نص مسرحي: «أخيراً سنلتقي»/ جبار القريشي

مسرحية مونودراما..

 
الخطاب المسرحي
(المسرح عبارة عن زنزانة قذرة، نافذة بقضبان حديدية، ملابس وحقائب أغراض معلقة بفوضوية على مسامير مثبتة على حائط منقوش عليه كتابات وأسماء أشخاص وصور قلوب نبتت بها سهام وعيون باكية، نقالة ملقاة جانبا عليها آثار دماء متيبسة، سوطين معلقين قرب النافذة يتدليان نهايتيهما تلامس النقالة.).
الفعل المسرحي..
(المسرح غاطس في قرارة ظلام مطبق، بقعة ضوء تظهر لنا جسد شبه عاري، مسجى على نقالة، تغطيه بقايا ملابس ممزقة ومدماة من كل انحائها، كأنه خارج لتوه من جوف حريق هائل.
يتحرك الجسد ببطئ، يتحامل على نفسه ليجلس بمصاحبة موسيقى وايقاعات تصدرها مؤثرات صوتية، يكثر الرمش، ثم يفتح عينيه بصعوبة، يتفحص بانزعاج واضح ووجه مقطب وعبوس جسده المدمى وآثار التعذيب الواضحة عليه، يتألم وهو يلمس جراحه، يتأمل الأشياء من حوله، يبدو عليه وكأنه يعاني بين لحظة وأخرى من نغزات ألم مفاجئة، كمن يتعرض لصعقات كهربائية متعاقبة.
فجأة.. ويمسك بطنه ويشد وجهه، كأن نوبة مغص داهمته، يلقي نظرة اشمئزاز الى مكان التبول المكشوف داخل الزنزانة والذي يسمى(عنقرة) في مصطلح السجون.
يمشي نحوها ماسكا بطنه، محني الظهر، يرفع قدم وينزل أخرى بحذر تحاشيا لأن لا تصطدم بأحد الأشخاص السجناء الغاطسين في جوف الظلام، والنائمين معه في الزنزانة.
وعند العنقرة يقف، كأنه يفتح حبل سرواله، ثم يجلس متقرفصا، مع حرصه على عدم إحداث أي حركة من شأنها أن توقض أحدهم وهو في هذه الحال.
بعدها يقف ويعيد ربط حبل سرواله، ويردد هازئا وبصوت خفيض، وهو يبتعد عن مكان التبول)
إنها حقا مسخرة..النوم جنب العنقرة. مسخرةٌ..مسخرة..مسخرة.
(يقول ممتعضاً..)
كم هو مؤلم ومؤسف جدا أن يتجرد الانسان من حياءه تحت القهر والاكراه فيضطر لكشف عورته أمام أنظار من هم حوله.
(ينظر الى ما حوله كأنه يتأمل باقي السجناء وهم يغطون في نوم عميق، يهز رأسه بمرارة).
كم مرة تمنيت الموت على أن لا أُتعرض لموقف كهذا، وأنا من تربى على قيم الحياء والمروءة، تمالكت نفسي مرارا قابضا على أمعائي كمن يقبض على جمر، منتظراً الى حين يخلد الجميع الى النوم، غير أني أضطر أحيانا وعرق الحياء يتصبب من كل أنحائي، فالأمر خارج عن ارادتي. كثيرا ما أجبر نفسي على الصوم عن الطعام والشراب من أجل أن لا أتعرض لمثل هذا الموقف المهين خصوصا عندما يكون الجميع في حالة صحو. حتى أنني أشعر بالجوع والخواء.
(يفتش حقيبته..المعلقة على الجدار).
منذ البارحة ولم تدخل معدتي لقمة طعام واحدة، إنها فارغة إلا من عصاراتها، لا أدري كيف داهمني المغص!؟. بالأمس تكرموا علينا بكسرة خبز يابسة وحساء باهت، لتبدأ كالعادة بعدها بدقائق حفلة تعذيب صباحية.
( بوجع عميق..ونغمة تعكس حالة الألم التي يعاني منها..)
حفلة تعذيب مروعة.. ليتكم لا ترونها، إنها موجعة بحق. جولات تعذيب نفسية وجسدية لا يمكن لمخلوق أن يتحملها، لقد عشنا فصولها المروعة، وعندما تروضت  أجسادنا ودب فيها الخدر لم نعد نشعر بلسعات سياطهم، حتى ظنوا أن ذلك تحدٕ منا لهم، فجن جنونهم، وأصدر كبيرهم أوامره بحرماننا من وجبات الطعام لبقية اليوم.
(يقترب من الأسماء المنقوشة على الحائط…يتأملها لبعض الوقت. ثم يلتفت فجأة كأن شعور بالثورة على الواقع المأساوي الذي يعيشونه سرى في جميع أوصاله، فراح يخاطب رفاقه السجناء الذين ما زالوا يغطون في نوم عميق بلهجة القائد الذي خاطب جمهوره)
كفاكم غثيانا، انهضوا من سباتكم. وحطموا أسوار خوفكم، كفاكم ذلاً وخنوعا، أما تحرك الدم في عروقكم؟، الى متى وأنتم مذعنون راكعون؟، امتشقوا سيوف عزائمكم، وانتصروا لكراماتكم المهتوكة، اقتلعوا أبواب عجزكم وترددكم، واكتحلوا بنور الله المحبوس عنكم منذ أمد خارج زنازينكم المتوشحة بالظلام ليل نهار. هل استمرأتم الهوان فطمع بكم جلاديكم؟. كفى..كفى.
( ينفجر باكيا كالمفجوع كأن موجة حزن قد تدفقت داخل مجسات إحساسه، فراح يصفع بكفٕ مسدودة وجه الحائط وتلك الاسماء المنقوشة على صفحته..)
رباه.. أعذابٌ قبل عذاب.!؟، أم حسابٌ قبل حساب.!؟.من أجل ماذا؟  ومن أجل من؟. ما الذي اقترفناه؟ لنلقى جثث متعفنة ونحن أحياء على قارعة الإهمال في أتون طوامير نتنة صممت أن لا تدخلها شمس، ولا يغازلها تيار هواء.
(يركع بتذلل وهو غاطس في دموع أحزانه، يتأمل حاله بعد لحظات صمت، ثم ينفجر بالعويل وكأنه يرثي نفسه).
منذ متى وانا محشور ككبش مقهور في أحشاء هذا القبو الموبوء بالغصة والاختناق. ألا من فرجٕ بعد شدة؟، وسعةٕ بعد ضيق؟.
(يتأمل الندب والجراح على جسده، يرغي بصوت محزون).
ويحي.. على مساحة جسدي المثخن بالجراح، والمرصع بالندب والنياشين رقصت أسواط الجلادين الوقحة. كم. مرة شربوا نخب نشوتهم وتبادلوا كؤوس التشفي وهم يتابعون بتلذذ وإفراط فصول تعذيبنا الوحشية بدمٕ بارد، وسادية فاقت الوصف. 
(يعود فيتأمل الأسماء المنقوشة على الحائط، كأنه يقرأ ما تحتها بأسى ومرارة، يهتف وهو يضرب كفا بكف..).
أيباااه.! حسين موحان.!..راهب الحب الموجوع..!..أيها الحالم الباسم  بين يدي جلاده…نم قرير العين..ودعنا نصارع أيامنا بأيادي مكبلة بالعجز والخواء وسط زنزانات اليأس والإحباط. 
( تلوح على وجهه ابتسامة.. ..كأنه تذكر شيء ما) 
أتذكر حين كنا نمازحك؟ بعد كل فصل تعذيب، ونحاول أن نتناسى آلامنا بآلامنا، فنبدأ بعد أضلاعك وعظامك الناتئة، و نقارنها بعدد الجراح التي لحقت بك…وكنتُ حينها أعلن بصوتي وأنت ممدد على النقالة، وآثار السياط بائنة للعيان على كامل جسدك، وبعضها ما زال ينز دما من خلال بقايا ملابسك المتهرئة، ورغم ذلك كنا نكابر ولا ننحني للجراح مهما تعاظمت. 
(يضحك..)
كنت أصيح مازحاً وأنا أرتقي ظهر أحدهم..كأننا في سوق للمزاد..من يشتري؟..من يشتري؟..من يشتري كومة عظام نخرة محشوة في جلد ضب..وكنا نضحك، وكنت أنت تضحك معنا رغم ما بك وبنا  من جراح.
(يعاود صوته يعزف نغمة المرارة والألم..)
استعجلت الرحيل؟.. ماذا لو تمهلت قليلا أيها الراهب المغدور حتى يأتي ذاك الذي كنت تبشرنا بمقدمه حين تقول: لا تقنطوا.. سيأتي يوما بطلته البهية ليحررنا من حياة العبودية والرق، الى حيث الحرية والانعتاق. ألست أنت من كان يقول..؟. انتظروه…سيأتي محملا بالبشائر، وسيضمنا بأحضانه، ويحملنا بلا خطايا ولا أحزان، ليطلقنا فراشاة حالمة في رحاب الجنان بعد أن نغتسل بماء الحياة، أما كنت تقول ذلك؟. ماذا…لو تمهلت قليلا..ماذا..ماذا.
(يتصاعد نشيج بكائه وهو يضرب رأسه بالحائط تعبيرا عن الألم والحزن الذي يعتريه.. يدور في المسرح للحظات كأنه يهيم على وجهه.. ثم يعاود الابتسام.. ليقول: ).
وتلك التي كنت تلهج باسمها ليل نهار، ترى.. كيف هي الآن؟ وماذا حل بها بعدك؟.. أذكر أن آخر شهقاتك أنك هتفت باسمها في الوقت الذي كانوا يطلبون منك أن تعلن البراءة منها أمام الملأ…غير أنك كنت عنيدا غير مبالٕ بهم،.. وأنت تردد نزاريتك التي كنت تلقيها على مسامعنا كل صباح وعلى مدى سنوات القهر التي أمضيتها بيننا في جوف هذه الزنزانة الخانقة.  (أتُحبّني بعد الذي كانا.. إني أُحبّكِ رغم ما كانا). كنت ترددها، بينما السياط تنزل كاللعنات على على جسدك المستعر…وعندما يأسوا من لي إرادتك، لجأوا  الى آخر الدواء.
( يعود المسرح غارقا في الظلمة، مؤثرات صوتية لصرير باب يفتح فجأة، يصاحبه إيقاع قرع طبول يتعالى، بقعة ضوء تظهره متكورا في زاوية أخرى وعلى وجهه وكامل هيأته ملامح فزع بما يوحي أن السجان أو (قابض الارواح) كما ينعته السجناء جاء ربما لينفذ الحكم به، غير أن صرير إغلاق الباب بعد لحظات أعاد له بعض هدوءه..فوقف.. وسحب نفساً عميقاً.)
اللعنة..!، هنا يموت المرء يوميا ألف مرة..عودنا  قابض الأرواح هذا بوجهه العبوس أن يأتي بين الحين والحين كالموت دون سابق إنذار في الهزيع الأخير من الليل بينما الجميع نيام بعد جولة تعذيب دسمة، فيقتاد مِن بيننا ممن تسقط ورقته، ويحل أجله، كما يقتاد الذئب فريسته من بين القطيع، حتى أنه لا يعطينا فرصة لتوديعه…وكنت قد ظننت أنني من حل أجله هذه المرة. ولا أخفيكم، فان للموت رهبة.
(يتحسر من أعماقه، ثم يعود فيتأمل الاسماء المكتوبة على الحائط ويقرأ ما تحتها من عبارات وهو يهز رأسه.. يهتف).
أها.. جبر .! وما أدراكم ما جبر؟..جبر.. الطفل الذي مات ولم يشبع من حنان أمه..كان يقول دائما، لو أفنيت عمري جاثيا عند قدميها، ما رددت لها بعضا من دَينها في عنقي.
(يهز يده هازئاً..).
وهل منا من له القدرة على وفائها.!؟. إنها الأم يا سادة..! مسكين،..  أذكر أنه في المرة الأخيرة عندما جاءت لزيارته وقد أبلغوه بموعد إعدامه، طلب أن ينام على فخذها حين كنا جميعا في الباحة الخارجية، وراح ينعى نفسه بصوت موجوع تتقطع لأناته القلوب..كان يقول نعياً..
(يمه راسي وجعني گومي شديه.. شد الغريبة ما نفع بيه.).
فاحتضنته أمه كما لو كان طفلا صغيرا، وقد فاضت دموعها قبل أن تفيض روحها أمام أنظار الجميع وهي تؤدي مرثيتها الخالدة. وبصوت تصدع له الحجر قبل القلوب.
(دلليلول يا لولد يابني..دلليلول.. عدوك عليل وساكن الچول..).
كان مشهدا مؤثرا لا يمكن نسيانه، أبكى كل من كان هناك حتى ذلك الرجل البدين قابض الارواح، والذي كنا نظنه بلا قلب أصلا.
(يتعالى صوته نعياً..)
دلليلول.. يالولد يا ابني..دليلول..عدوك عليل وساكن الچول. .. ظل يرثيها كل يوم بمرثيته التي حفظناها عن ظهر قلب.
(يمه.. راسي وجعني گومي شديه.. شد الغريبة مانفع بيه).
وكنا نواسيه في عزائه.. كان كل يوم يقيم مأتما لروحها وكنا نشاركه، وكأن كل منا كان يعزي نفسه..مات جبر.. وجدناه ميتا على وسادته، ممسكاً بِعُصابَةِ أمه التي كان يحتفظ بها طيلة سنوات اعتقاله، يشمها كل حين، كان يردد دائما قبل موته عبارة. ( جبر.. من بطن أمه للگبر..). مات جبر.. قبل موعد إعدامه بأيام، كأنه خفف عن إدارة السجن أعباء طقوس وإجراءات متعبة ومملة.. كانت جريمته أنهم أمسكوا به على الحدود وهو يحاول أن يهرب بجلده مما يعانيه من مضايقاتهم..وهكذا كانت نهاية جبر.. الطفل الذي لم يشبع من حضن أمه.
( يتأمل اسم آخر من تلك الاسماء المنقوشة على الحائط.. يهتف)
آآآ.. رمضان..! أيها النافر من ضله، المتعلق دوما  بأستار الصمت، الخائف من هول المجهول، ذاك الذي بات حقيقة..ترى.. ما سر تلك الابتسامة التي توهجت على محياك؟ حين حملوك على ظهر نقالة الشؤم من جوف زنزانتك الانفرادية التي نقلوك اليها بعد إن عجزوا عن ليِ ذراعك.. أكان الموت لذيذا للحد الذي فجر في سواقي روحك النقية بريق سعادة  حين لامسها وهي تنازع سكراته؟ أم أنك التقيته دوننا قبل أن تغمض عينيك، ونحن أمضينا أعمارنا نحلم بلقاءه، ذاك الذي طال انتظاره، فأسر لك ببشارة توهجت على إثرها أسارير نفسك، وأثلجت صدرك؟. لا أدري..نم قرير العين.. هنيئا لك، فلا شيء ورائك يستحق أن تحزن عليه..نم قرير العين، فنحن بك لا محالة لاحقون.
(كأنه يتابع قراءة باقي الأسماء بوجع وتأسي)
وأنت.. وأنتم..ي امن تحلق أرواحكم حمائم بيض في رحاب الجنان، هنيئا لكم هذا الذي أنتم فيه، فلقد تخلصتم من حرها وبردها، وتركتمونا نقارع  أحزاننا..كم أنا مشتاق للحاق بكم، وكأن الأيام قد تباطئت، وصار الموعد بعيداً.
(يتحرك صوب السياط المعلقة على الحائط، يتناول واحدا منها، يجلد به  الفراغ، يحدث صوتا مقززاً، يرتعد هلعا). 
يا الهي.. كم أكره هذا السوط الملعون، وكم أكره صوته، كأنه مصنوع من جلد الشيطان؟، إن له وقعا على نفسي حين أسمع صليله وكأنه يجتاحني كالزلزال الماحق.. وهذه العقد المتوزعة على طوله أشعر وكأنها نارا  تخترق نصالها جدار جسدي المستعر تحت التعذيب.. وكم من مرة أغمي علي من الهلع حين يلوح بها جلادي متوعدا بنزع جلدي. 
( يتأمل السوط..ويقول..)
إنهم أناس بلا رحمة.
(ينتزع السوط الثاني بيده الاخرى، ويلوح بالسوطين معا، يشعر بالفزع، كأن ذلك أيقظ في ذاكرته فصول مشهد مروع) 
ياللهول.. ماهذا؟، إنه أمر مرعب.. أن يحضر كبيرهم ليتابع بنفسه حفلات الترويع، فالامر عند ذاك يصبح مختلف تماما، إذ ينزل عتاة الجلادين وقد خلعوا عنهم ملابسهم وقبلها رحمتهم وإنسانيتهم، كل ينزل ملوحا بقرباجه، فنسمع لها أزيز كأنها سيوف باشطة، تحدث أصواتا لها وقع خطى الموت تنزع الارواح من الأجساد، بينما نحن عراة مقيدون وقد ربطت أيادينا وأرجلنا للخلف، نرتجف هلعا على بلاط صالة الرعب الساخنة كأنها سطح فرن، يلوذ بعضنا ببعض، ويحتمي بعضنا ببعض…ومع صافرة البدء التي يطلقها كبيرهم تبدأ جولة الترويع، فتنهال سياط الحقد والتشفي على أجسادنا العارية تلهب ظهورنا، فتتطاير منها نوافير دمائنا لترسم لوحة للمأساة والالم على جدران صالة التعذيب يعجز عن رسمها أمهر الفنانين.. ولن تتوقف جولة الترويع تلك حتى لو مات جميعنا ما لم  يطلق كبيرهم صافرة النهاية، عند ذاك، وبعد أن يغادر جلادينا،  تبدأ مرحلة لعق الجراح من قبلنا، وتُعزَف سمفونيات الأنين التي تطلقها أوتار حناجرنا المحزونة…لتبدأ بعدها مرحلة أخرى من التعذيب النفسي والجسدي، إذ يدخل عدد من الجلادين بهيئة ملائكة رحمة، فيذرون الملح على جراحنا النازفة، ومن ثم يغسلونها بسائل أحمر حارق له وقعا ربما أكثر ألما من لسعات السياط. بعدها يغادروا.. فيقتادنا آخرون  الى زنازيننا بالتقاطر، أي أحدنا يمسك بلباس الأخر ويقتفي أثره منحنياً، وعيوننا مشدودة بخرق من قماش أسود، لتفتح داخل الزنزانه، تتبعها أوامر مشددة بعدم الكلام ولو همساً فيما بيننا. 
(يبكي بصوت مكلوم..وبنبرة مغمسة بالوجع.) 
وكم هو قاسٕ على الانسان أن يُمنع من أن يُطلق حتى كلمة آه.. يواسي بها نفسه المفجوعة.
(ينفث حسرة يكاد يحترق بلهيبها)
وآهٕ ألف آه.. على شباب ضاع هدرا في جوف المطامير، وخلف قضبان الزنازين الكئيبة.
(يعم الظلام أرجاء المسرح من جديد، ويحل شيء من السكون للحظات، في تلك الاثناء يَصُر الباب بقوة، تتبعه جلبة وأصوات أقدام تمزق السكون تصدرها مؤثرات صوتية، صوت نعي شجي ينسكب من حنجرة نسائية يتدفق شلال الحزن من نبراتها كنسائم حنين جارفة  تأخذ بالألباب والأسماع..
تعاود بقعة الضوء لتظهره لنا وكأنه متكورا في أحد الزاويا، ويبدو أنه يستعد لشيء ما..
يمشي نحو حقيبة ملابسه المعلقة على الحائط، ينزلها، يفرش ما فيها من أغراض، يلتقط من بينها بدلة بيضاء، يتأملها وهو ينظر ما حوله.. ثم يقوم بلبسها، بعد ذلك يدور في المسرح ويبدو وكأنه غير مباليا وهو يتأمل البدلة، يمشي لكل الاتجاهات، فجأة ويجثوا على ركبتيه في منتصف المسرح. ويبدو عليه الحزن والانكسار..ويقول بصوت مكلوم.).
ليس عندي أماً ترثيني، ولا أباً تترقرق الدموع في عينيه لفقدي، ولا أختاً تشق جيبها من أجلي، ولا أخا يحمل نعشي على أكتافه، ولا خالة ولا عمة.. كأنني مقطوع من شجرة، فقد رحلوا جميعا.
(وبينما هو يكفكف دموعه.. تلوح على ثغره ابتسامة مفاجئة…ينظر الى رفاقه الذين ما زالوا نيام.. كأنه يودعهم بنظراته.. يتفحص بنظراته  كل الأشياء من حوله..يقول).
أخيراً سنلتقي.. ربما هي ليلتي الأخيرة بينكم.

(ستــــــــــار).

الكاتب جبار القريشي /العراق .
 
 
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت