شايلوك يعود من جديد في مسرحية "حدث في كل مرة" / قراءة تحليلية للدكتورة جمانة الحاتم

ضمن عروض مهرجان العراق للمسرح الوطني . تأليف عمار نعمة جابر واخراج علي عصام

 
يخلق التكثيف الدلالي الجو العام لعرض مسرحية (حدث في كل مرة). اذتتمحور المسرحية في صلب الموضوعات  التي تدخل ضمن التنشئة الاجتماعية والتي ينحدر منها الفرد حتى يصبح فردا صالحا في المجتمع وينتجاسرة وهو واقع مألوف, اذ تتبلور حبكة  مسرحية  على ثلاثة شخصيات رئيسة (الزوج-والزوجة-والخادم ). الا ان النسخة المسرحية الاصلية للكاتب (عمار نعمة جابر) كانت ترتكز على الشخصيات على النحو الاتي (الزوج–الزوجة –واربعة من الخدم) هذه الاسرة تفتقر الى التجديد والتغيير وتخيم عليها عوامل الرتابة والملل وتعيش نسقا من البحث عمن ينقلها الى مسار اصيل ، وقد اسقطها على الجانب السياسي بتنفيذ عقلية المخرج الشاب (علي عصام ) ، الزوجة التي مثلتها ( بدور العبدالله ) ترغب بأنجاب مولود جديد فيما الزوج ( احمد محمد ) يرفض ان يقع في فخ الازمة الاقتصادية والصحية التي اثقلها ضنك العيشوالوضع البائس الذي انهك الاسر في وطن تهافتت عليه الازمات من كل حدب وصوب.
وبما ان الشخصية على المسرح تتجسد وتتبلور الى حدما للسلوك اذ يرى (ارفنج غوغمان ) احد علماء النفس الاجتماعي على ان سلوك البشر هو تمثيل ادوار او نوع من اللعبة. اذن الشخصية هي اداة معبرة عن تلك السلوك .والسلوكيات متنوعة سيكولوجيا. وهذا مقدر حسب البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها. فقد اجتهد المخرج بمسرحيته (حدث في كل مرة ) في استخدام الاضاءة بمعادلات وجماليات بصرية برؤى متقاربة الافكار مع تصميم الفنانين كل من ( علي سلمان وليث عبد الكريم )  فقد كانت معبرة عن الحالة الشعورية لكل مشهد وكان لكل مشهد ارتباط دلالي واشتغالات خلقت جوا يتناسب مع الفعل للحدث منذ الوهلة الاولى عند سماع اصوات عجلات الرتل والاليات العسكرية. اذ كانت العتمة تسود المسرح وفي الوقت نفسه دلالة الظلام على تربص عدو متخفي. كذلك مشهد احتساء الخمر ومشهد السرير  الذي لوح بالغطاء كعلامة مقروءة ذهنيا تعنيم خطط مبيت, صوت الموسيقى شابه خلل ما ربما غير مقصود حسر بعض اللحظات الجمالية لذائقة المتلقي المعرفية. وهذا قد لا يحسب خلل في التقنيات .
مشاهدتي لعرض المسرحية عن قرب فقد ركز المخرج في عرضه على شخصية الخادم التي جسدها الممثل ( احمد الشمال ) (ذات الوجه الممسوخ ) اراد في اظهارها كارزماتي في ديناميكية اللعبة بتسيير امور تلك الاسرة بدهاء عن طريق التدخل المباشر وغير المباشر بقصدية القصدية ومن خلال مخطط بغيض,. ان اللعبة الاخراجية في تقليص عدد الخدم ضمن النص الاصلي كانت مهارة فكرية  ابتعد فيها عن التفاصيل وكثف الجزئيات بحذف ثلاثة خدام والبقاء على واحد فقط, حتى لا يغيب الحوار وتتشتت الفكرة ويضيع التفكير ويجعل من الفعل للحدث اكثر اتصالا وترابطا وتماسكا مفهوم العرض المسرحي للمخرج ثوري سياسي عن طريق ولادة جديدة ،لاسيما وان كلمات تكرار.. تكرار ..تكرار تم تأويلها لذهن المتلقي على نحو (انتباه ..انتباه .. انتباه ..لاقعون  في نفس التكرار والفخ) ، وعلى ما اعتقد هو عنوان سابق لاحد نصوص الكاتب المسرحي عمار نعمة, وهذا تحريك في فنون الكيفية والتحفيز للمتلقي وبالتالي انتاج المعنى المقصود العام ,على وفق تغيير المسار والتركيز على الحوار الذي ذهب بين الفصيح والعامي لكسر الرتابة والنزول عند ذائقة المتلقي كون المتلقي غير نخبوي وبذلك اراد المخرج  بعقل الكاتب محاكاة  عامة المجتمع .
بدء العرض بدخول الممثلة (بدور العبدالله) وهي مستلقية على دبابة ترافقها اصوات المعدات الحربية دلالة على رمزية  الزوجة المسيسة و تمثل القوة الداخلية امام الزوج الخاضع المرتبك نفسيا واجتماعيا واقتصاديا ويظهر في بعض المشاهد شبه فصامي, شبح الخادم وهو يلاحقهما كقرين للذات مهيمنا عليهما ايدلوجيا وسيكولوجيا, متدخلا بتفاصيل حياتهما اجتماعيا واقتصاديا ,بينما الزوجكان واقفا على الجانب الايسر من المسرح, اذ تصاعدت الجدلية حول الاوضاع الراهنة من اجل انجاب طفل لربما من شأنه ان يغير حالهم ,حال الفرد العراقي الذي لا يتغير ويعاني من سوء صار يتكرر في كل مرة .
لا يتوفر وصف.
 
وما ميز المشهد الاول من العرض ( حدث في كل مرة ) ايحاءات بروزصوت الدوي وصوت سرفة عجلة الدبابة بدلالة الانذار على غزو او عدو امام البيت وبالأحرى على الوطن . اذ كان الخادم هو اللعبة المفبركة من قبل القوة الخارجية التي كانت مهيمنة على ذلك البيت ولاسيما عند تهيئة الكرسي الذي اصبح علامة سيئة وممقوتة للحكم السياسي  معززا بالاشارة بقصدية الحوار على لسان (العبدالله )بقولها ( ما كادت الاطباق تلمع بريقها رغم الغسول الممتاز ) فكان لديها ادراك وفهم واضح متموضع بتركيز للحوار من خلال الخيال الخصب والمهارة الذهنية. والزوج يتحدث عن الصور المتكررة في الصحف اليومية في دلالة الجانب السياسي الى التعمق و الا يغالب حال البلد الى الاسواء ، و يوضح مشهد تناول الطعام على المائدة وهو في الواقع لا يوجد اي طعام الا سماع اصوات الاواني مما يحيل للمتلقي الازمة والواقع الاقتصادي السيء.
فحوى الموضوع هو البحث عن معجزة الاهية قد ترفض ذكوريا حتى وان كانت الخلاص وذلك بأنجاب طفل جديد والطفل هنا هو الوجه الجديد في تجربة تغييرية يلفها بصيص امل خافت حيث يفصح مشهد رفض الزوج وعدم تقبله الاقتناع بان توكل اليه عملية الأنجاب , اذ كان الخادم يحد (الطبر) مما يوحي الى نوايا مخفية في ايقاع الصمت فهو لا يظهر بالمخطط وكان متفرجا فرحا مخططا للاشتباك الذي يدور بينهما, صعود (العبدالله) على مائدة الطعام كانت بإرادة الخادم وكأنها تنفذ رغبات مبيتة بتفكير وخديعة مما يعطي تحول الى الواقع السياسي الذي يزج بتخطيط مسبق.
نقاشهما المستمر وهما يتخذان حركة الدوران على بعضهم البعض قد تعطي انطباعا للمتلقي و صورة عن حالة من الفوبيا وبالتالي هي عدم الاستقرار للبلد، الخادم ناولها ايحاءا سكين لتقتل الزوج وسحبها في الوقت نفسه اعتقادا بتقصير زمني  بتفكير هو عقليته المسمومة، و يمثل وبالمباشر العامل الرئيس المسيطر والمتحكم بالوطن فحينما يتحدث عن (الميزانية المالية مقسما الحسابات ويشير الى حسابات الجانب الصحي اي ان هناك لاعب بالنوايا المبطنة فان التقنع والمتظاهر يخفي النوايا الداخلية وهذا ما يذكرني بالمرابي اليهودي (شخصية شايلوك في مسرحية شكسبير التاجر والبندقية) فليس المرابي من يتعامل بالحيلة من اجل المال وانما مرابي الافكار الشيطانية فكان يظهر للشاب (بسانيو) كل النوايا الحسنة ، بينما هناك علة في داخله كونه ليس من دينه فكان الخادم لاعب للدور متخفيا تحت قناع الخديعة على الرغم من ان هناك ملامح لوجهه الممسوخ الذي لا يظهر عليه سوى البياض الخفيف فالقناع ينسجم يحرك الممثل ذهنيا ويعيش الدور داخليا مرتبطا بالشخصية ذاتيا وحركيا وكأن الشخصية قد خلقت له وهذه الانماط للشخصيات من الاقنعة تم ممارستها منذ القدم عبر  العصور المسرحية في الاغريق ومنها (كوميديا ديلارتي) اذ يعتمد اداء الممثل على الخيال الخصب في كيفية التوافق والانسجام وهذا عودا على الصورة المتحركة بين الادراك الحسي والفهم للدور مصورا الخيال ذهنيا مجسدا الدور على خشبة المسرح عن طريق قدرته الادائية التي تمثل الجسد والصوت, اذ سحب (الخادم ) الاوراق من تحت الدرج وكانت تلك الاوراق منظمة وممنهجة مسبقا على وفق ما يرغب اي بعبارات ..( ان المعدة بيت الداء ) وهو يؤديها بطريقة اللهجة الفارسية، واخرى بالإنكليزية تم ترجمتها من خلال الخادم (جوع جلبك يمشي وراك), ان مشاهد حد السكين ولأكثر من مرة اي انها تعني عدم نفاد المخططات المريبة ، فقد كانت الممثلة (بدور العبدالله) تمتلك القدرة الادائية المنظورة  والمنظمة من خلال الحركة والايماءة التي اصرت على اغتصاب الزوج من اجل ولادة طفل مزعوم، اذ تشير دلال الحركة وهي تقف على ظهر الزوج بسياسة وعقلية الخادم الذي كان واقفا مستقيما متفرجا متمكنا من سلامة ما يخفي محولا الصورة الى العيان عن طريق لعبة الارادة البغيضة. وهو يشير الى الصحن  الفارغ الذي يعني الجوع المقصود بينما في يده تفاحة ! فيما ضربته وشطره لمائدة الطعام الى قطعتين يعد هذا تكنيكيا يعكس افكاره من خلال التدخل المباشر في سلوكيات تلك الاسرة .
يعد مشهد احتساء الزوجين للخمر غير موفقا من ناحية الاداء كون ان حديثهما يدل على انهما شخصين غير واعيين بينما طريقة تناول كؤوس الخمر والجو الخاص بالمشهد الذي شهده التنسيق الشاعري و الاضاءة المكثفة للحوار القى بالمعنى للمتلقي، الا ان لدلالات الالوان بترغيب  الزوجة للزوج في تنويع خيارات ملابس النوم مدلولا فكريا عني الشعارات الرنانة والبرامج المزعومة. ان جعل الزوج  المتمكن ادائيا متنقلا في فضاء المسرح بحرية تامة تحت المائدة لهو توصيف فكري على انه هو القوة المهيمنة على ذلك البيت , ووسط تشابك الدلالات جاء مشهد الاغتصاب الذي لا يعني اغتصاب الزوجة للزوج بالتأكيد كونه منظور غير مقبول لا سلوكيا ولا عقليا ولا بيولوجيا ، وانما ازاحة  فكرية وفلسفية تحسب للمؤلف عند البحث في اكوام من الحلول المعقدة في خضم تراكم المعاناة وصوليا ضمن ميدان الاسرة وضمن الاطار الفني المسرحي لعلاقة اجتماعية وهو بالتالي قيمة دلالية لاغتصاب الوطن.
يعد كشف الغطاء للخادم من على ظهر الزوج الذي يظهر فيه وهو مضرج وملطخ بالدم لهو مدلول الحبر الانتخابي واشارة الى اتمام العملية باستباحة ناجحة متقنة , والتلويح في اغلب مشاهده ب( الطبر) افتراضا توجيهيا معرفيا ودلاليا فبدأت تكبر ادواته مع كبر حجم خيبة الامل التي قدرت للعائلة بحيث اظهر الخادم في النهاية (طبر ومنديل احمر)، هذا المقايضة الشايلوكية الثنائية الوحدة والمتناقضة  شكلت الممارسات السلوكية (المخفي الظاهر), اعطى دلالة ان الحبر الانتخابي مدفوع الثمن (بشرط جزائي) اي بمعنى ان العملية قد افضت الىنجاح الخادم مع ظهور الخدام الثلاثة (الاولاد) ما يذهب بالمتلقي الى تساؤل واقع لا محال حول استمرار ولادات لمرابين اخرين قد يضمرهم لنا المستقبل القريب .
الازياء التي ارتداها الزوجان كانت توحي الى العصر الرومانسي وهذه دلالة على ان العائلة كانت تعيش  في قمة السعادة التي ينافيها الحوار المنطوق فيما تم توظيف المكياج البارز الذي يتطابق مع العهد الزمني للزي، اما عن الخادم فتقدم بزي لمايسترو يدير الدفة وتظهر عليه ملامح الشحوب كايحاء على المرض النفسي والعلة الداخلية المضمورة وهو يتسلط في اسكات وتحريك وتقويل فردي العائلة وهي لعبة اخراجية معهودة سبقت التقليدية بمرحلة  ومتقنة في نفس الوقت بتوظيف الافكار ضمن العرض المسرحي.
 
 
 
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت