” التغريبة بنت الزناتي” استلهام للتراث مسرحيا بطريقة متجددة/ د. علاء الجابر

التعامل مع التراث مسألة حساسة ودقيقة.. لاتقبل القسمة على أثنين.. أما أن تقدمه كما هو حرفيا فتصبح ناقلا ومنفذا لا أكثر.. وأما أن تتعامل معه بذكاء واحترافية فتفسر وتختصر، تضيف وتبتكر.. وهذا ما فعلته المخرجة الذكية منار زين حينما اقتنصت من الكاتب بكري عبد الحميد تغريبة بنت الزناتي المستلة من التراث.. واشتغلت عليها بحثا وتركيبا وتقليما لتنتج منها لوحة اخراجية تبقي على لب الجوهر التراثي وتؤكده، ومخيلة أخرى تحفر في جستات الحداثة وتحاول ان تظفرها بحساسية ودقة وحرص لتخرج بمنتج فني متعادل لايبخس حق التراث ولا يشوهه، وبنفس الوقت لا يتعامل معه كتمثال حجري لا يمكن المساس به، بل كعجينة يمكن إعادة تشكيلها، والنقش عليها برؤية اخراجية معاصرة.
قد تكون صورة لـ ‏‏‏‏٢‏ شخصان‏، ‏أشخاص يقفون‏‏ و‏منظر داخلي‏‏
استلهام المخرج للتراث مسرحيا ليس انجازا تأصيليا يحسب للمخرج حينما يقدمه على الخشبة كما هو لأنه ليس بصدد تقديم فيلما وثائقيا عن ذلك التراث ، بل هو دراسة بحثية جمالية يجب ان تقوم على اسس قوامها الشكل الفني المتجدد والقدرة على خلق حالة تفاعلية فكرية وبصرية مع المتلقي ، وهذا ما قامت به منار زين حينما اعادت تركيب تلك الحكاية ( المستهلكة ) بطريقة مجددة ، على مستوى الميزانسين حيث اثثت الفضاء المسرحي – على ضيق مساحته المقصودة طبعا – لتخلق معطى جمالي تشكيلي ناتج عن وعي فكري فسر الحكاية المألوفة بطريقة لا مألوفة ، مانحا الصورة الفنية تشكيلات حركية جمالية تلعب على المزج الزمكاني بطريقة دقيقة مدروسة ، وتمنح الممثل وسينوغرافيا العرض دلالات تتدرج بتواليها لا من منطلق الحكاية فحسب بل من واقع اعادة انتاج تركيبة جديدة لهذا المنتج التراثي.
قد تكون صورة لـ ‏‏‏شخص واحد‏، ‏وقوف‏‏ و‏منظر داخلي‏‏
ساهم في ذلك خطتها الادائية للممثل التي تستند على الادراك الحسي بمرجعيات بصرية ، وتناغم جسدي يقارب بين التعبير الحركي والاداء الدرامي بل يكاد يمزجهما ككتلة واحدة لا يستطيع المتلقي التفريق بينها. مع سيطرة كاملة – وإن لم تكن مقيدة – لأداء الممثل الانفعالي حتى لا يخرج من المقاربة الى الاداء الواقعي الكلاسيكي الذي يسعى فيه الممثل لاستدرار العطف او التصفيق.
تغريبة بنت الزناتي من وجهة نظري واحدا من أفضل الأعمال التي رأيتها في السنوات الأخيرة تعاملا مع التراث كعنصر للانطلاق بعمل ينزع عن التراث قدسيته المعتادة ويعيد تشكيله بصورة جمالية وبصرية تجابهه وتستفز فكر و مخيلة المتلقي.
واعتقد أن زين سجلت لنفسها مع هذا العمل موقعا متميزا لمخرجة طليعية تمتلك أدواتها الإخراجية بحرفية واقتدار وجمال.
مع فريق عرض مرن متميز وقادر على التعامل مع المخرجة بتناغم ملحوظ.
قد تكون صورة لـ ‏‏‏‏٢‏ شخصان‏، ‏لحية‏‏ و‏منظر داخلي‏‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت