السكون الحركي الإخراجي بين ربيع مروة وعلي الزيدي/ يوسف عبد الحسين السياف
استوقفتني ثلاث مفردات وجدتها مهمة فيإعلان مسرحية (ميت مات) وهي (النص/الدراماتورج/السينوغرافيا), عرض مسرحيمن إنتاج (مشغل دنيا للإنتاج السينمائي والمسرحي) ومن (تأليف) و(دراماتورج) الكاتب العراقي(علي عبد النبي الزيدي) (1965م) وسينوغرافيا العرض الدكتور (علي السوداني), قدم العرض يوم الاربعاء المصادف (4-8-2021م) على خشبة (مسرح الرافدين) ضمن عروض مهرجان (العراق الوطني الاول) الذي أقامته (نقابة الفنانين العراقيين) بالاشتراك مع (الهيئة العربية للمسرح) للفترة من (1-8-2021م حتى 7-8-2021م), ولما حققه العرض من صدًى واسع لدى المشتغلين في الحقل المسرحي, جعلني افكر في الكتابة عنه بعد التردد مرات ومرات, ولا أخفي السبب الرئيس في إختياري هذا العرض في أنْ أكتب عنه بالتحديد دون سواه من العروض الأخرى التي شاهدتها في هذا المهرجان, ولكنني لا اود أنْ أبين السبب قبل أنْ افكر بالكتابة عن الدراماتورج والمخرج والكاتب والممثل (اللبناني) (ربيع مروة) (1967م ).
إذ من الصعب وضع أعمال (مروة) بخانة فنية واحدة, لأنَّها ذات طابع تجريبي, تتعدّد أساليب إشتغاله في فضاء العرض والتعامل مع مكوناته, إذْ تدور أغلب عروضه حول وثائق سمعي بصريةمن خلال استخدامه للأوراق والأفلام وتسجيلات الفيديو، وتوثيق اليوميات والمحفوظات الصوتية والصور, وهكذا يُنشئ (مروة) أرشيفاً خاصاً به, إذْ راح يبحث عن رؤية معاصرة تمكّنه من نقل الواقع بطريقة فنية رائعة, منفتح على عروض تتقصد تمويه هويتها, معتمداً اللاتصنيف, فإنَّ أعماله تشكل التقاء حميمي ما بين التقنيات الرقمية والأشكال التعبيرية, مرتكزاً على ثلاثة أعمدة رئيسية في إسلوبه الإخراجي (الجسد/الحرب/الذاكرة) وعلى عدة لغات, كلغة الصورة ولغة المؤثرات الصوتية ولغة التقنيات الرقمية التي نظر لها عربياً ولأول مرة التدريسي في (جامعة بابل / كلية الفنون الجميلة) الاستاذ الدكتور (محمد حسين حبيب) موكداً على عدم تشويه خطاب العرض المسرحي بطغيان التكنلوجيا, معرفاً العرض المسرح الرقمي في مقالته المنشورة في (جريدة المدى) في العدد (4874) على أنهُ”ذلك العرض المسرحي الحي المقدم على خشبة المسرح، والذي يشاهده الجمهور في الـ(هنا) و(الآن), وهو يستثمر التقنيات الرقمية التي من شأنها التحليق جمالياً وفكرياً بفضاءاته وعوالمه الدرامية ليتجلى فيها انفعال التلقي وانعكاسه على الذائقة بمختلف مستوياتها منذ تلك اللحظة التي هيمن فيها الحاسب الالكتروني على جميع المجالات العلمية والثقافية والفني”.
وعلى الرغم من توظيف (مروة) للتقنيات الرقمية إلّا أنَّه لم يغادر النص, بلْ جعل الكلمة مكوناً رئيساً وأساسياً في مجمل أعماله المسرحية, منطلقاً من الجمال الذي يحاول أَنْ يروّض من خلاله معاناة الكتابة, ومعاناة الإخراج, باقتراح أساليب جديدة جمالية تجابه النص وتتعقّبه في حلوله, وعلى الرغم من حضور الجسد بشكلٍ واضحٍ في أعماله, إلّا أَنَّ اللغة هي التي تعوّض عنه وليس حركة الجسد, وإنَّ ما يقدمه (مروة) من سرد على خشبة المسرح ليس سرداً كلاسيكياً، بلْ سرد فاعل يحثّ على التفكير ويقلق الجمهور، ولا يتمّ السرد عبر الأصوات البشرية فقط, بلْ يتمُّ عبر الصور الثابتة وسكون حركة الممثلين, لكنها متحركة صورياً عبر الأصوات المسجلة في السينوغرافيا, والهدف من ذلك حث الجمهور على التفكير دون أنْ تجرفه العواطف.
إنَّ (مروة)لم يحارب النص ولم يبتعدْ عن سردية اللغة, لكنَّه كان يُقحم فضاء العرض بمعالج صوري ليسند اللغة، فبعد أنْ أعلن القطيعة مع تجربة الحكواتي في بيانه عام (1997م), إتَّجه صوب آفاق إبداعية مغايرة لمسرح الحكواتي, ولكنْ ليس بالتخلّي عن الحكاية بشكلٍ مطلق، بلْ إيجاد طرائق جديدة, ففي مسرحية (إدخل يا سيدي… نحن ننتظرك في الخارج) التي أخرجها عام (1998م) نجد أنَّ إتّجاهه الإخراجي أنتمي إلى مسرح (ما بعد الحداثة) بإمتياز, من خلال تكوين بنية العرض من عدة إتّجاهات, اذ أنَّ الإخراج – ضمن مفهوم (ما بعد الحداثة) وبحسب ما عرجت عنه الدكتورة (هناء خلف غني) في كتاب (ما بعد الحداثة) ضمن اصدارات (شهريار) لعام (2021م) – خضع غالباً لعدة مَبادِئُ متناقضة, ولم يخش من دمج أساليب متشتتة, ويقوم بعملية الصاق لأساليب تمثيل غير متناسقة, وبذلك نجد أنَّ(مروة) وفريقة شكل العرض من مسرح (الغضب) ومسرح (القسوة) والمسرح (التسجيلي) ومن الأسلوب (البرختي / التغريب والتماسف), مازجاً أساليب تلك المسارح من أجل أنَّ يتوّلد لديه عرض مسرحي يُظهر أسلوبه الاحتجاجي على الظروف البائسة التي خلّفتها الحروب بطريقة تجريبية, إذْ أنه دائماً ما يقوم بتحوّيل منصة العرضإلى فضاء أشبه بالفضاء الافتراضي, أوْ إلى مكان مخصص للبث التلفزيوني لتوظيف التقنيات الرقمية, لزجّ الجمهور مع الممثلين عبر تسليط الكاميرا التي توضِعَ في الصالة، ومن خلال التحريض يقوم بدفع الجمهور إلى إتّخاذ موقف ازاء الحدث، إذ كسر التقليد وغيّر المألوف, فلا توجد منصة (خشبة مسرح)، ولا ممثل يؤدي بالطريقة التقليدية, بل الإعتماد على سكون الحركة, وبذلك رفض المسرح السائد شكلاً ومضموناً.
يُصنف (مروة) بخانة الفن البصري والفنون الأدائية, معتمداً الوثائق, وعلى أنْ تكون العمود الفقري لإعماله المسرحية بمرافقة سردية النص الأدبي التي تودى بسكون الحركة, وإنَّ الإرشيف مادته الأساسية الخام, وإنَّ كلَّ فنِّه يكمن في المونتاج عن طريق الحاسوب الآلي لتقديم المادة الوثائقية وبقية عناصر الدهشة والإبهار, وإعادة توليف تلك الوثائق من خلال التلاعب بها, ليبيّن لنا أسلوباً خاصّاً به, وأنَّ ما تدور حوله معظم عروضه المسرحية في إنها عروض وثائقية سمعي بصرية, يتساءل من خلالها حول المتغيرات السياسية وحالات الرفض لتلك الحروب التي أنهكت البشرية.
وبذلك يمكن القول بأنَّ (الإرشيف) هو مركز إهتمّام (مروة) الجمالي والفكري, إذ نجد أنَّ جماليات إسلوبه الإخراجي في مسرحية (البحث عن موظف مفقود) التي قدّمها في (بيروت) عام (2003م)، تكمن من إستخدامه لشاشتين كبيرتين موضوعتين في أسفل يمين ويسار المسرح, وفي, وسط أسفل المسرح توجد شاشة وضع أمامها كراسي متوسطة الحجم, يجلس عليها الممثلين, وتوضع كاميرا أمامهم تنقل بثّاً مباشراً لتلك الشاشات التي تنقل الحدث الحي من على خشبة المسرح, وتنقل كذلك فيديوهات مسجّلة مسبقاً لأحداث جرت في السابق, فتعمل هذه الشاشات بوصفها عنصراً أساسياً لسينوغرافيا العرض على أنَّها أرشيف مهمٌّ يُظهر خياله, وبتلك الطريقة قلب (مروة) العلاقات بين الجمهور والعرض وقرب المسافة الجمالية بينهما, فما توظيفه للتقنيات الرقمية الى وسيلة تمكنه من التجريب لفتح أفاق جديدة نحو جمالية الرؤية الإخراجية المعاصرة المواكبة للتطور التكنلوجي الذي غزى العالم, إذْ لا بد من مقاربة تلك التقنيات والفن المسرحي.
أمّا في مسرحية (كم تمنّت نانسي لو أنَّ كلَّ ما حدث ليس سوى كذبة نيسان) التي أخرجها عام (2007م), بفترة زمنية حصرت وقت العرض ووصلت إلى حد (90 دقيقة), والتي كتبها (مروة) بالاشتراك مع الباحث والكاتب (اللبناني)(فادي توفيق)، ومن إنتاج (الجمعية اللبنانية للفنون التشكيلية), عرضت المسرحية كذلك في عام (2008م) الدورة التاسعة والعشرون لمهرجان (زيورخ للمسرح), جمع (مروة) بين الرؤية السياسية والرؤية الفنية في هذا العرض الذي يتحدث عن تعقيد الوضع (اللبناني) وعبثية الحربلا سيما الحروب الاهلية, مستخدماً شاشة تعرض الترجمة (الالمانية) للنص المسرحي, وهنالك صور فوق كل ممثل على النصف الأسفل من هذه الشاشة التي تتغير وفق عملية قتلهم أكثر من مرة, وهنالك ضوء يفرش كبساط على شكل مستطيل على أرضية المسرح يحصر الممثلين, بالإضافة إلى مايكات تلتقط أصوات الممثلين موضوعة أمامهم وهم جالسين على أريكة مغطاة بجلد أسود اللون طيلة فترة العرض,إ ذْ قام (مروّة) وشريكته (اللبنانية) (لينا صانع) بالإضافة إلى المخرج والمصور (اللبناني) (زياد عنتر) والفنان البصري والمصمم (اللبناني) (حاتم إمام) بتجسيد شخصيات أختصرت تاريخ الحرب الأهلية عن طريق أداء سردي متقاً يعتمد السكون في الحركة, شخصيات تجمع أطياف المجتمع (اللبناني) والأحزاب والتيارات ألتي تنتمي لها تلك الوجوه منذ (حرب الفنادق) حتى حرب (2006م) واختيال (الحريري), إذْ يعمد كل ممثل إلى سردية تورّطه في النزاع الدرامي, وعند بدء العرض يبدأ الممثلون بالتحدث من دون انقطاع ودون حركة حتى نهاية العرض, وأنَّثيمة الرؤية الإخراجية هي سكون الحركة, إذْيبقى الممثلون جالسون والتعبير يتمّ من خلال تقنية أداء الممثل العالية.
ومن خلال مشاهدتي الحية لعرض مسرحية (كم تمنّت نانسي لو أنَّ كلَّ ما حدث ليس سوى كذبة نيسان), ومن ثم مشاهدتي لعرض مسرحية (ميت مات) توقفت على خطاب العرض لا سيما اسلوب الرؤية الإخراجية وعلى ما شاهدته من كم جمالي داخل خطاب العرض الاخير, ولا اعلم ما هو سبب استذكاري لعرض (مروة) رغم السنين الطويلة التي مرت على مشاهدتي له, هل هو السبب في ثيمة السكون في الحركة لكلى العرضين, ام اشكالية الواقع المتأزم والحروب المتوالية على بلداننا العربية رغم اختلاف الطرح, ام نتيجة تمسكهما بالنص وجعله العنصر الأساس في خطاب العرض, إذْ إنَّ ما احتواه كادر مسرحية (ميت مات) من أسماء لامعة على مستوى التاليف او السينوغرافيا محلياً وعربياً, بالإضافة الى غرابة بنيت العرض الدرامية الخارجة عن المألوف, وضرب المركز والذهاب الى مناطق انا احسبها خطرة جداً, انطلاقاً من النص ورمزية عنوانه مروراً بالرؤية الإخراجية وثيمة السكون في الحركة, والأداء التمثيلي القائم على مهارة الممثلين بالإعتماد على اصواتهم فقط, وبعد أنَّ إستمتعت بالكم الهائل من الجمل الفلسفية عميقة الفكر والتي تقترب من المحذور, ووضوح أبعاد الشخصيتين (مولاي وغودو) المنتظرتين والمتمسكتين بفكرة (المخلص) الذي لم يكن له وجود أصلا حسب ما يطرحه العرض, جالسين على مسطبتين كعلامة (للانتظار) لم يستطيعوا النهوض رغم محاولاتهم المتكررة متسائلين هل هم بلا ساقين, اذ يجيب (مولاي) على سؤال (غودو) حول امتلاكهم لقدمان فيقول له باني انتظر المخلص (انا انتظره منذ عشرة قرون واكثر…. ) كما ينتظره من ورائي على المساطب وهم بلا ساقين, لكنه يحيل الانتظار وسكون الحركة التي اعتبرها مبرر لفكرة العرض ودعوته نحو التغيير والحركة ومغادرة الانتظار وترك السكون الذي هيمن على الانسان حسب ما يطرحه العرض.
ركز (الزيدي) وبذكاء حول سبب جلوسه الممثلين الرئيسين على تلك المصاطب مع من ورائهم من جمعً ليس بالقلين ينتظرون أيضا وبلا ساقينلكنه وبذكاء اضاف سبباً اخر للسبب الرئيس (الانتظار) واعطى لعجزهم مبرر على انهم ضحايا الحروب المتكررة على بلداننا التي كلما تخرج من حرب تدخل بأخرى اقوى, وبذلك تمرد (الزيدي) على ما تطرح نصوص – الكاتب (ألايرلندي)(صامويلبيكيت)(1906محتى1989م)- المسرحية التي تنطلق من نسق درامي خالي من الاشارة وتكون الاحداث قليلة الشخصيات, فلا تنتهي النصوص كي تبدأ (عدم وجود نهاية) وهذا ما لا نجده لدى (الزيدي) في عرض (ميت مات) الذي ينتهي كي لا يبدأ, واذا لم يبتدأ فنهايته فيه, لذلك تتحرك نصوص (الزيدي) المسرحية من مكان الى مكان اخر ومن زمان الى زمان اخر عكس نصوص (بيكيت), واجد ان هنالك حوار في نص مسرحية (في انتظار غودو) اختصر الزمن المهدور “ليس للعميان فكرة على الزمن شؤون الوقت مخفية ” وهذا ما انطلق منه (الزيدي) ليؤسس قواعده القاصفة لملايين المنتظرين.
بينما نجد نسيان الشخصيات الرئيسة لدى (الزيدي) لا سيما بعد محاولتهم المتكررة للنهوض من مقاعدهم وبالرغم منتمكنهم من ذلك لكنهم لم يتذكروا كيف لهم ان يمشوا, وبعد ان ارادوا الجلوس لعدم قدرتهم في الاستمرار بالوقوف ولو لدقيقة واحدة نسوا كيف يجلسون, فما لهذه العلامة من دلالات يمكنها ان تكون اعتراف واضح وصريح في ان المنتَظرَيَن لم ينهضوا قبل عشرة الاف سنة واكثر, وان نهضوا فلم يتذكروا كيف يتحركون وكيف لهم ان يجلسون, هذا العلامة هي اوسع واكثر دلالة من نسيات شخصيات مسرحية (في انتظار غودو), فعندما يأتي (الصبي) لـ(فلاديمير) ينسا بأنه قد قابله سابقاً ويطرح عليه أجوبه قد سائله (الصبي) عنها سابقا, لكنني اجد ان النسيان هو ما جعل (الزيدي) يدعم سكون الحركة ويجعل لها مبرر, اذ ان السكون دعم الفكرة لدى (الزيدي) عكس ما نجده لدى (مروة) الذي لم اجد لسكون حركة ممثليه مبرر طيلة وقت العرض.
اغدق (بيكيت) في طرح افكار تختصر (الموت/الانتحار) من اجل التخلي عن فكرة الانتظار والخطيئة التي لم يرتكبها الانسان انطلاقاً من عبثيته وميتافيزيقيته, والبؤس الذي يدفعه ليصبح مكبل بالأغلال ومحكوم بالطبيعة, لكن (الزيدي) جعل مبررات لتلك الخطيئة والافكار, اذ انه نَظَرَ للإنسان على أنَهُ عاجز في اجل ايجاد معنى للحياة بل واعطى (الزيدي) له الحلول, كما انطلق (بيكيت) من جهاده بفكرة الفناء والشعور بالذنب مدى الحياة واللعنة الالاهية ومفهوم (القضاء والقدر) والفكر المسيحي الديني؛ وما أجده في رمزية (الشجرة) جعلتني أطرح سؤالاً حول سبب اختيار الشجرة هل هي الشجرة المذكورة في سفر التكوين – رغم ان (بيكيت) قد تأثر بلوحة الرسام (الالماني)(ميشيلفوكو) بعنوان (رجل و امرأه يتأملون القمر) واستلهم منها نصه المسرحي -كسؤالي حول حقيبة الكتف الصغيرة المصنوعة يدوياً بقماش اشبه بقماش (البيرغ) ذات اللون الاخضر ورمزية الاسم (مولاي) احالة من (الزيدي) انا احسبها دلالة على ان الشخصية عربية / (لإمام المنتظر(عج)), منطلقا من وصفه عند قدومه على انه يحمل (سيفطويلاً) وهذا ما يقال عند ظهوره, بينما نجد ان الحقيبة المصنوعة من الجلد والقبعة الغربية وباقة الورد التي يمسكها (مخلد) المؤدي لشخصية (غودو) لدى (الزيدي) والتي تدل على ان الشخصية اوربيا, كـما (القبعة) لدى (بيكيت) التي ربما ترمز الى النبي (عيسى(ع)), وان (الزيدي) قام بلقاء الشخصيتين المنتظرتين التين لا تنتميان الى نفسي المكان لكن التقائهما في نفس الزمان, وكما رمز (الزيدي) لذلك في حوار (مولاي) “قاموس كلماتك لا يشبه قاموس كلماتي” جملة اختزلت ابعاد الشخصيتين المنتظرين التي تختلف جذورهم ولغتهم ومبادئهم, وان عجز شخصيات (بيكيت) في اتخاذ قرار الانتحار نجد ان الانتظار قد قتل ذلك, لكن (الزيدي) قتل فكرة (الانتظار) بموافقة شخصياته لفكرة (الموت) لتدعيم فكرته حول رفض فكرة الانتظار كما اقراها, وقد اجاب (الزيدي) على تساءل (بيكيت) حول بياض لحية المنتظر (غودو), من خال جواب(مولاي) الذي احال بياض لحيته نتيجة واقعه المرير (الحروب تغطيها), لتوصيف شخصية الغائب, بل واضاف (الزيدي) الكثير, اذ ما نجده منملابس متهرئة والاكسسوارات التي تحمل دلائل كثيرة, من اجل لملمة المنتظرين وضرب معتقدات من ينتظرهم في ان واحد, وعلى الرغم من اني لا احب ان اغوص في الفكر الديني المطروح في كلا النصين رغم اعتراضي على بعض الجزئيات لكنني ابحث في جماليات خطاب العرض فقط مبتعداً عن ما طرحه النصين من جمل ليست بالقليلة تحاكي الفكر الديني وتتعقبه في الحلول والشكوك.
انطلاقاً من فلسفة الانتظار الباعثة للقلق, والاصرار على الانتظار كخلاص نهائي يتمسك به الانسان المشوش والبائس, والحياة التي لا قمة لها, مما ادى الى ان شخصيات (في انتظار عودو) و(ميت مات) تدخلان بارتباط جدلي بينهما رغم احتضان بعضهما البصع خوفا من المجهول, والبحث عن الوصول الى الحقيقة من خلال تداخل الازمنة والامكنة واخفات الحس الواقعي بالزمان والمكان عبر تاريخ البشرية والتفكير عن خطيئة مولدة بالتفكير والبحث عن الكلمة للوصول الى ذروة التعبير من خلال الكلمة التي لا سواها كفعل اساسي, ويمكنني ان اقول بأن الانتظار نحوين (نحو إيجابي) كمن يهيئ داره لاستقبال ضيف عزيز عليه, ويكون الانتظار هنا محفوف بالأمل والعمل والشوق, أما الانتظار الثاني فيكون على (نحو سلبي), كمن ينتظر أحد يحرره أو يُخرجه من حفرة, ويكون الانتظار هنا محفوف باليأس والخيبة والاعتماد على الغير,
وتأسيساً لما تقدم نستخلص في ان السكون هو الموت والحركة هي الحياة, وبما ان الاخراج عملية خلق ابداعية تحول الاشياء الى افعال متحركة داخل فضاء العرض, لذا اعتمد (الزيدي) على تحريك مخيلة الجمهور عوضاً عن الحركة الهندسية للممثلين من خلال صدم الثوابت, انطلاقاً من النص الذي يستهوي الجمهور بقدرة تحفيز المخيلة والخيال لديهم, اذ فتح المُخرج أفاق جديدة تختزل في صور تتلاءم مع خطاب العرض, ومن المتعارف عليه في أن المخرج مفسر آخر للنص كون العملية الاخراجية تمس الداخل منه وليس شكله الظاهر, مما جعل من (زيدي) يتخذ من الدراماتورج مخرجاً له, انطلاقا من تعريف الدكتور (يوسف رشيد) والدكتور (مثال غازي) للدراماتورجية في (مجلة كلية التربية) بعددها الـ(70) على انها ” الضمير القائم على الممارسة والذي يرتبط بعدة مهام داخل نظام الفرقة, فهي وظيفة مستحدثة معاصرة تجمع ما بين العقلين (العقل النظري والعقل العلمي) تحت أطار فني وظيفي مستقل يدخل ضمن نسيج الوظائف الأخرى ويتمفصل معها في تشكيل العمل المسرحي“, وإنَّ ما يراه المخرج (الالماني)(جوردن كريك)(1873م حتى 1966م) في دور (المُخرج الدراماتورجي) لدرجة إنَّه إشترط على الدراماتورج أنْ يخلق إيقاعاً منتظماً للممثل وللعرض كما فعل الزيدي, وكذلك ما ذهب إليه المخرج (الالماني)(فيسفولدمييرهولد)(1874محتى1940م) في أن يصبح المُخرج هو ماستر العرض الذي سيقابله بالمهام والغاية بالمفهوم الدراماتورجي المعاصر, فهو من يعمل على تنظيم اداء الشخصيات ويشرف على العرض وتفاصيله كافة, ويحدّد ملامح الفكرة النهائية, واعطاء الخيال نوعاً من الحرية, ولم يغفل أهمية التقنيات المسرحية, ويكون الممثل جوهر العرض, وأعطى الأحقية للمُخرج بالتأليف والتدخل بالعمل المكتوب على وفق رؤيته الإخراجية، إذْ بات المسؤول عن الإنتقال من النص إلى العرض، والتنسيق بين مكوّناته وعناصره, وبذلك يكون المُخرج لديه محدّد بقيم (دراماتورجيا), ومن خلال تلك التفاصيل توضع سلطة المُخرج الماستر (الدراماتورج) فوق سلطة مُخرج العرض, وهذا ما لمسناه في اسلوب (الزيدي), انطلاقا من بيئة عرض مسرحية (ميت مات) التي ابتدأت من الموقف السلبي وتوحيد القناعات لدى الشخصيات التي يشتق من خلالها المفهوم الجمالي, ويمكن ان ينتج الموقف الجمالي للبيئة من القناعات المتعلقة بأشياء لا قيمة لها او ذات قيمة مفترضة كما يطرحها العرض, وهذا ما نجده في عروض مسرح اللامعقول, حيث استخدم (بيكيت) المواد المسرحية الاساسية بأسلوب اقتصادي ليقلل من الحركة الى ادنى مستوى فلا نرى سوى شخصيات, وهي تخطو أو تمشي أو تهتز في مقاعدها لتصبح حركات ايمائية والفاظ قليلة داخل بيئة النص أو العرض, لكن (الزيدي) أستخدم الفاظا كثيرة كما فعل (مروة).
وما خطا بعرض مسرحية (ميت مات) شكلاً ومضمونً الى تجربة أدائية يمكن أنْ اصنفها من ضمن عروض المسرح المعاصر كنقطة انطلاق للحركة التي عصفت بالمسرح التقليدي لكن يصعب عَليَ ذلك, اذ ما نشاهده في تجارب المسرح المعاصر على مستوى النص أو الإخراج وتجربة (الزيدي) الأخيرة ما هو الا تمرد وعبثية لشكل المسرح السائد, وبحسب ما يراه الناقد (الامريكي)(مايكل فريد) بِأنَّ عروض المسرح المعاصر تتحقق من خلالها صورة من المراوغات المتقلبة للقواعد, وعدم استقرار المعنى أو ثباته, وتدعيم الاختلاف والتناقض, وضرورة الإعتماد على العمل الجماعي, ومغادرة النص الأدبي وعدم التقييد به, بل ويحتوي النص على حوارات من أعمال أدبية أخرى, فلقد انحرفت النصوص باتجاه التفكيك والصورة المجزّئة والاستعارات البصرية, ولم تعد القصة التي تحكي فعل وصراع الشخصيات الدرامية هي المحرك الرئيس للعرض، بلْ اللعب الذي يمارس فوق خشبة المسرح, وعدم التقّيد بوحدة الزمان والمكان, ولا بتسلسل الاحداث, وأنَّ مدة العرض غير محدّدة, والملامح غير واضحة للشخصيات, مما صعب علي الموقف ودعاني للتوقف في تحديد اتجاه وانتماء هذا العرض المعاصر الذي لم تكن له ثوابت رغم ثوابت الاتجاه (ما بعد الحداثي), إذْلم يكتسب النشاط والتعبير الجسدي للممثل أهمية كبرى في هذا العرض كما هي هالثيمة الغالبة في العروض المعاصرة التي تتميّز بالابتعاد عن النظرة التفاؤلية وأجواء التناغم والتناسق والمنطق, فهذا ما كان مغيب عما طرحه (الزيدي), اذ اننّي لا اجد الابتعاد عن الواقع من اجل خلق جواً ذاتياً متخيلاً ومفترضاً مبنياً على الرموز والصور المجازية والاستعارة والدلالات الصعبة والمعقَّدة, بل واجد (الزيدي) متمسكا في نصه المسرحي لما تحمله مرجعياته الادبية من اثر على رويتهم الإخراجية, إذْ إنَّهُ كاتب محترف حصد أهم الجوائز العربية على مستوى التأليف لا سيما الجائزة بالمرتبة الثالثة التي حصدها مؤخراً في مسابقة النص المسرحي الموجه للكبار التي اقامته (الهيئة العربية للمسرح) عن نص مسرحية (دراما خيالية حدثت عام 2030م), كما هو الحال لدى (مروة) الذي ترعرع في رحم (الحكواتي) رغم مغادرته له إلَّا أَنهُ بقي متمسكاً بالنص وسرديته, مما جعلا النص يهيمن على تجربتهم الإخراجية, بل وَجَعلهُ يطغي على بقية العناصر الاخرى, وهذا ما يجعلني أجًيبُ على تسأُلي حول سبب اعتمادهما على ثيمة سكون الحركة, رغم أهميتها جمالياً في هذان العملان, لتقعيد فكرة العجز والانتظار والملل مما يدور حول الانسان, واجد إنَّ اشتغال (الزيدي) على ثيمة سكون الحركة كان لها مبرر أكثر من توظيف (مروة) لها, لما يحمله خطاب العرض من مباشرة مفرطة لمفهوم العجز والانتظار السلبي, أكثر مما أجده في عرض (مروة), مما جعله أنْ يؤسس لمكان خالي من القطع الديكورية سوى مسطبتين لتأكيد فكرة الانتظار, وقد تقصد (الزيدي) ان يضع تحت تك المسطبتين بساط أبيض يمتد ليرتفع خلفهما, وهذا القماش الابيض منفصل وكانه نصفين ليفصل مسطبة (غودو) عن مسطبة (مولاي) انطلاقاً من ثنائية المكان والفكر كبيئتين متجاورتين تفصل الشخصيتين رغم التقارب ما بينهما فكرياً, ولإظهار المرجعيات التي اسس لها (الزيدي) داخل سينوغارفيا العرض او من خلال متن الحكاية, عكس ما فعله (مروة) في جمع شخصياته الاربعة التي اظهرهما على مسطبة واحدة لاشتراكهما في البيئة ذاتها والهم ذاته, الا ان (الزيدي) كان متمكناً من رؤيته الى حد الاتقان لاستثارة واستجابة انفعالية مكثفة لدى الرفضة للمجتمع اللاعقلاني واللامادي, فما فعل الانتظار السلبي إلَّا هيمنة على أفعال المسرحية كلها، سراب من (الحلم) في ان (غودو) و(مولاي) هما الامل الوحيد, انتظار وقلق يخلق ملامح شخصيات هذه المسرحية, وبما ان القلق من المفاهيم الوجودية، فانه يبين التصاق مسرح اللامعقول بمفاهيم الفلسفة الوجودية ويعبر عنها بصورة دقيقة، وهذا ما تمثل في مسرحية (ميت مات) الا ان الياس هو مفهوما وجودياً أيضا لكن (الزيدي) حاول ان يتجاهله رغم تصديره لهذه الفكرة, وبذلك تتحول الراي باتجاه الموت عطس (بيكيت) الذي طرحه فقط, كون الموت هو الحقيقة الوحيدة في هذا الوجود كما هو معروف, باعتبار ان (غودو) و(مولاي) ذاتهما عاجزين لا يفعلا شيئا, لكن (الزيدي) اطاح بهما عكس اليأس الذي احاط بشخصيات (بيكيت), كون (الزيدي) رفض فكرة الانتظار ورفض وجودهما.
وبذلك يمكنني أنْ اسقط عرض مسرحية (ميت مات) واحيله الى اتجاه فكري معاصر مجاور للفن المسرحي لكن لم يتم تناوله في المسرح, اتجاه يبحث عن (الهم العام) وكل ما هو مشترك في علم الاجتماع العام, وينطلق من عدم ايمانه بالثنائيات التي لم تجدي نفع ويؤسس ركائزه على تشظي المنظومات العامة لفرض السيولة التي تسربت الى جميع نواحي الحياة وغيرت النظرة للذات, اذ انه اتجاه بكر في المسرح اما في علم الاجتماع فله مسمى وهو اتجاه (الحداثة السائلة) الذي نظر لهُ عالمياً الكاتب الاجتماعي والفيلسوف المعاصر (زيجمونتباومن)(1925م ) من خلال سلسلة ـ(السيولة) التي اصدرها (باومن), ترجم كتاب (الحداثة السائلة) الى اللغة العربية (حجاج ابو جبر) عام (2000م) ضمن منشورات (الشبكة العربية للأبحاث والنشر), وما هذا الاتجاه إلا إذابة وتمييع لمجموعة كبيرة ومتنوعة من الكيانات والرموز الثابتة والمستقرة, مما يجعلني أسقط هذا العرض بفرضياته, ولِأكون أقرب إلى التخصص بوضع عدسة التكبير على مسرحية (ميت مات) كعرض يمكن أنَّ يكون الأول يؤسس (للحداثة السائلة), إذْ ما أجده من تقارب بين ما يدعو اليه (باومن) وما يؤسس له (الزيدي) في تجربة (الإلهيات وما بعد الإلهيات) ونصوص (المدينة الفاسدة), إذْ حاول الأخير أنْ يؤسس لعلاقة جمالية بين الإنسان ومكانه بالجمع بين مكانين منطلقاً من فكرين مؤمنين بعقدة كونية.