مسرحية " ميت مات" وتعدد رهانات العرض / جبّار ونّاس
ينطلقُ الفنُ ومنه ( المسرح) من ممكناتِ تعاضده في التواجد الحي والمثمر بغيةَ إيجاد مساراتٍ راجحةٍ تجعل من منافذ ذلك الإنطلاق تحظى بمقبولية المثول الناصع في الإشتغال والتداول والأثر المُتَبادل فنياً وفكرياً وجمالياً وهذه من البديهيات المرسومة في ذاكرة التواصل والإبداع في المسرح، فثمة محدداتٌ صارتْ تأخذُ لها من مساحةِ التصور والبحث والنقد إذ هي محدداتٌ تساهمُ في تشكيل ملامح العمل الفني وتجعلُ منه مرتكزاً للتأمل والرصد والإحاطة من قبل النقاد والجمهور معا بعد أنْ تنالَ تلك المحددات من فعالية التواجد وتُسهمَ في إنضاج عملٍ مسرحي سيأخذُ على عاتقِ منتجيه مهمةَ الإفصاحِ والإبانةِ في الطرحِ والذهابِ مع ممكناتِ ما يراهنُ عليه منتجو هذا العرض ووفق ما إتضحتْ به قناعاتهم والبدء في السير بإتجاه عتبات المراهنة التي سيبوح ويصرح بها العرض المسرحي شكلاً ومضموناً..
وفي هذا السياق لنا أنْ نأخذَ عرضَ مسرحية ( ميتْ ماتْ) من تإليف وإخراج ودراماتورج علي عبدالنبي الزيدي ومن إنتاج وتقديم مشغل دنيا للإنتاج السينمائي والتي قُدمت على مسرح الرافدين ببغداد ضمن فعاليات مهرجان العراق الوطني للمسرح للمدة من 1-7/ آب/ 2021 مثالاً يمكن أن نتلمسُ فيه تلكَ الرهاناتِ التي تم ذكرها في عنوان هذه الورقة النقدية والتي ستنال من فحوى ما أرادت أن تدلو به تلك الرهانات وهي متعددة نراها قد تَحَشَدَتْ في متن العرض المقدم أمامنا ويمكن أن نتحصلَ على ملامح ما فاحتْ به وصارتْ الورقةَ الراجحةَ بيد المخرج والدراماتورج علي عبدالنبي الزيدي وبالمحصلة فإنَّ الزيدي صار يقدم لنا من رهاناتِه التي عوّلَ عليها ليبث رؤاه وما يريد طرحه فكنا أمام ما اراد تقديمه إلينا وقد تعددت عبر عرض مسرحي فاح بالآتي
– بدءاً من العنوان فنحن مع لعب لغوي مارسه المؤلف ليدفع بهذا العنوان عند مرامات الدهشة المبتغاة لتحقيقها لدى الجمهور بعد أن جاء بجملة ( ميت مات) ليجردها من التعريف المفترضِ ظهورُه وهو ( المعرفة) ويبقيَ على طرفِ الخبرِ الذي هو ميدان الوصل لتلك المعرفة ومدار تكملة المعنى المراد والتحصيل المطلوب هو ( هذا ميت مات)..
– ينبري لنا نص المؤلف على بنية الترادف المتقابل والذي يأخذ بحصيلة التكرار حتى يكون الملفوظ الحواري المسرود
وكأنه يخرج بصوت واحد على الرغم من خروجه بصوت ( غودو) وصوت ( مولاي) ليكون الجمهور أمام فعل إحتضان مشترك يمكن إختزال مراحل إتحاده عبر فواصل إشتغال الفعل المشهدي والحواري بين الشخصيتين اللتين تصيرتا تحت سقف واحد للمؤثر ( الخارجي) وهو فعل الإنتظار ومصادر تصيره و( الداخلي) ويتمثل بإنسحاق هاتين الشخصيتين وعجزهما بعدم الحركة والمكوث تحت طائلة الإلتصاق والسكون والقبول بما هما عليه من ملامح الخنوع والتعلل بالعجز والمرض والخوف من المبادرة في التحرك ولو بأدنى الإحتمالات في مساحة مكان تواجدهما..
– ينبي نص المؤلف على متوالية الموت والإنتظار وتلك من مفاعيل الإشتغال التي دفع بها الزيدي لنكون مع تماس ياخذ بنا إلى أجواء ولامعقولية وعبث الكاتب العالمي صومائيل بيكيت عبر نصه الخالد ( في إنتظار غودو) بيد أنَّ نص ( ميت مات) نراه يحفل براهنٍ محلي عراقي وعربي وحتى نراه أيضا يوغل في إستحضار اللهجة العامية العراقية والتي رحنا نسمعها على لسان ( غودو – مولاي) ووصل الأمر لأن نقترب أكثر من حاضر هو أقرب إلينا تمثل بتلك السخرية والتهكم من خلال فواصل ( التحشيش) العراقي الساخر..
وأيضا يصل إلينا فعل الموت كبطاقة إدانة لسلطة كان لها الأثر الكبير في إستفحال وتصنيع وإنتاج ظاهرة الإنتظار وفي هذا مشاكسة جاء بها هذا العرض فأيُّ سلطة هي التي عبر عن وجودها منذ الف عام وأكثر إلهية، مادية، روحية، وضعية؟ وقد تفننت في أثرها المروع والذي تبدى أمامنا في حيرة وخذلان هاتين الشخصيتين الملطختين بالطين وفي هذا تنويه على فاعلية التدمير التي مورست على جسد وفكر ومسار كل شخصية وجوداً وحضوراً مع العلم أنَّ فعل ( التَطْيين) يدلل على مكوث هاتين الشخصيتين في دائرة الثبات وإكتساب بعض من ملامح المتحفية التي كانت قد نطقت بها تفاصيل متن العرض..
– ومنذ بداية العرض المسرحي كان يظهر لنا إصرار المخرج الزيدي وهو يراهن في طرح طريقة عرض مسرحي تتبنى المغايرة بعد أنْ إعتمد على بنيتي الإلتصاق والسكون حين جعل من مساحة الحركة للمُمَثِلَين في مدار يتسم بالثبات وهذا يجعل من هذا العرض أمام تحد شاخص وفاعل يتمثل بقدرة فاعلية الإيقاع لِأنْ تبقى تتوازن بقابيلة تمسكها وعلى مدار زمن العرض الذي إستغرق أربعين دقيقة وقد كان رهانا ناجحا يُحسبُ من العلامات الفارقة التي تمخض بها هذا العرض وقد إرتبط فعل الإيقاع والإلتصاق والسكون ليكونوا عتبات راشحة لكمية الملل التي وجدناها راهية ويكاد الجمهور يتلمسها عن قرب بعد أن نجح فعل الإخراج وهو يجعل من فعل الملل يتصير جماليا أجبر الجمهور الحاضر على إستقباله بمقبولية التمتع والاريحية
– ينجح هذا العرض في تقديم منظومة عرض تمثيلي تكافلت لِأنْ تكون من أهم الرهانات التي حرص فعل الإخراج على أن يكون لها نصيبٌ في الإلتماعات التي قُدِمَتْ وقد حظيت بفاعلية التواشج الحي من قبل الجمهور فالممثل ( محسن خزعل) راح يسحب من ملامح التصوف في الاداء والتنسك المعبر عنه في حركة الرأس والجسد والوجه الطافح في البروز وكان له من مثابات الثناء التي أهلته لِأن يُرشحَ لجائزة احسن دور أول في المهرجان يقابله في الحضور الممثل ( مخلد جاسم) والذي اخذ على عاتقه ثقل الحضور الواقعي والتفرد في التقرب من الأداء الشعبي المكتنز بسلاسة التعبير ويقابلهما الممثل ( تحسين داحس ) والذي أُنيطت إليه مهام متعددة منها أنه حارس للمتحف وأيضا هو مبعوث لتلك السلطة التي تمارس فعلها من خلاله حين جاء بالدريل والمسامير ليعضد من فعل الثبات القسري وربط كل شخصية بجدار المصطبة التي تجلس عليها وكذلك في فعل عامل التنظيف حين إبتدأ بها مشهد الإستهلال وهو يحمل المكنسة الكهربائية ليدفع بالاتربة ويقول بخواء ومتحفية هاتين الشخصيتين ولابد من إزالتها ورفعها من هذا المكان وكذلك في تمثيله كممثل لتلك السلطة حين جلس بجانب الشخصيتين في المشهد الختامي ليُعزز من فاعلية السلطة التي تحكمت وكان خيار الموت من قبل الشخصيتين تعزيزا وإثبات لمقدار اثرها السلبي والمدمر..
– تبدو النهاية التي آلتْ إليها أحدات وتفاصيل هذا العرض غير مؤهلة لِأنْ تحوز على نفس المرتبة من الدهشة والإثارة التي حصلت عليها مفاصلُ وعتباتُ الإشتغال الفني بدءاً من ولوج نص المؤلف وصولا إلى إلى إختيار شكل طريقة العرض وإلى مخاضات التمثيل وكنا نعول على نهاية تأتي متزامنةً من فعل إستحضار الشخصية الثالثة بوصفها تحمل من أسرار وبراهين السلطة التي قَدِمتْ لتؤدي وصاياها وفروضاتها على بنية العرض الكلية..
– تبقى سينوغرافيا العرض التي تكفل بتنفيذها وتصميمها الفنان علي السوداني حاضرة في ذاكرة الجمهور بعد أن مال إلى مفردات بصرية أخذت لها من البساطة والوضوح وساهمت في أعطاء المحمولات الفكرية مساحة مضافة في تعزيز قيمة العرض فكريا وفنيا..
ولعل مفردات ( المكنسة الكهربائية – الدريل- سطل التنظيف – النعول التي لبسها الممثلان – باقة الياسمين – العوينات – الحقائب الصغيرة) كلها ساهمت هي الأخرى في تفعيل المسار الذي يمكن أن يتمظهر عليه مضمون العرض ويضاف لهم أيضا المسامع الموسيقية التي نفذها الفنان ناظم حسين حين أتى بتلك الأغنية العراقية ( الهجر مو عادة غريبة) لتُؤدى بصوت يعاني من الضيق والإختناق وكأننا بهذا الصوت ينده للتنويه أو للفت الأسماع إلى حالة أو وضع غير طبيعي تعزز لنا لاحقا بصوت إدارة المتحف والجهات العليا وكذا الحال مع دور الإضاءة بتنفيذ الفنان علي المطيري..