ديالكتيكية القصيدة ورؤى المستقبل / بقلم: د. طالب هاشم بدن

قصيدة الجدل للشاعر البروفيسور صدام الاسدي .

 

أثار مصطلح الجدل ( الديالكتيك ) الاوساط الادبية والاكاديمية بشتى صنوفها وشكّل منعطفاً مهماً في المعالجات النقدية من خلال تناوله بصوره المتنوعة والمتعددة حتى صار نقطة تحول كبيرة في عالم المعرفة والثقافة الشاملة والفلسفة ، إذ عرف الجدل فلسفياً بأنه المحاورة وتبادل الحجج والجدال بين طرفين دفاعاً عن وجهة نظر معينة ، ويكون ذلك تحت لواء المنطق .ويعد هيرقليطس مؤسس الديالكتيك الذي يعني عنده تبادل وجهات النظر حول قضيتين قد تنتهي بالطريقتين المتقابلتين الى نتيجة جديدة تتجاوز الرأيين المتعارضين ، يتجاوز النقيضين إلى ما هو أحسن وأفضل . وينطلق من فكرة مفادها إن كل شيء في الكون يحمل في داخله عكسه ، كل شيء موجود هو تناغم من التوترات المتقابلة والتناغم يحتوي بالضرورة مبدأين متعارضين .

ولو أخذنا الجدل عند بعض الفلاسفة لوجدنا إنه يمثل مراحل مهمة في بناء وتكوين الاشكال المعرفية ، يشكل الجدل عن افلاطون الشكل الاكثر كلاسيكية للديالكتيك على شكل محاور تبادلية أو مناظرة تدور بشكل عام بين شخصين . والجدل عند سقراط (منهج ألينخوس ) يمثل شكلاً من أشكال الحوار الحجاجي بين الافراد بطريقة تعاونية ، إذ يقوم على طرح الاسئلة والاجابة عنها بغرض تحفيز التفكير النقدي واستخلاص الافكار والافتراضات المسبقة الضمنية ؛ بيد إن المنهج السقراطي سلبي قائم على التخلص من الافتراضات محاولاً العثور على افتراضات جيدة عن طريق تحديد الافتراضات غير الجيدة التي تؤدي إلى التناقضات ثم التخلص منها بحيث يجبر المرء على مراجعة معتقداته وتحديد مدى صحتها . والجدل هند هيجل يعني الاسلوب الاستثنائي الذي استخدمه فيلسوف القرن التاسع عشر الالماني ( جورج فيلهيلم فردريك هيجل ) للحجاج والذي يعتمد شأنه شأن الاساليب الديالكتيكية الاخرى على عملية تناقض بين الاطراف المتضادة التي تعتمد على مادة الموضوع الذي يبحثه في عمله على المنطق والوعي الذي يدركه أو يدعي معرفته . وهكذا عند السوفسطائيين وغيرهم من الفلاسفة .

يطل علينا الشاعر الدكتور صدام الاسدي بقصيدة عنوانها ( الجدل ) الذي أبحر بنا إلى عوالم من المعرفة والفلسفة الوضعية التي من شأنها الخوض في غمار ديالكتيكية الشعر وخفايا ما وراء الكلمة من معنى مسكوت عنه وباطن غير معلوم إلا في التبحر بمعناه المضمر .

كتب الشاعر قصيدته مهداة إلى مهرجان المربد الشعري القادم بنهج متجدد ولغة جدلية عالية الفصاحة شاخصة بأحرفها ناطقة بجملها المتداخلة متشحة بوشاح التزويق اللفظي الذي عرف به شاعرها ، فمنذ إنطلاقتهاالاولى تخبرنا عن مديات التشبيه والاستعارة وتلك المحسنات يستخدمها شاعرنا متمكناً من توظيفها في جمل وعبارات قل ما يستخدمها شعراء اليوم ، إذ جاءت البداية في ( شمر كفاً لا تسل كيف شمر  وعمر داراً لا تسل كيف عمرا ) إذ ان طبيعة الاخبار هي مرحلة مهمة من اظهار صورة المنجز الذي يفصح عن الشاعر عن مكامن الابداع الذي أظهر براعة وقدرة المثقف في طرح أفكاره . ويذهب شاعرنا في تشبيه صورة الجفاف ويعقد مقارنة مهمة بين النخيل في بقاع الارض ونخيل العراق وهنا تكمن لغة الاستعارة بقصد أن شعر وشعراء العراق ومنجزهم الابداعي لن ينضب وهو معطاء عبر ثقافته المتنوعة وشخوصه من منظمي القصائد على مر الزمن . تناول شاعرنا الاسدي بلغة سلسة وتعابير جزلة المعاني أسلوبية الشعر الطرس الذي مهما محي فيبقى أثره شاخصاً يبهر أنظار المارة ويذكر إن للعراق تاريخ حافل بالعطاء وسلالة تتلى سلالة من المبدعين . لم ينقطع الثمر عن التعلق بشجره الناضج وكلما سقطت ثمر تجدد عطاء الشجرة عبر سلسلة من الخضار مهما تصحر الزمن وجفت منابع مياهه . ومن الجدير بالذكر إن تعلق شاعرنا بأهل بيت النبوة يتواجد في جل إن لم يكن كل قصائده ، فتارة يذكر نبينا الاكرم وتارة الحسين الشهيد وإن لم يذكرهم فهناك تلميح واشارة في بطولة أو كرم أو عطار وهو ما عرف بأهل البيت ألاطهار ، إن دل على شيء إنما يدل على العمق التاريخي وحب شاعرنا للنسل الطاهر وتعمقه في ذكرهم ربما بعلم أو دون علم تأخذه قريحته الشعرية إلى نظم القوافي عن تلك السلالة العطرة والتي تزين أبيات قصائده وكأنها سلسلة متلاصقة من ذهب طرز على أيد بارعة في التجسيد . وعلى الرغم من الاوجاع التي تجلت في جسد العراق إلا إنه أبى إلا أن يكون بطلا مغواراً شرقي الطباع في صدارته شامخاً في تطلعاته مغامراً فيكل توجهاته وهو العزيز الغالب وكاسر أنوف الجبابرة على مر العصور ، متخذاً من إباء الحسين ملاذا رافضاً كل انواع الذل والهوان منطلقاً من مبدأ أبي الاحرار ( هيهات منا الذلة ) إذ لا زالت هنالك روائح عطور تهب مع كل نسيم . على الرغم من مناجاة شاعرنا وشكواه التي لم يجد لها صدى فلا الزمان ينتخي ولا القيود تحل لغز النجوى فكل ما هو قائم شائك وكل ما هو شاخص قاتم ضاع في لجة سفينة لا الرياح تحرك دفتها ولا السفان قائدها على دراية بأبحارها ، لربما السبات أخذ منها مأخذاً وغيب عنها قائدها ، الصمت يقبع على البروج وشتاء الجليد أطبق على الحناجر.. الصمت لغة لا يقوى على البوح بها إلا القابعون تحت سياط الزمن .. الزمن بركان هائج يفصح عن الصمت الهادر ولغته تطوى ما بين شفاه حالمة تنادي فلا تجد لها صدى .. لا يتقن الصمت إلا عباقرة اللغة .. اللغة بحر من أوجاع تتجلى في قلب حائر وجدت كل البوح بصمت غائر في أعماق النفس . يصف شاعرنا العمر الذي عاش على إنه سنابل مهما ضاع منها وأفل بريقها إلا إنها بريق تغير لونه ، وربما شاعرنا يصف حقبة من حياته القادمة على إنها بريق تغير غير إنه لا زال على بريقه اللامع وعطاءه الزاخر مجداً والشامخ عزاً ، فمثل شاعرنا الاسدي لن يستكين ولن يأفل بريق نجمه ولا زال نابض الحب والعطاء . وتبقى جدلية العمر هي الحكم على ما مر وما صرنا إليه من حكم ، إذ نرى الاصرار والعزيمة في عناد شاعرنا مع الدهر قائلاً (أعاند دهري ربما كان فاشلاً     فقادني هماً  والنجاح تأخراً ) ومن هنا يبدأ الجدل في تداخل الصرع وتناقض الافكار في رؤى شاعرنا وما يجده من تداخل وصراع نفسي بين الدهر والانا وكل يأخذ منحى في الضد من الاخر ، وما له من غدر كان قد علمه رمياً فترك العدو واتجه نحو معلمه طعنا وغدراً ، فتظهر في مكامن القصيدة خفايا الصور وتراكيبها وضعها شاعرنا من أجل اظهار المعاناة وما آلت إليه الايام الخوالي التي انقضت من عمره وتكمن فيها الحقيقة المرة في بقايا العمر وفراغه الذي صار متسلطاً على حياته يشعره بحزن ومرارة بحقيقة ما صار عليه من تيه . على الرغم من مجادلة النفس وقناعة المصير وقناعة شاعرنا بقساوة الواقع ، ينهي شاعرنا قصيدته المكونة من خمسة وعشرون بيتاً بقوله

( أجادل نفسي عندما صرت قانعاً     أعامل أوباشا من الكل أصغرا )

وهي اشارة واحالة واضحة على ما وجد شاعرنا من نقيضين تجلى في عدم قناعته بمحيطه والحلقة المفرغة من التعامل المرير بأناس وصفهم أوباش لا يقوون على فهم ما يريد البوح به بدائرة جدلية يصعب حل شفرتها مع مرور أجيال واجيال ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت