كيف أعلنت "نتفليكس" موت المسرح؟/ حسام معروف
بعد أن صارت الشاشة الرقمية هي الأكثر تداولاً في حياة الإنسان خلال ممارساته اليومية للمتعة والعمل، أصبحت الوسائل العملية والترفيهية الأخرى أقل حضوراً في جوهر حياتنا، ومن هذه الأشياء المسرح.
في الماضي القريب، صارت تجربة حضور السينما أكثر تواجداً في حياة الإنسان، لكن بعد أن داهمت جائحة كورونا العالم في 2019، ذهبت الأمور لتجربة سينما العزلة، والتباعد الاجتماعي، حيث مال الإنسان لمشاهدة الفيلم منعزلاً، وانحسر المسرح بطريقته الاجتماعية، وحتى السينما باتت تعاني من ذلك.
فوارق
في التجريب بين المسرح بجماهيريته، والشاشة الرقمية بعزلتها، التي صارت أكثر جذباً للإنسان من أي وقت مضى، هنالك فوارق تحددها طبيعة التأثر والمشاعر المنسابة مع كل حالة.
ففي المسرح، يبرز الصوت المكثف، والإضاءات الخافتة التي تنعكس على الأجسام من حولنا، فنتخيل أننا مسافرون في مركبة خارج العالم. هذا السفر الجماعي يجعل الإنسان أكثر انسجاماً مع الحياة وأكثر اجتماعية، فهنالك في المسرح تبقى مختبأة التجربة التي لم نجربها بعد.
أما لحظات التجربة السينمائية مع الشاشة، فمن المهم الالتفات إلى أنها أقل من تجربة المسرح في كل ما سبق ذكره، في التأثر والاستجابة والتحليق، لكن تلك المشاهدة الأحادية تتفوق بفعل ميل الإنسان إلى العزلة بفعل الثورة الرقمية، وتعزز ذلك بفعل كورونا.
فهل يمكن بناء على ما سبق تخيل موت المسرح؟
لا يمكن الحصول على إجابة شافية حول فكرة موت المسرح، لكن يمكن ملاحظة ظاهرة اختفائه من حياتنا، فقبل وجود ميل العائلة لمشاهدة جماعية في ظل حياة سريعة، ممتلئة بأساليب وحيل المتعة، المزودة بإعلانات ممولة، على مواقع التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى التكلفة غير القليلة لشراء تذكرة المسرح، التي تصل في العالم الغربي إلى 70 دولاراً، وفي الدول العربية إلى 20 دولاراً، وهو أمر يحد من انتشار المسرح.
الجمهور جزء من المسرحية
إن التواجد في قاعة المسرح، ينقل الإنسان إلى مساحة مغايرة من الحس والتفكير والتأثر، فالإحساس بالمشهد يختلف ما بين الفيلم والمسرح الحي، تلك تجربة العتمة والصمت ما بين كلمات وأصوات وحركات الممثلين على المسرح، والهدوء المحمّل بشحنة كهربائية تجعل الجسد متحفزاً لتلقي المزيد، والتأثر الفوري. هذا كله يجعل من تجربة المسرح أكثر فاعلية مع الجسد. إذن، وبعد كل هذا، يمكننا تحوير السؤال: هل يستطيع المسرح المواجهة والبقاء في ظل تكنولوجيا جعلت للمعرفة والمتعة مسرحا وسينما داخل المنزل؟
حضور التكنولوجيا
إن العزلة الذاتية الفنية التي صنعتها السينما المنزلية من خلال منصات نتفليكس وغيرها، عالمياً، وضعت الحس البشري على خريطة أخرى في العالم، فلم يعد البحث عن المعرفة والمتعة يحتاج أكثر من التهيؤ لذلك، للحظة نقية في اليوم، يكون المرء خلالها في حاجة للاستمتاع بتجربة فنية جديدة.. لقد جعلت التكنولوجيا من الفن أن لحظة قبول من الداخل الإنساني، أو اشتياق لأجواء السينما، مع أخذ الخطوة تجاه ذلك، هي كل ما يحتاجه المرء، بالإضافة إلى خط إنترنت، لعيش تجربة فنية جديدة، وهو ما لا يتحقق في تجربة المسرح.
يحدث لمرة واحدة
يمكن القول إن الإنسان في العصر الحديث، صار بحاجة إلى الأشياء المدهشة، التي تحدث للمرة الأولى، غير المحفوظة، أو المفتعلة، وفي المسرح يصعب إيجاد الممثل الذي يرتجل الموقف، ويتقن ذلك، وكأن السيناريو يكتب في نفس اللحظة التي يضحك أو يصرخ أو يغرق فيها الجمهور، داخل صمته.
وعلى الرغم من أهمية الالتفات إلى ما يجذبنا داخل قاعة المسرح، حيث الأجواء المعتمة محفزة للسفر مع المسرح، فمن المهم تناول نقيض ذلك، فهنالك الكثير من المعيقات والقواطع، التي تجعل الإنسان يفضل الجلوس في المنزل، فلربما كحة أحدهم من الجمهور تكون سببا في تخريب الرحلة مع العرض، ولربما حركة آخر تفعل ذلك، أو صراخ طفل. الأمر المعقد في المسرح أن المقطع الذي يمضي لا يعاد، والكلمة التي تقال تجف فوراً، مثل فقاعة سقطت على سطح ساخن، وهذا مؤمّن جداً في أي فيلم نشاهده على نتفليكس، فإعادة المقاطع أو التوقف لإعداد فنجان قهوة، أو كأس شاي، متوفرة مع التكنولوجيا، بالإضافة إلى أن تكلفة المشاهدة مع الشاشة تكون أقل.
كورونا والمسرح
حين جاء كوفيد 19، فرض قيوده على البشرية بأسرها، حيث أغلقت المسارح والسينمات، وصارت تجربة السينما الإلكترونية من خلال منصات نتفليكس وبرايم فيديو وأمازون وغيرها، الأكثر استخداماً خلال لحظات الحجر الصحي داخل المنزل، ووصل سعر الاشتراك الشهري في هذه المنصات إلى أكثر من 16 دولارا أمريكيا، وهو رقم مرتفع.
هذه التجربة الذاتية مع الفن عززت من ميل الإنسان إلى تجربة الانعزال، وصار حتى وإن زالت قيود الجائحة، أكثر ميلاً لتجربة التوحد بمعايشة التجربة الفنية، منها للمشاهدة الجماعية، هذا التوجه يدعم في اتجاه موت المسرح وموت التجربة الجماعية في تلقي الفن لدى الإنسان.
إن إعادة المسرح الحي إلى جوهر حياتنا تتطلب الوصول إلى لحظة شرارة مع إنسان العصر الحديث، فالمخرج المسرحي يجب أن يبحث عن فورية اللحظة والمعنى، لا أن يكون التكرار هو مصير الجملة والإحساس والحركة للممثل على المسرح، فالعفوية هي اللغة الأهم في مخاطبة المشاهد المرتاد للمسرح الحديث، بالإضافة إلى الفكرة التي تصنع الفارق، وتوقف الزمن السريع، إذ إن جذب الأشخاص في هذا العصر يتحقق بامتلاك القدرة على تخليصه من انشغاله بمشاكل الحياة، لمدة ساعتين.
عن: آرم