اشتباك الدلالة الجمالية وتعدد التأويلات في عرض اشتباك للمخرج الدكتور حازم عبدالمجيد / م.م.حيدر علي الاسدي
قدمت كلية الفنون الجميلة في جامعة البصرة عرضاً مسرحياً بعنوان ( اشتباك) ضمن مهرجان العراق الوطني للمسرح والمقام في بغداد، وهو من تأليف وإخراج الدكتور حازم عبد المجيد ومساعد مخرج الدكتور معيبد العيساوي والتأليف الموسيقي الدكتور علي مشاري وتمثيل ( علي عبدالحسن ضهد، سجى ياسر حسين) وتقني موسيقى (فاطمة علي واحمد سعيد) وبصراحة هذا العرض من انضج العروض العراقية التي يمكن ان تشاهدها في السنوات الأخيرة ، فهو عرض يهز الوجدان على مستوى الأداء والتقنيات والحوار ، وليس غريباً على المخرج الجمالي الدكتور حازم عبد المجيد فهو يختار موضوعاته بعناية ويؤسس لرؤى اخراجية غير تقليدية ، وهو ما يمكن ان تتلمسه في عرض (اشتباك) ابتداء من التأسيس اللوني لفضاء الخشبة من خلال (الإضاءة ) وجمالياتها واتساقها مع اختيار اللون في الزي والمتناغم هو الاخر ضمن نسق الحالات الشعورية للممثلين ، والديكور وبناء علاقته مع أداء الممثل من جانب اخر ، وجمالية هذا المدلول تتمثل في التحولات التي جرت خلال سير المشاهد المسرحية ، مع الموسيقى الحية المعبرة عن تلك الحالات والمتناغمة معها بالتأكيد ، حتى انك تشعر كمتلقي ان هارمونية التجسيد الموسيقي يتسق مع حدة ( الاختراق) و ( الاشتباك) وتتصاعد وفقاً لهذا المتغير الشعوري في أداء الممثل النبرات الادائية ، ومن خلال بنى نص العرض والمسطور الجملي تتمظهر امامك دلالة العرض المسرحي (سامكث الليلة هنا …..في عالم انس لا يعرفون أسباب الوجود) اشتباك الصراع الحواري ما بين نقطتي شروع الفكرة المسرحية ( هو ، هي) (علي ، سجى) انما كان يفضي لثنائيات أراد المخرج الانطلاق منها لتأسيس فكرة العرض المسرحي انطلاقاً من وجود زائر ليلي (دخيل ) (لما انت هنا….هذا بيتي) من هنا تنطلق بؤرة التأسيس فثمة دخيل (زائر ليلي) وثمة امراة ( تعيش في وطنها / منزلها) فكرة الاختراق هذه ستؤسس لاشتباك معرفي جمالي قائم على ايمان واعتقاد مؤلف النص بان ما يجري من ارهاقات وتمظهرات دنيوية قائمة على اعلاء الدخلاء لنرجسيتهم بوصفهم اوصياء على أبناء الوطن ما هو الا قتل ، قتل للاخر والنفس ، مع ادانة واضحة لابناء الوطن والموشوم (بالحطام) فقد احيل من وطن (لحطام) (تخلفكم السبب ….نسيانكم الرب الماضي البلادة ….) وضمن هذا السياق النسقي تسبر الفكرة المسرحية لقضايا متشابكة ، فكرة التراث ، الرب ، المحتل ،الشيطان، الدخلاء ، الوصايا ، الموت الذي نتلقاه دونما سبب ( كل شيء لديكم اتربة ودخان) فكل شيء لدى ارباب هذا الزائر هو ( موت مجاني) يمنح لنا منذ سنوات ، وهو الذي أحال الوطن الى وصيره (حطام ، مجرد خرابة) منطلقاً من تاثيث دلالي داخل بنى النص المسرحي وفكرة الدار (الوطن) والذي لم يعد بيتاً فوجود الزائر ( يفزع الجميع)، ورغم ان المراة صاحبة المنزل (الوطن) بدت في اول الامر متلفعة بعباءة سوداء منحنية الظهر متكئة على خشبة (دلالة على الإرهاق من شظف العيش) او اشتباك (ما هو سطحي بما هو مضمر) ما هو معلن وما هو جوهري ، الا ان الوجه الحقيقي للوطن تمظهر بعد ذلك (بفتاة مجابهة للزائر بندية كبيرة) اذ ان المشهد الذي انتزع منها الزائر الغريب (عباءتها ) مشهد مبكي مع الصوت الشجي القادم من خلف المسرح ( لفاطمة) أضاف شحنة عاطفية درامية كبيرة على العرض المسرحي ومنها بدأت الانعطافة والتغيير ، وبالتأكيد ساعد ذلك الأداء الأكثر من رائع لعلي وسجى ، فمن يشاهد تعابير وجه علي عن قرب يدرك انه ممثل مهم وخطير في الوقت ذاته ، فهو متفاعل تماماً مع الموضوعة المسرحية ومع فضاءات المسرح ومع التحولات التي تجري داخل الخشبة ،
صاغ كل ذلك مخرج ذكي يعمل بفرادة في تأسيس كل مفردات عروضه ، فقد واكبته بعروض أخرى (حداد الليالي الثلاث ، رماد) وغيرها فيترأى مما يقدمه ان لديه مشروعاً لنبذ المجتمع الذكوري والاطاحة بتراثه الفكري البالي وإعادة المكانة الحقيقية للمراة ولكن ليس على وفق رؤى سطحية مباشرة ، انه يؤسس لانطلاقة جمالية معرفية تتغير فيها المفاهيم الخاصة داخل بنى النص الى العامة ، وهذا الاشتباك الدلالي شاهدناه كثيرا في هذا العرض المسرحي وهنا تكمن عبقرية وذكاء المخرج والمؤلف معاً ، اذ برزت اللغة بصورة رشيقة شعرية معبرة بدلالات متنوعة ، وسط الأصوات المتشابكة داخل انوات (البطل، البطلة) والتي تخرج كصرخات لانوات خارج سرب المنصة او لم يتسنى لها ان تقول ما في داخلها ، وهنا تكمن أهمية المسرح وذكاء المؤلف، والذي بنى نصه على حوارات قصيرة وتراشق حواري مؤسسا لثنائيات (الشر، الخير) (الرجل، المراة) (الانا ، الاخر) (الوجود ،العدم) محافظاً بالوقت ذاته على اسباغ الجانب الجمالي التقني لهذه الحوارات عن طريق ( الموسيقى ، الضوء ، وما يمكن ان تحدثه للابعاد السيكولوجية للشخصيات) وهو الامر الذي الذي جعل الجمهور يتعاطف كثيراً ويصفق طويلًا لهذا العرض لانه يحمل كل صفات (المعرفة ، والجمال) فالمخرج اشتغل على تاثيث كل مفاصل خشبته حتى تلك الصرخات (خلي اصرخ) من الصوت القادم من الخلف يصاحبه ( إدارة وجه الممثلة للعالم) والدعوة للاشتباك معاً ، وفقاً لفلسفة دلالية قدمها المخرج بصورة الوخز الايقاظي التحريضي ، ياله من جمال يهز الضمير ويوقظ فينا ادراك عظمة الفن في تقديم رسائله الكبرى.