عن علم الهندسة .بوصف انها تتجاهل الاحجام والمساحات والزوايا التي تمثل القضايا الاساسية في دراسة الهندسة . إذ لا تهمنا المساحات والقياسات والزوايا ، وما يعنينا هو التمطيط والتمدد في الشكل واستمراريته . وننظر إلى الاشكال من زاوية ما يحدث للانسانفي دراسة مقاربة من جانب التنقل والتقولب مع الامكنة التي تتجلى في ثنايا رواية ( انجيرونا ) والحفر في أيامها المتنوعة وهل هي ذات الشكل أم تغيرت ؟؟ .
ضمن نتاجات الادب الروائي الحديث نشرت دار غراب للنشر والتوزيع في القاهرة رواية تحت عنوان ( أنجيرونا ) من عام ( 2021) للكاتبة المغربية ليلى مهيدرة ، وانجيرونا ذكرت في الميثولوجيا الرومانية القديمة تمثل آلهة الغضب يقال إنها أشاعت عبادة الشمس ،إذ يقع عيدها يوم منقلب الشتاء صورت وهي ترفع اصبعها الى فمها المغلق التي ربما تشير عبر حركتها تلك الى الصمت . ويعتقد إنها إلهة تريح الرجال من همومهم وآلامهم وما يكابدون من حزن عميق وهي تطالب بالصمت لتجاوز الازمات بخاصة أيام الشتاء.
إختارت الكاتبة تلك التسمية عنواناً لروايتها لتعبر من خلالها عن عالم قابع في دواخل الانسان مسكوت عنه ، إذ تمهد من الانطلاقة الاولى لروايتها وقبل الخوض في طبيعة الايام نجد ذلك ما كتب في مستهل جريدة الاربعاء المحلية من يوم الثامن عشر من ديسمبر عن نبأ العثور على رجل مغمى عليه وهي بداية حقيقية لسير مجريات الاحداث في الرواية .
شخصية حارس المرآب .
استنطاق الميت لا يجدي نفعاً ، فقد ذهبت الروح والجسد هامد . انها بداية منطقية لما يمر به انسان يمتهن حراسة مرآب لا يعرف مصيره تحت ضغوط وقرارات تكتب على عجالة ، إذ اختارت مهيدرة تلك الشخصية بعفويتها البسيطة لتكون بطلاً لروايتها وعلى وفقها بنت احداث روايتها ، وتلك الشخصية لا هم لها سوى العيش مع معترك الحياة اراد ان يكتب يومياته ممزوجة بحركات وسكنات من يحرس ويتابع دقائق تصرفاتهم وتفاصيلهم بصمت كبير ، بوصفهم شخصيات لا يريدون البوح عن أنفسهم ولا يقوون على كشفها لأحد وهم المتعرين في دواخلهم عن حقيقة ما يظهرون ، وهذا الامر أدعى للصمت الذي قاد حارس المرآب إلى الصمت أيضاً وبالتالي مس من الجنون قد أصابه يظهر مع مرور الزمن بعد وصايا تكررت على مسمعه من أبيه وأمه . برعت كاتبتنا في لغة الوصف التي سخرتها لوصف الامكنة التي زخرت بها الرواية بتفاصيلها الدقيقة ،قادتنا من خلالها إلى سبر أغوار مكنونات الشخصيات وانقيادها في سرد حوادث الرواية المكتظة بخفايا ودهاليز اللغة المفعمة بالاثارة والتشويق ، عبر رسم خارطة من العلاقات المتداخلة واسرارها المتكشفة فيما بينها ، إذ إن كل شخصية تحمل كماً معرفياً عن الاخرى وتستنطق ما وراء الكلمة من تعابير غابت تحت قناعها الزائف المركب على وجهها ، فهناك من يشفق ويكتشف ويحذر وقرار الصمت مريب يتراءى في طيات الوجه و ( عينيه تستنجد بي لأرشده إلى جواب قد يريحه من عذاب الضمير ) . عبارة تلخص لغة الصمت القابع بين تعرجات وجه طبيب نفساني ترجمها حارس مرآب .
أغمض عينيك إذا أردت ان تأكل الخبز .. إذ أن العودة الى الماضي وذكريات الطفولة مبعث إلى التمسك بالتقاليد والعادات التي تراها مهيدرة لغة صمت مفعمة بالحياة في ذكر مناقب الاموات . غير إن تدرج نهاية حارس المرآب تُظهر للمتلقي احدى وسائل الغيرة والدفاع عن حقوق الناس التي للاسف بدت تنحسر في وقتنا الراهن .
تطور آخر .
ان في تنوع صياغة وبناء الاحداث لرواية انجيرونا ما هو إلا وصف يأخذ المتلقي إلى عوالم متنوعة في ايجاد خيارات التطور الديموغرافي لحركة مسار الحوادث عبر تطور تلك الثيمات وتنوعها في الدوران حول نفس الشخصية وتكرارها عبر ممارسة نفس الحرفة الموروثة عن السابق ( الاب ) ، ولطالما تكررت تلك الجملة بصيغ عدة . وفي أختيار المشفى مكاناً لبناء الاحداث ما هو إلا محاولة الانتقال بعوالم الرواية وأمكنتها ، وهذا التنوع مطلوب في نقل الافكار وذهنية المتلقي عبر فضاءات متنوعة للتخلص من الملل اضافة إلى الاثارة والتشويق ، وكسر الرتابة التي ربما تطغى على ذهنية القارئ البسيط لذا عملت الكاتبة على تقويض اماكن نقل الحوادث واختيارها بدقة متناهية . إذ أن انجيرونا انطلاقة في عالم مليء بالتداخلات والتناقضات التي سادها الصمت ، الصمت صار باباً للخروج وهروباً من العدم إلى العدم ومرحلة من القوة والصبر ، سجلت على ورق بشكل متقن وبناء مختلف رصين ترجم بهلوسات مجنون ذيل بكلام لم يكن له وجود ، جاء من العدم وعد مسبقاً ، أستعار صفة طالب تخرج من جامعة تدرس الفلسفة وخرج إلى ثقافة شارع ضاعت تطلعاته وآماله في حراسة مرآب تقولب بثقافة ما حمل من أفكار تنازل بداخله الى حارس خالقاً شخصية مركبة وضعت ما بين الطالب والحارس الحالم بين السيارات وتكاد ثقافة قراءة الروايات والكتب ملاذاً له . إذ وصف ما يدور وطبيعة عشه في تلك المفارقة مع بعض من خربشات الورق التي دونها اثناء مراقبته لجموع السيارات في المرآب .
يوم آخر تحت جناح المشفى .
يبدو أن الفطنة والعناية باختيار حيوات الشخصيات في المشفى دفعت من تدفق افكار ورؤى الكاتبة في الضخ والكشف عن خفايا الامكنة التي استطاع حارس المرآب تناولها ضمن حوادث مرت عليه بصمت ، منها ما يحدث في المشفى من اضافات لمعاناته التي تراكم أثرها عليه ، إذ يرسم لنا بوضوح خريطة دالة على تفاصيل ذلك المكان الذي على الرغم من إنه مبعث راحة وطمأنينة لشفاء المرضى غير إنه بقي يشكل هاجس خوف له رزحت تحت وطأته نفسه وما آل عليه من صمت لغة العيون تحدثه عما يجري فيه وهي الناقلة إلى تلك المأساة بحركات عشوائية تحدث بشكل تلقائي كلما قدم إليه ممرض أو طبيب ، ففي مثل هكذا مكان تقتل الشهوات وتنهار الانفس والنزوات لما يعاني الجسد من خوار ،بوصف إن ما جادت به كاتبتنا من أسلوبيات مفعمة بلغة خطاب جزلة وغزيرة المعاني ، مصرحة بحوارية حوت كل ممتع مشوق أضفت على ذائقة المتلقي حل شفرات وأزاحت عنه غموض وغبار وبدت ناصعة وصوت هادر شرح صراع ومعاناة فقير ظهر في تساؤلات عدة لحياة جل ما أرد منها العيش بشرف وامان ، شخص أدرك لا جدوى الوجود ووجد عالمه يرزح تحت ظلم وظلام وجوع أنهك قواهم وبدت علامات السخط هي الشاخصة تتجلى على محياهم ، إذ إن الحياة معترك لا يمكن أن تكون مجرد ضربة حظ ولابد من الخوض في غمارها وفلسفتها لا تقتصر على الفهم القاصر في المدارس وان الهوة الكبيرة ما بين المرآب وحيازة اجازة في الفلسفة جعلت من شخصية الحارس مختلفة عن سواها لما لها من جوانب ابتعدت عن ثقافة الشارع المعتادة لمثل هكذا مهن . التي شكّلت نقطة تحول في حياته ، اذ ان مزاولتها لعامة الناس يشكل فارقاً كشف المسكوت عنه في مجتمعات تعرت من الداخل وصارت لغة الصمت سائدة هي الحاكم ..
الابرة ليست علاجاً .
غالباً ما تحيلنا الكاتبة إلى الشعور بأمان بين يدي ملاك الرحمة وهي تقودنا إلى المشفى وتدخلنا من أوسع أبوابها لنعاين ما يدور ونتعالج تحت رعاية اطباء وممرضات يقدمون لنا العلاج برحمة . إلا إن حارس المرآب يرى غير ذلك ويراها سبباً في زيادة آلامه وأرقه وتأوهاته ، وما وخزة كل إبرة إلا عذاب اخر يضاف إلى آلامه تحرمه صحبة الليل وترغمه على النوم . وكل ما أمعنا النظر في ثنايا الرواية وجدنا انها تتسلسل في بناء الحوادث وتراكيب الافكار على وفق رؤى ثقافية عميقة تظهر بشكل بنائي ادبي اسلوبي تعبر عن مدى براعة وقدرة الكاتبة واطلاعها الواسع في اختيار المفردة وباقي المحسنات اللفظية من تشبيه واستعارة وصورة ووصف واطناب … الخ . بحيث تحيلنا إلى تصور الابرة والسرير والمكان المحيط ومقتنياته وملامحه . إذ ان حياة حارس المرآبوبحبوحته الضيقة التي اتخذ من بعض الكارتون ملاذاً له في ذلك المكان ما هي إلا عناء وحيرة ودلالة في وصف ما هو عليه من قذارة المكان وضنك العيش تداخلت مع سهر وتعب طيلة ليال متقلبة الاجواء . أبعد عنه عيون المتطفلين على الرغم من انها جلبت له انظار البعض منهم على حسن ترتيبها وصناعتها البسيطة المتقنة ، وكأن مهندس بارع صمم زوايا ذلك المكان لما أوحت لهم من أنها فكرة جهنمية في اتقانها ؛ ما دعت أحدهم يقتحم خلوته ويقحم نفسه معه باحثاً عن صمت آخر يأويه . صار الصمت قناع التصق به ولا يمكن نزعه ، الانسان كائن متكلم حسب تعبير كاتبتنا مخبوء من صمت حتى وصف نفسه إله الصمت . ان الاستماع هو الابلغ وكل ما يقوله القاضي والشرطي وموظف البنك والرياضي يعد مشروع صمت من وجهة نظر الحارس الذي ما فتأ أن يتمالك نفسه في الاصغاء للثرثرة وسماع كل ترهات العالم من حوله . حتى احرص على حراسة ابناء الله المرضى في هذا المكان وكأني عين الله الساهرة على أحوالهم .
عيون لا ترى .
ضمن رحلة حارس المرآب في المشفى يتراءى إلى مخيلته الكشف عن مخطط ما يضمرون له من شر واكتشاف الذوات الاخرى كل احاسيسهم وما يختلج بدواخلهم يتكشف له دون عناء ، صمته كان كفيلاً في حل اللغز المدفون في أعماقهم يجعلهم يثرثرون بكل ما يعج برؤوسهم ، ليمارس اللعبة مراراً وتكراراً عبر سؤال وجواب ؛ ماذا بعد ؟؟ . سؤال لا جواب له ولا حدود ، ربما أرادت مهيدرة ايصال فكرة عمق الصمت الذي تحلت به شخصيتها وما اختزلته من افكار ما برحت تتطور وتتجدد بين حين وآخر مع كل خفايا الزمن المحكوم بالصمت . فمثل هكذا سؤال يتأرجح ما بين جواب بوهيمي يختزل المعنى ويضع المتلقي في حيرة بحث وتأمل من اجل التوصل إلى فك شفرات معانِ عدة لا طائل منها عبر خيالات ديالكتيكية من اجل تنوع الوعي الادراكي الحسي الملموس للمعرفة بشتى صورها . اذ سعت الكاتبة لملمة شمل الرواية وعدم خروجها عن هدفها المنشود الساعي إلى حصر الصراع بصمت شخصياته المتمثل بشكل اساس بحارس المرآب عبر خلق بيئة متجانسة مع المشفى ، فنرى المشفى مرآب والعمارة مرآب والحياة مرآب اكبر ضج به عالم بصمت ناطق كلمات مشبوبة بعبارات رنانة خالية من الدلالة تكاد تكون مشوهة ، وما تبادل الادوار في حراسة المرآب ما بين الاب وابنه إلا محاولة جادة من اجل ديمومة حركة بناء الحبكة وتنامي الصراع ليصل إلى العقدة ، حتى بات الصمت كائناً جاثماً على انفاسه ، ولا ننكر إن الكاتبة اجادت في وصف الحياة بصور متعددة واحالتنا إلى العيش مع كل شخصية منقولة عن حارس مرآب اسبغ عليها طابع الدهشة والاقناع عبر تعدد الاقنعة التي تزيت بها وصولاً إلى قسوة النساء وكرههن وما حدث له مع زوجة الفقيه جاره مبعث فخر واستغراب وبنفس الوقت حيرة ما تظهر وما تبطن من تصرفات حتى في حق زوجها التي تكاد تنتقم من قهره ظلمه ، يخالطه رسم صورة والده الذي قضى عمره محافظاً معتدلاً فيعمله وتصرفاته وخلقه يمشي مع ظله ليتدبر مصاعب الحياة ومصروف البيت ويوازي ما بين قساوة الحياة وقلة دخله المحدود ، احساس طالما شعر به الابن وبدأ يتلاشى مع الزمن وتلاشي أحلامه بعد تخرجه من الجامعة .
شمس جديدة .
بزغت صورة جديدة في ثنايا شخصية حارس المرآب عبر شمس اشرقت وبادرت الى خلق علاقة تواصلية توافقية في صورة هيمنت على المكان واعطت تلك الصورة دراما شمس وحارس بمنظر لم يكن على وفاق معه وبتلك الضبابية تكون قد اسدلت الستار على دور الشمس واهميتها عند الانسان في نظر ذلك الحارس المصاب بمس من الجنون ، إذ إنه عشق الظلام واختار ان يكون ارتباطه به مع الصمت وشكل انبعاث راحة نفسية وهو عنوان لعزلة اختار الاختباء تحت عباءتها متخفيا عن الانظار . بوصف إن الثقافة العالية والتنوع المعرفي لكاتبتنا ادخل في ثنايا الرواية حوادث جمة بتركيبات وانتقالات جمة كان لها الاثر الواضح للمتلقي في اثارة التشويق وتتبع احداثها وما ستؤول إليه تلك الشخصية ، فحكاية الفيل نيلسون التي اضافت لها ابعاداً جمالية معرفية وتنوع الاسلوب ولغتها المنمقة كل تلك جعلت من ذلك البناء متراصاً شامخاً اقترن بشخوص ( الفيل ، الحارس ،البدين ) وهي تجسيدات لمراحل من الالم والمعاناة تكمن في وصف وخيال وتصوير مشاهد من الخوف والرعب عاشها ويعيشها كل يوم حارس بين جدران كارتونية يمكن أن تتلاشى مع اي ريح ؛ لا تتجاوز مساحتها متر مربع وصفها بالعشة التي تأويه وعالمه الليلي الذي يضفي عليه عتمة ومتعة .
بحبوحة أمل .
بين حين واخر تبحث الكاتبة عن بريق أمل ونقطة تحول تحدث من خلالها إنطلاقة جديدة في اضافة تفاصيل مشوقة وهي نقطة تحول يجدها المتلقي في تعزيز روح الرواية وقوتها ، فمظهر الاثارة يعد من أجل التشويق التي نعمت به تفاصيل انجيرونا ، اذ ان شخصية الاب هي صورة لحارس درس فلسفة لكنه غُيب مع مرآب لا يعدو كونه جليس شارع لا يقوى على التفلسف وبيئة لا تتناسب وصفت بأكوام من حديد جمع اموال بطرائق شتى وصفف ليكون جمع من سيارات فارهة قديمها وحديثها يتبختر كل من ركبها وينظر إلى الناس بنظرة شزر وتعالي ثقيلة على الفقراء . يد الام ظلت متشبثة به تنتشله من هواجسه والعكس ،الامر الذي عزز من أمل التقرب فيما بين عائلة تشكو الفقر والعوز بعد فقد معيلها الاساس المتمثل بالاب . الصمت والضجيج سيان لا فرق ان اجتمعا أم ذهب أحدهما فكل له وقع حتى صارت شخصية حارس المرآب تستوعب كل الاصوات ولا تتكلم ، الام لا تمل الكلام وتكرر ما تقول على مسمع ولدها فيما هو صامت ، مراحل من الاستذكار والاسترجاع لطفولة وذكريات ولت واكل الدهر عليها وشرب ،على الرغم من أنها ربما تكون ذات فائدة بحنان وصدق مشاعر تهز فينا مشاعر نوعا ما ؛ إذ كم منا يحتاج إلى طفولته وبخاصة عندما يفقد اشياء ضرورية ثمينة ، ولابرة تلك الابرة التي وخزت جسم الحارس سرقت كل احلامه ووأدت فيه نشوتها .
عناوين مبعثرة .
في تحول مهم وواضح ملفت للنظر أقدمت مهيدرة على الغوص في اختيار صالة المشفى وتنوع الاحداث خارجها ، إذتنتقل بين وهلة واخرى الى وصف وتعبير صوري للامكنة بعناوين مختلفة ( مرآب ، شقة ، عمارة ، دار الام ، الاب المفقود ، بيت من كارتون ) . ومحط هذه الانطلاقة اما سرد أو حلم أو غير ذلك لما لها من حرية في التعبير عما أجادت به قريحتها الجمالية لذلك التنوع ، إذ ان للابواب والنوافذ ادوار لم تتركها جامدة رسمتها بعناية ودراية فائقة تحت عناوين مبعثرة لغتها الصمت . وتبقى كلمة لا ادري هي الشاخصة في هذا الصمت القابع على عالمها المترامي الاطراف. ومن الملاحظ ان الاسهاب فيالوصف والسرد قد أثقل بعض مفاصل وثنايا الرواية وبخاصة في سرد حارس المرآب لصمته ومعاناته إذ نراها قد تكررت على الرغم من ان هذا التكرار لا يؤثر في البناء العام للرواية .
تمضي الايام .
ضمن يوميات حارس المرآب المتعددة سردت كاتبتنا مجموعة افكار وطرحت قضايا عدة قل ما يمكن وصفها بأنها جوهرية تجسد معاناة مجتمع لا يدركها ولا يشعر بها إلا من خاض عالمها وتجاربها القريبة الشبه من حياة عدد غير قليل من الناس ، فحياة الحارس هي حياة العامة من الفقراء والمشردين اختارت الكاتبة التعبير عنها بصمت منذ انطلاقة روايتها حتى النهاية بلغة اسلوبية لغة السارد العالم بكل شيء عن طريق ايام حاضرة في مخيلة عدد غير قليل من الناس ، غير إنها عصية على سردها من قبلهم . شكل موت الاب انعطافة وتحول ونقطة فارقة في تصاعد ذروة الحدث وتنامي حركة الحبكة في الرواية حتى الحل وتلاشي حوادثها تدريجياً تجلى في ما وصل إليه من قدر الموت ومن أجل الاستمرارية انيط الدور للابن وهذا القدر سخر بعد أن نسج خيوطه حول رقبة الابن ، و\حتى علاقته بمن يحيط به صارت هامشية لا ترقى إلى مستوى طموحاته وبدأ يكتشف الهوة بينه وبين محيطه حتى حال به الزمن إلى مشفى الامراض العقلية تحت مسمى ( هذا ) الذي ربما وجد التفاهم مع عالمه صعب إن لم يكن مستحيل .
ألابرة الاخيرة .
ما أن نغادر يوماً حافلاً بالاحداث والسرد القصصي حتى ندخل في يوم مفعم بالمفاجآت . إذ اختارت مهيدرة سلسلة جريان الاحداث مع الايام التي يرقد فيها حارس مرآب مشفى الامراض العقلية للتعبير عن عالم مليء بالتناقضات والصور المقلوبة وكأنها تريد أن تقول ( خذ الحكمة من أفواه المجانين ) بحكايا متنوعة وأسلوب أدبي رصين ، وهذا الذي أخذتنا به تلك الرواية عبر عوالم من الصمت الناطق بالاحداث ، فكل الكلام قيل بصمت وايماءات غائرة بحوادث غرائبية تناولت جراحات حارس تبنى العالم عن عمد وأدرك قذارته من تعامل بعض سكان العمارة ، فشخصية تلك المعلمة الانيقة صاحبة القفازات التي تقار الاربعين من العمر زوجة صديقه الموظف في البنك الطيب تراءت له في غرفته تكيل عليه بعض من الكلمات تكرهه معتقدة إنه يعرف سر خيانتها ،ولا زال يسمع كلمات هنا وهناك من الطبيب يرشد الممرض ونصف الجرعة من الابرة تنتظر سريانها في جسمه الذي بدا نحيلاً صار مثقلاً على الحركة وكأنه مكبل لا يقوى على النظر والحراك حتى غاب عن الوعي ..
نهاية مجنون .
جاءت نهاية الرواية كبدايتها في خبر نشر في صحيفة ، إذ أبقت كاتبتنا نهاية روايتها في تساؤل الممزوج بالدهشة وبقي حارس المرآب قابعاً في مشفى الامراض العقلية وما اضافته كاتبة الرواية هو عنوان نشر في جريدة محلية عنونت خبر وفاة مفاده : نهاية أسبوع مأساوية .وسردت ببضع اسطر نهاية أحد الراقدين في المشفى المحلي للامراض العقلية منتحراً دون التطرق إلى تفاصيل أكثر دقة عن اسم المنتحر وكأنها تريد أن تقول إن الصمت لا يبوح عن نفسه حتى في الاسم ويبقى على المتلقي ان يختار نهاية لشخصية عبرت عن المها بصمتها بين حجرات المشفى ومرآب فاحت منه روائح بشرية مقيتة ، وبذلك تكون قد أسدلت الستار على شخصيات عدة وكأنها تحاكي عالم مليء بخفايا مكشوفة واسرار عارية يعرفها القاصي والداني عبر تداخلات هزت اركان العالم بعريها المفضوح وغير القادر على البوح عن مكنوناته حتى بالخفاء ..
لا يزال تحت المراقبة كل صمت …