التمركز الجغرافي للإنتاج الفني ورهان المبدعين الشباب بالمغرب/ د. نزهة حيكون

تجربة الفنان ” نور الدين فوينتي “

المشتل الإبداعي..

 

في البدء..

يخضع الإبداع كأي نشاط إنساني يمارَس في مجتمع له نُظم وقواعد إلى ما تخضع له كل أنشطة الدولة، وبالتالي فهو رغما عن ممارسيه يمتثل لمركزية في الإنتاج والتقي، إذ رغم كل ما قد يُقال عن حرية الإبداع كتجربة جمالية منفلتة، إلا أن تحققه كمنجز ومنتج في الزمان والمكان رهين بمدخلات ترتبط بما هو لوجستيكي ومادي صرف. ومن منطلق تجربة شخصية محليا ووطنيا لن نبالغ إن قلنا إن المدن الكبرى والعواصم تحظى بنصيب الأسد في توزيع حصص التلقي الإبداعي، فأن كان مردّ ذلك للمنشآت ومباني العرض فحسب فالأمر محسوم، إذ تعاني مجموعة من المدن الصغرى – حتى لا أقول الهامشية – من غياب تام لأي منشأة ثقافية، مع التنويه بالجهود الحقيقية للدولة والوزارة الوصية في بناء وتسيير وتدبير المراكز الثقافية في عديد من المناطق وحتى النائية منها، ينضاف إلى ذلك كله غياب ثقافة الفرجة وارتياد المسارح وغيرها من منشآت العرض الفني، ناهيك عن المستوى الاقتصادي للمواطن الذي قد لا يسمح لمجموعة من الشرائح باقتطاع ثمن التذكرة من القوت اليومي، خاصة في المناطق النائية أو العمالات التي تكون على هوامش المدن الكبرى.

لا يعني ما تقدم انعدام الحس الإبداعي والتذوق الجمالي عند جمهور هذه المناطق، لا يعني أنها مناطق لم تنجب مبدعين، بل على العكس تماما فقد أنجبت تلك المدن الصغرى أسماء وازنة على الساحة الثقافية، وفي شتى المستويات الفنية والفكرية والعلمية. عندما يرتبط الأمر بجهة “مراكش – اسفي” مثلا فلا يمكن بتاتا أن نغفل منطقة “الحوز” وعمالاته (تاحناوت – ايت اورير – اوريكة – تمصلوحت – شيشاوة.. ). شباب هذه المدن الصغيرة مفعم بنشاط وحماس كبيرين، يملكون من الأحلام ما قد يشفع لهم أحيانا ضعف التكوين وقلة الإمكانيات، وقد شهدت السنوات الأخيرة تنظيم ملتقيات ومهرجانات نظمتها هذه الطاقات الشابة بتواضع في الموارد المادية والبشرية، لكنها أصيلة في فكرتها، وواعدة باستمرارية وتأصيل لثقافة التلقي الفني والجمالي، كما ظهرت أقلام شابة في التأليف، وطاقات أخرى في التشخيص وغيره من مهام الخشبة، نهل بعضها معارفه الفنية من تكوينات متفرقة أكاديمية وأخرى غير نظامية، وخضع البعض لتدريبات وورشات بالمراكز الثقافية بالمدن الكبرى في الجهة، سواء التي نظمتها المندوبية الجهوية لوزارة الثقافة، أو تلك التي نظمتها الفرق المسرحية المراكشية واستضافت أسماء مشهود لها بالكفاءة.

تذكير..

سنخص بالحديث شابا من مدينة “شيشاوة”، شاب طموح، عرفته مخرجا وممثلا في مسرحية “بامهاود”، وكان المقام وقتها مقام اقصائيات جهوية لمسرح الشباب، وكنت عضوة في لجنة التحكيم، أعجبني الشاب “نور الدين فوينتي” الممثل، الذي صال وجال فوق الركح في شخصية “العطار”، لأكتشف بعد نهاية العمل أنه المخرج أيضا. لم ينل العمل شرف تمثيل جهة “مراكش – اسفي” في الاقصائيات الوطنية، لكن ذلك لم يمنع من الإشادة به، وبالفريق الشاب المفعم حيوية وحبا وحماسا، يومها قلت أن الخشبة تعلن ميلاد مخرج له رؤية خاصة، رؤية قد لا تكون فنية جمالية فقط بقدر ما هي رؤية ذات علاقة بالانتماء لرقعة جغرافية تريد أن تصرخ وتعلن وجودها قائلة: الوطن للجميع، والإبداع ليس حكرا على العواصم والمدن الكبرى.

يُكلّم “نور الدين فوينتي” آليات اشتغاله ببساطة وأناقة، جسد الممثل لا يُترك مهادنا، بل يوَظّف بشكل مركز ومكثّف، أما الاكسسوارات والديكور فهي بسيطة تَشي بقلة موارد الفرقة، وتشي أيضا وأساسا بإبداعية مميَّزة. ما عُرضت المسرحية إلا ووَجدتني أذهب لأعاود مشاهدتها بذات الشغف لأنها نجحت ببساطتها في انتزاع اعجابي بتلك الطاقات الواعدة. أعضاء الفرقة هم من الشباب الخلوق والبسيط، قد لا يتجرؤون على النظر إليك مباشرة وأنت تحدثهم خجلا وتأدبا، وقد لا يملكون من الزاد اللغوي ما يجعلهم يتشدقون بعبارات فضفاضة رنانة لوصف إبداعهم، لكنهم يفيضون طاقة على الركح، يتحولون ثلاثتهم ورابعهم فتاة بملامح هادئة إلى شعلة من النشاط، يقدمون لوحات بسيطة جدا، تكاد تراها مبتذلة في سياق آخر، لكنها تنسجم بشكل جميل في هذا العمل الذي نال إعجاب الجمهور، ونال حظ التسجيل والنقل التلفزي في القناة المغربية الأولى كتتويج مستحق لمجهود هؤلاء الشباب.

تعريف..

قبل التطرق لأعمال هذا المخرج الشاب من الضروري تقديم معطيات التعريف به وبالفرقة المسرحية، وبالتجربة ككل، إذ يعرفون هم أنفسهم هذه التجربة بقولهم: “تجربة عمرها 20 سنة بدأت مع المسرح المدرسي ثم مسرح الشباب فالهواة وصولا مهرجانات وطنية ودولية تم عرض مسرحي على القناة الاولى كأول تجربة عرض مسرحي للشباب، تجربة قادها الفنان العصامي نورالدين فوينتي في مدينة او بالأحرى شبه مدينة تفتقر الى دور الشباب او مركب ثقافي بدأ الاشتغال فسطح المنزل تم النزوح بين مقرات الجمعيات والمؤسسات. اهم اعمال الفرقة سوار المسرحية

مسرح الطفل :خديجة   / حكم غيابي / مدرستي فن/ حمدا حمدا /

مسرح دوي الاحتياجات الخاصة : سمفونية الحياة/ ورشة الخير

مسرح الهواة : بمهاود / لومبلاج /الهوتة

منودرام : عبث / سالف الحكرة. حصول الفرقة على محموعة من الجوائز وطنيا ودوليا كان اخرها عرض مسرحية بامهاود” نسخة باللغة العربية الفصحى” : احسن ممثل  / احسن ممثلة / احسن اخراج / جائزة لجنة التحكيم  مهرجان”.

ويصفون التجربة أيضا باعتبارها: ” مايميز تجربة الفرقة المسرحية تبنيها فلسفة خاصة،مفادها أن الفعل الثقافي عامل للتغير للأفضل باعتبار شباب شيشاوة يعيش حالة فراغ مهول مما يؤدي الى الادمان على المخدرات  و الهدر المدرسي من اجل سد الخواء النفسي و الروحي والتمرد على الذات .. تجربة محمد سالم  كمال نورالدين خديجة تورية عمران بعد تعتر او الانقطاع مسرح سوار قدم الدعم النفسي و التربوي والمواكبة  وجاء الاستدراك حيت اليوم  محمد سالم / كمال نرجس حاصلان  على بطاقة فنان وشهادة اجازة في علم الاجتماع و الادب فرنسي /نورالدين فوينتي  حصل على الاجازة بعد الانقطاع  مدة 16 سنة، و  اليوم استاذ بمدرسة التفتح الفني والادبي .. ”

ليس عبثا..

خشبة مظلمة تُضاء شيئا فشيئا، موسيقى متصاعدة ومخيفة، طفل صغير بجسم نحيل طويل القامة، يبحث في الجدران عن منفذ، يعيش حصارا ظاهرا، حصار ناجم عن عدم الفهم:

  • الطفل: خاصني نفهم (يجب أن أفهم)

شخصية قلقة تبحث عن الفهم والافهام، يُدخل مشجب عُلقت عليه وزرة بيضاء، تمثل شخصية الأستاذ، يضع الطفل وسط المكان سبورة خشبية، ويوجه كلامه لأستاذه، يحكي له كيف كان هو وزملاؤه يسخرون منه، وما النعوت التي أطلقوا عليه، فهو تارة:

  • الطفل: وا مول صيكوك (يا صاحب صيكوك)

وتارة أخرى:

  • الطفل: يا طبيب الأمراض العقلية

عبارات ساخرة، وجمل ركيكة يسخرون بها من الأستاذ، يتناوبون على أسئلة بلهاء فقط لإزعاجه، حركات بهلوانية قد يقوم بها التلميذ لوحده أو بمعية زملائه، ينتج عنها ضجيج يُزعج سير الدرس.

فجأة وسط هذا الجو الطفولي والنزق البريء، يختفي الأستاذ، لا أثر له، تعم الكآبة، التلميذ لا يجد أستاذه، قد تحول إلى حساب عبر الواتساب، وخلف مرآة الحاسوب.

  • الطفل: أتحسسك بين لمسات الشات.. أبحث عن رائحتك بين الصور والروابط.. لا أجدك.. أجد فقط علما بلا روح، معرفة تلبس الغموض.

ننتقل مع التلميذ من روح الفصل الدراسي المتوثبة وحركيتها الكبيرة، إلى سكون الانترنيت، وغموض التعليم عن بعد حيث لا وجود للأستاذ ولروحه، لا وجود لفعل مهم في التربية والتعليم، هو فعل التربية والذي أسمته المسرحية بالتطهير. هي معرفة وصفها المؤلف المخرج بالغموض. مايميز تجربة الفرقة المسرحية تبنيها فلسفة خاصة، مفادها أن الفعل الثقافي عامل للتغير للأفضل باعتبار شباب شيشاوة يعيش حالة فراغ مهول مما يؤدي الى الادمان على المخدرات  و الهدر المدرسي من اجل سد الخواء النفسي و الروحي والتمرد على الذات .. تجربة محمد سالم  كمال نورالدين خديجة تورية عمران بعد تعتر او الانقطاع مسرح سوار قدم الدعم النفسي و التربوي والمواكبة  وجاء الاستدراك حيت اليوم  محمد سالم / كمال نرجس حاصلان  على بطاقة فنان وشهادة اجازة في علم الاجتماع و الادب فرنسي /نورالدين فوينتي  حصل على الاجازة بعد الانقطاع  مدة 16 سنة، و  اليوم استاذ بمدرسة التفتح الفني والادبي …

تنتقل بنا المسرحية وعبر فضاء الفصل الدراسي من حالة المرح والهرج والدينامية، إلى حالة الركود والجمود في تعليم مقنن بمعطيات تقنية، ثم تزج بنا في وضع آخر، وضع الأساتذة المتعاقدين، وما يعيشون من اكراهات الترسيم والإدماج، بل وما تعرض له بعضهم من ضرب وتعنيف جراء احتجاجهم على هذه الأوضاع.

  • الطفل: أستاذ ما هذه البقع الحمراء على وزرتك؟ ما هذا الاحتضار الذي يصرخ من تحت الوزرة البيضاء؟ ماذا حل بك اليوم يا أستاذ؟

تختل حسابات التلميذ فأستاذه يتعرض للإهانة، وهو لا يستطيع له شيئا غير الثورة من مكانه من الفصل الدراسي، يثور ويصرخ ويزمجر، بل يعلن أنه لن يصبح أستاذا، وأنه سيرفع شعار التفاهة التي أصبحت منتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، في إشارة إلى مشاهير (اليوتوب)

  • الطفل: j aime, abonner, partager فعلوا الجرس، عبث اللغة والعودة إلى الوراء، وربما العودة إلى الصواب..

استهداف الأستاذ هو استهداف للإنسان، نسمع صوتا خارجيا:

  • الصوت الخارجي: أنت الفوضى
  • التلميذ: بل هو النظام الأمن والأمان، الهدوء والاستقرار، بدونك حُطمت المعايير مُسخت القيم وساد العبث.

تنتصر مسرحية “عبث” للأستاذ، تنتصر للتعليم في حضرة الأستاذ الناقل للقيم، وقد نجح التلميذ الممثل في تشخيص دوره سواء عبر تنويعات صوته الذي ينفذ إليك في طفولة وبراءة هادئة، أو من خلال حركاته المرسومة بدقة في الفضاء، وخاصة والمسرحية منودراما تعتمد الممثل الواحد في استحضار لشخصية الأستاذ الذي استعاض عنه بالمشجب والوزرة البيضاء، أما العوالم الخارجية فقد حضرت عبر المؤثرات الصوتية من صوت خارجي وموسيقى، وفضاء القسم.

ختاما..

مسرحية “عبث” قُدمت في إطار اقصائيات المسرح المدرسي، تأليف وإخراج نور الدين فوينتي، وهي نغم جميل ومعزوفة مدتها تقريبا خمس عشرة دقيقة، تستمتع فيها بأداء التلميذ الممثل، وبإخراج هادئ غير مصطنع، رغم التحفظ الذي أسجله شخصيا على اختيار المنودرام كشكل فني للمسرح المدرسي، إلا أنها تخلق حالة تلق جميل وهادئ، لكنها تسلط الضوء على ما هو أهم، وهو تجربة المخرج، المخرج الأستاذ، أو المخرج الذي أصبح مؤطرا في مدرسة التفتح الفني والأدبي، وهي الزاوية المهمة في النظر إلى تجربة نور الدين فوينتي وفرقته، وتميزها يقوم على:

  • فكرة المشتل الفني الذي يراهن على شباب المنطقة، ويهدف إلى تكوينهم فنيا.
  • فكرة الانطلاق في الاشتغال من الهموم الخاصة بالمنطقة وما تعيشه من اكراهات، وفي ضوء ذلك تأتي القضايا التي تطرقت إليها أغلب أعمال الفرقة: (الهدر المدرسي، زواج القاصرات، الإنصاف والعدالة الاجتماعية..)
  • التأسيبس لثقافة الفرجة، وتكريس الفعل الفني والثقافي كعامل للتغير والإصلاح المجتمعي.

ولا يسعنا إلا الإشادة بالتجربة واحتضانها، وتسليط الضوء على نقط قوتها علّها تتغلب على ما قد يُضعفها، خاصة وأنها تحمل عناصر نجاحها..

 

* دة. نزهة حيكون / مراكش_المغرب

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت