الإصلاح الفكري والسايكولوجي للإنسان العراقي/ أحـمد طـه حاجـو
قراءة في العرض المسرحي ( ميت مات )
العرض المسرحي الجيد هو الذي يتبنى رسالة ، ويعمل على إيصالها بصورة جيدة ، أما العرض المسرحي الذي يتبنى قضية أزلية وسرمدية ، ويعمل على إيصالها بصورة مغايرة للمألوف ، فمن المؤكد بأنه سيحدث وخزة في فكر المتلقي ، وبالتالي يمكن ان يُصنف على أنه عرضٌ مدهش .
وهذا ما لمسناه في العرض المسرحي ( ميت مات ) من تأليف واخراج ( علي عبد النبي الزيدي ) فالعرض يختصر فكر جمعي أزلي بصورة بسيطة عبر حوار ثنائي بين شخصيتين يجلسان على مسطبتين بصورة متقابلة مع الجمهور ، أحدهما ( غودو ) والأخرى ( مولاي ) وتُجرى حوارات مطولة ناقدة للوضع القائم المبني على ترسبات إيدولوجيةسائدة ، والتي هي السبب الأساسي في المأساة التي يعيشها المجتمع العراقي على وجه التحديد .
لنكتشف في نهاية العرض بأن الشخصيتين هما تمثالان وإنّ المكان هو متحف ، عبر صوت لموظف في المتحف يعلن بأنه سيتم نقل التمثالين الى المخزن .
العرض : يُضاء المسرح بصورة مركزة على الشخصيتين الجالستين على المسطبتين المتجاورتين ، والموضوعتين على بساط يمتد اسفلهما ليصعد خلفهما ، مشكلا خلفية بيضاء توحي بأن كل شخصية تجلس وسط ضريح مخصص لها ، يرتدي كل من تلك الشخصيتين ( دشداشة ) رثة مليئة بالغبار ، ثم يدخل عامل يقوم بعملية التنظيف للمكان عبر جهاز ( البلور) الميكانيكي ، فيتطاير الغبار من المكان ومن جسد الشخصيتين ، ويُدلل ذلك الغبار على ما تتمتع به تلك الشخصيتين من فكر مترب كان قد توقف لسنين ، بسبب ما يحتويه من أفكار بالية .
الثيمة الأساسية لذلك العرض هو الإنتظارغير المجدي ، الذي بينته الحوارات منذ البداية حتى آخر حوار ، فالشخصيتان تُمثلان بيئة وواقعاً ومجتمعاً برمته ، الغالبية تتبنى هذا الفكر ، ( إنتظار المُخلص ) وهم يعيشون بإستراحة زائفة وحاضر متوقف ومستقبل معروف وليس مجهول ، إذ أن الحياة المتوقفة لا تنتج مستقبلاً مشرقاً ، بل هو استمرار للحاضر المتوقف ، لا سيما وان الحوارات تبين ان جلوسهم على هذا الوضع وفي هذا المكان منذ قرون ، فهو نقد لاذع لما يحاول البعض ترسيخه في الفكر الحالي .
وفي نهاية العرض نرى وجود مكنسة كهربائية خلفهم للعامل ، وهي تدل على ضرورة كنس الفكر المتجمد منذ زمن وتغيير طريقة التعاطي مع الواقع ، فالإنتظار لم يغيرأي ساكن..! كما لاحظنا منذ بداية العرض .
الحوار : أعتمد تقنية التبادل بالأدوار والحوارات المتكررة بين الشخصيتين ، وهذا ما يسمى بــ ( تحريض تكرار ) عبر المبالغة بالتكرار لإستفزاز المتفرج ودعوته إلى الإنتباهلنفسه ومساره الذي اعتمده منذ زمن ، كما أنّ العرض تبنى أسلوبَ ( حلبة النقاش ) ( لأوجستو بوال ) صاحب ( مسرح المقهورين ) فالنقاش الفكري المنبثق من العقيدة يسير بصورة متصاعدة وفق فلسفة نقد الذات وإستفزازها ، فالحوار مليء بالعبارات الرمزية الفلسفية التي تُخفي التحريض المضمر بين جنباتها مثل ( ما رايك ان نتغير ؟ ) فيكررها الاثنين بصورة متناوبة ، دلالة على اتفاقهما على المبدأ ، وايضاً للتأكيد عبر التكرار ، وتسليط الضوء على مفردة ( التغيير ) لأنه المحور الذي تتبناه المسرحية كنص وعرض ، ثم يجيبه زميله ( فكرة ثورية ) دلالة على أنّ هناك ضرورة ملحة على أحداث ثورة حركية ومن قبلها فكرية من أجل تغيير الواقع المتوقف منذ قرون ، وهنا تكمن جرأة طرح مبدأ الثورة والتغيير لأن البعض يعتبر أنّ التغيير مساس بالتابو الذي يُعمَل على تأصيله للأستغفال.
ومن الاسئلة التي أُثيرت ( هل أنت متديّن ) وهذا السؤال يدعو الى التأمل في الواقع ، إلى من يتبنى الفكر الديني من الطبقة السياسية المتحكمة بالتوجيه للمسار السياسي والإجتماعيوالإقتصادي ، وهو دعوة لتأمل افعالهم ومنجز من يتبنى هذا الفكر ، والمقارنة بين محتوى الفكر المطروح في الساحة السياسية وبين محتواه العقائدي وكيف ينبغي أنْ يكون ،فتلك الأسئلة على الرغم من بساطتها وقلتها ، إلا أنها أسئلة إستفزازية،حرص ( الزيدي ) على تضمينها في نصه المسرحي وسلّط عليها الضوء عبر الإلقاء وتفخيمه تارة ، وعبر الموسيقى وباقي المؤثرات ، كما أنه أجادإستخدام لحظات الصمت بين الحوارات ، فكانت بمثابة إستراحة للتأمل ، كانت مدروسة من ناحية الوقت ، لترسيخ وتأثير الفعل الدرامي للعرض .
كما اعتمدت في العرض المسرحي ( ميت مات ) اللغة الفصحى بالإضافة للهجة العامية ، وقد استخدمت العامية للتعقيب على بعض الجمل المهمة ، للتأكيد والتوضيح وجذب الإنتباه لها ، كما أنّ العامية تعمل على خلق نوع من الحميمية بين المتفرجين والعرض ، لا سيما وأنّ العرض يتطرق لجزء مهم من شخصية الفرد ، ألا وهو مخاطبة الضمير والفكر ونقد الفعل والتصرف والمسار القائم .
الموسيقى : كانت هادئة توحي بإحساس الراحة للتأمل ومراجعة النفس ، وقد جاءت متلائمة مع روح المشهد والحوار ، وحتى المقطع من اغنية تراثية للفنان ( بشار القيسي ) الذي عرف بأسلوبه الهادئ في الغناء وتوظيف لحظات الصمت بين مقطوعاته الغنائية ، والتي جاءت لتؤكد على ضرورة التأمل والغور بأعماق الجمل الحوارية .
الإضاءة : كانت متغيرة بين الفيضي والمركزة وبين الازرق والاحمر والاصفر ، دالة بذلك على مكنونات الهم الذي تنطلق منه الشخصيات وحواراتها ، فشكلت منظومة ديكورية مع باقي قطع الديكور المستخدم ، وهي كل من المسطبتينوالممثلين والظل والضوء ، لتكون أداة إثارة وجذب إنتباه المتفرجين وتحريضهم على تبني الفكر المطروح في العرض المسرحي .
الرؤية الاخراجية : لقد تبنى ( علي عبد النبي الزيدي ) المبالغة في ابراز الهم الكوني الذي اعتمدته المسرحية ، والمتمثل بالإنتظار ، إذ أنه أجاد إبرازه بصورة مبالغ فيها منذ بدء العرض وحتى نهايته ، والجلوس المستمر للشخصيتين حتى نهاية العرض الذي كان طويلاً جداً وقد يُوقع للمتفرج بالملل ، فالعرض هو المكان لإبراز الجمال ، ومن أهم لحظات الجمال هي الحركة الإنتقالية بين المشاهد والدهشة والترقب ، فلم يستخدم ( الزيدي )اي انتقالةأو حركة للممثلين إلا ما ندر بحركة بسيطة وهي محاولة الشخصيتين النهوض ومن ثم السقوط ومن ثم الوقوف ، كما أنّ المتغير الوحيد والمتحرك ، كان ذلك العامل المسؤول على نظافة المكان . فلو أستخدم المخرج حركة أكثر ، ولو كان قد أدخل بعض الشخصيات كأن يكون متفرجو المتحف أو شخصيات تُبين مدى الصمت والتوقف في الحياة خارج حدود شخصياتنا البطلة ، مع بناء حبكات ثانوية تصب في الفكرة الرئيسية ، فقد كان العرض أكثر حيوية ، على الرغم من سيطرة الجمود على حركة وأماكن الشخصيات البطلة للعرض المسرحي في مسرحية ( ميت مات ) إلاّ أنّ الحيوية كانت طاغية في الحوارات والصور التي شكلتها تلك العبارات والأسئلة ، التي أثارت ووخزت الضمير والعقل ، كونها كانت في صميم الحياة والكيفية التي هي مستمرة وفقها ، كما إنّ الإستهزاء والإستهانة بطريقة الحياة الحالية، عبر بعض الحوارات مثل و ( اغتصبتنا المصاطب ، خلقتك السلطة ، إبرة بنج مخدرة لن ينتهي مفعولها ، المهزلة انك تنتظر الموت لا الحياة ) فتلك العبارات كان لها الوقع في أن نُعزي أنفسنا على حياتنا التي تسمى مجازاً ( حياة ) فتلك العبارات كان وظيفتها أنْ تثير اسئلة في فكر المتفرج مثل ( اين مكاننا الحقيقي من هذه الحياة ؟ وهل قلة المنطقيات بل وانعدامها في الحياة شيء مقبول ؟ ) ، فجميع تلك الجمل كانت تحريضية ، لأنها انتقدت المألوف بطريقة استفزازية وغير مجاملة ، عبر مبالغتها في الطرح .
ان التحريض الذي تبناه عرض مسرحية ( ميت مات ) ينبثق من معاناة الإنسان العراقي الذي تجاهل المنطقيات مجبراً وكارهاً بسبب التعنت القبلي والسياسي المفروض عليه من قبل أصحاب القرار ، كما أنّ البعض ـــ بسبب غياب الوعي ـــ بات يسير كالأعمى وراء الخزعبلات ، ودون البحث عن الحلول المنطقية لاسيما ونحن نعيش في خضم التكنولوجيا وفي عصر النهضة الالكترونية والعلمية ، فهل المستوى الذي يعيشه العراقي مقبولاً في ظل المعطيات الواقعية التي يتمتع فيها العراق ؟ تلك الاسئلة يثيرها العرض بطريقة مضمرة ، متبنياً عبرها طريق الإصلاح الفكري والسايكولوجي للإنسان العراقي وطريقة ولوجه الى المعترك الاجتماعي .
وفي إحدى الحوارات الجوهرية الذي قالتها الشخصيتان لبعض ( استيقظ مني ) وهو وخز لفكر من ينتظر المخلص وهو مستكين للأحلام والإنتظار ، ولا يفكر بالنهوض والعمل وتصويب وضعه وواقعه الذي سيبقى مرافقاً لأحفاد احفاده .
فالعرض المسرحي ( ميت مات ) يدعو الى تغيير الفكر والإنتقالةالى مساحة مغايرة بقراءة الحياة إنْ أردنا إحداث نموٍّ فكريٍّ واجتماعيٍّ وبناء مستقبل ، لان الواقع لا أمل في إصلاحه إنْ بقي الحالعما هو عليه من فكر ينتظر من يأتي لينتشله مما هو عليه من سبات وموت سريري .