” أحدب نوتردام “… رومانسية اللعنة واندفاعات الهوى/ د . وفاء كمالو

يشهد المسرح المصري الآن حضورا مدهشا لمسرحية “أحدب نوتردام” , التي تمثل حالة إبداعية شديدة الثراء , تنتمي إلى الأعمال الكبرى , ذات الملامح الثائرة المغايرة , التي تمتلك القدرة على التفاعل والاشتباك وطرح التساؤلات – – , فنحن أمام عمل رومانسي عظيم يرتكز على خصوصية فريدة , تمنحه دلالات إنسانية تشاغب اللحظات الفاصلة في تاريخ الفن , وفي مسار الخلل الوحشي العالمي الذي نعيشه الآن .

لا يتوفر وصف.

 

 

هذه التجربة من إنتاج مسرح الطليعة لمؤلفها الفرنسي الأشهر فيكتور هوجو 1802 – 1885 , الذي وصفه لامارتين أنه شكسبير الرواية , وقد قام بإعدادها للمسرح الكاتب الراحل المثقف  أسامة نور الدين , أما الإخراج فهو للفنان الكبير ناصر عبد المنعم , الذي اشتبك مع فيكتور هوجو بوعي كاشف وحرارة مدهشة , فهو أشهر أديب وشاعر في تاريخ فرنسا , كتب الرواية والشعر والمسرح , وكان معروفا بفكره الرحب ووعيه الكاشف ورفضه للتابوهات المغلقة , كان معارضا للكنيسة وسلطتها المطلقة , رغم أنه من المتدينين , ويذكر أنه كان عضوا في الأكاديمية الفرنسية , التي تضم النخبة من رجال العلوم والثقافة في فرنسا , كما أنه من الشخصيات المرموقة التي بعثت جدلا واسعا في البرلمان الفرنسي 1848 – 1851 , وقد غادر فرنسا إلى بريطانيا  بسبب معارضته لحكم نابليون  , وظل في المنفى حتى انتهى حكمه . نشرت رواية أحدب نوتردام عام 1831 , وحققت ردود فعل عالية  لا تزال ممتدة , وقد أنتج عنها  حتى الآن ثمانية عشر فيلما , وخمس مسرحيات عالمية , والعديد من العروض الموسيقية الغنائية وعروض الباليه , واتجهت هذه الأعمال إلى العديد من وجهات النظر , ويذكر أن دور الأحدب قد مثله كبار النجوم العالميين مثل تشارلز لوتون 1939 مع النجمة مورين أوهارا , أنتوني كوين 1956 , وأنتوني هوبكنز 1982 .

جاء الإعداد المسرحي للرواية الطويلة المثيرة , جاء كقطعة فنية رفيعة المستوى كتبها أسامة نور الدين , ليواجهنا بمنظومة فنية خلابة ترتكز على المفاهيم العلمية للمسرح من حيث الشخصيات والأحداث والتقاطعات واندفاعات الفعل وحرارة الصراع , بصمات فيكتور هوجو وروحه الثائرة حاضرة في قلب الحالة المسرحية , وخصوصية المفردات وتصاعد الإيقاعات تدفع المتلقي إلى التفكير في مأساة وجودنا المخيف , حيث تدور الأحداث في كنيسة نوتردام والمنطقة المحيطة بها في باريس , الإطار التاريخي يعود إلى العام 1482 , البطل هو كوازيمودو – الرجل الأحدب المشوه , الذي رآه  سكان باريس مسخا من صنع الشيطان , كان عمله هو قرع أجراس الكنيسة الضخمة , الأصوات العالية أصابته بالصمم , لكن الكنيسة ظلت هي عالمه الوحيد بعيدا عن قسوة البشر , الذين استلبوا وجوده وصادروا إنسانيته , لذلك كان لا يخرج منها إلا بحبة رئيس القساوسة كلود فرولو , الذي منحه الأمان منذ طفولته الأولى حين جاء الأحدب مع أسرته من الغجر ليسرقوا الكنيسة , فتم القبض عليهم , لكنهم استطاعوا الهرب وتركوا كوازيمودو هناك .

كانت باريس تحتفل كل عام بالعيد الصاخب الذي يملأ الشوارع بهجة وأفراح واندفاعات , إنه عيد الحمقى والمهرجين – – , وفي ذلك العام كان كوازيمودو الأحدب هو صاحب لقب أمير الحمقى , فليس هناك أبشع منه في المدينة , ورغم القهر والعذاب إلا أن احتفال هذا العام كان يوما فارقا في حياته , شهد حضور الغجرية الحسناء الفاتنة الساحرة أزميرالدا , صاحبة العيون الجريئة والرموش الطويلة والشعر الأسود , انطلق سحرها إلى كل الرجال , وحين رآها فرولو رئيس القساوسة , تفجرت رغباته نحو السحاب , وعاش شغفا مجنونا بتلك الفاتنة , لم يتوقف طويلا أمام واجبه الديني , أمر كوازيمودو بخطفها , فاندفع إليها بلا وعي – – ,  لكن محاولته فشلت بسبب تدخل أحد ضباط الملك , الذي تربطه قصة حب ساخنة بأزميرالدا , فتاته الجميلة التي أنقذ حياتها .

قررت السلطات القبض على الأحدب وجلده في الساحة العامة , حاصره الظلم والدم والعذاب  والعطش القاتل , شاهدت الجميلة الشابة عذاباته المفزعة , فتفجرت في أعماقها تيارات العطف والشفقة  عليه , أعطته الماء فأصابه الذهول – – , إنها أول امرأة على وجه الأرض تحترم حضوره الإنساني , أصابه جمالها المثير بالدوار , ووقع على الفور في حبها , حب إنساني أسطوري عارم , تجاوز المشاعر المعروفة واتخذ مسارا مغايرا , ليصبح رمزا للعشق النبيل في أبهى صوره .

يكاد رئيس الكنيسة فرولو أن يصاب بالجنون , يعيش مفارقة عسيرة , فهو يمتلك السطوة والسلطة والقوة , ومع ذلك يعجز عن امتلاك الغجرية الجميلة , ثم يعلم أنها تعشق الضابط الذي أنقذها , لذلك يندفع إلى تيارات الجريمة ويخطط لاغتيال الضابط و لكنه يفشل – – , ذلك الفشل الذي يدفعه إلى اتهام أزميرالد بارتكاب محاولة قتل الضابط , وهكذا يتم القبض عليها , وتدخل السجن – – , وهناك يحاول القسيس اغتصابها , ونصبح أمام مواجهة مخيفة , حيث يدافع كوازيمودو الأحدب عن حبيبته بقوة , يتصدى لفرولو ويمنعه عن رغباته النارية المفزعة , وفي هذا الإطار يتم إعدام أزميرالدا في الساحة العامة , فرولو القسيس يشاهد الإعدام من أعلى الكنيسة , والأحدب يراقب التفاصيل , فيندفع بكل حبه وعشقه وعذاباته إلى رئيس القساوسة ويلقي به من أعلى المبنى , فيسقط ويموت , بينما يصرخ كوازيمودو بجنون هستيري , مندفعا إلى جثة أزميرالدا التي ألقوا بها خارج المدينة بلا جنازة  ولا دفن , يحتضنها بشغف محموم – – , ويموت .

لا يتوفر وصف.

بعث المخرج الفنان ناصر عبد المنعم حالة فنية جامحة مسكونة بالتمرد والعصيان , باحثة عن العدالة والكرامة والإنسان , فتجاوزت رؤاه الحدود التقليدية المألوفة للمسرح , ليواجهنا بقطعة فنية تشع بشراسة الجمال وعمق التساؤلات وحرارة التفاعل مع الوجود الإنساني , اتجه منظور الإخراج إلى تلك اللغة الثائرة , التي تتضافر مع لغة الكلمات ليمنح المتلقي فكرة محسوسة تحتوي على كل أبعاد الحركة والصراع والحدث , وفي هذا السياق كانت الكوريوجرافيا ولغة الجسد وتيار المشاعر والصوت والغناء وتفاصيل صورة المشهد , كانت هي اللغة الأكثر قوة وحضورا على المسرح , فأنتجت حالة فنية مركبة تنتمي إلى فيكتور هوجو , وتحمل رؤى وبصمات ناصر عبد المنعم , الذي لامس جمرات التساؤلات النارية الساكنة في الأعماق , لتصبح المسرحية بوحا ومكاشفة واختراق للزيف والغياب , وتظل هذه التجربة هي وثيقة جمالية وفنية تؤكد أن ناصر عبد المنعم من الكبار المبدعين , الذين غيروا وقائع الصمت والجمود وامتلكوا سحر الجمال وحرارة الحياة عبر الفكر والخيال والإبهار والخبرة الناضجة .

لا يتوفر وصف.

جاء التشكيل السينوغرافي شديد البساطة والجاذبية , عميق المعنى والدلالات , يأخذنا إلى كنيسة نوتردام العريقة والمنطقة المحيطة بها , التوظيف الجمالي للمساحات والموتيفات يأتي وظيفيا متناسقا , يتيح إمكانات هائلة للحركة , الضوء الدرامي المدروس يعانق الأحداث والتفاصيل والشخصيات , والكنيسة في حد ذاتها تمثل بؤرة إشعاع خطير , يبعث صراعا مخيفا بين السلطة والسياسة ومنظومة القيم وإيقاعات الفساد , فهي أولا وأخيرا رمز العدالة الإلهية المطلقة , وإذا كان فرولو كبير القساوسة هو أحد أقوى شخصيات المسرحية , ومن المفترض أن يكون رمزا للعدالة والأخلاق , إلا أنه ظل يخرق كل القوانين والأعراف ويرتكب الجرائم , لأنه يهيم حبا بامرأة مثيرة , دبر إعدامها  لرفضها رغبته الآثمة , وحين يحدث كل هذا الخلل في الكنيسة نصبح أمام تيار من التساؤلات العارمة , تفرض قراءة دلالاتها بأسلوب كاشف .

إذا كان فيكتور هوجو قد طرح عذابات قلوب الفقراء في رواياته , فإن العالم كله قد قرأها ولامس أبعاد الحقيقة الوحشية للحياة عبر قصة حب خارجة عن المألوف تبدو كتراجيديا للعشق والموت والسقوط , كشفت أن كوازيمودو هو بطل حقيقي , يمتلك عمقا إنسانيا رفيع المستوى باعتباره شخصية تفوق حدود التصورات , وفي سياق متصل يتضح أن كل مفردات هذه التجربة قد جاءت في أبهى حالاتها , وهذا يذكر للمخرج ناصر عبد المنعم , الذي قاد فريق عمل من الشباب الواعد , ليس بينهم نجوم لكنهم بلغوا قمة الحضور والإشعاع  عبر الأداء الاحترافي رفيع المستوى .

لا يتوفر وصف.

شارك في المسرحية يحيي محمود , محمد دياب , عمرو شريف , رجوى حامد , مريم الجندي , محمود طلعت , فادي ثروت , مي السباعي , هبة قناوي , حسام الشاعر , أحمد مخيمر , آية خلف , محمد عبد الوهاب , ومحمد حسيب .

كان الديكور للفنان حمدي عطية , والموسيقى لكريم عرفة , والاستعراضات لكريمة بدير , والأزياء للجميلة نعيمة عجمي , وكانت الأشعار لطارق علي , والإضاءة المدهشة لأبو بكر الشريف , والمكياج لإسلام عباس .

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت