“خريف التفاح” ربيع السينما / قراءة نقدية: لأحمد طنيش
في البدء أجد نفسي مضطرا أن أقدم للقارئ الكريم طبيعة قراءتي في الفيلم السينمائي العميق للمخرج المفكر محمد مفتكر، “خريف التفاح” هذا الفيلم الذي يعد الثالث في سينماتوغرافيا هذا المخرج بعد “البراق” و”جوق العميين” وقبله تحف الأفلام القصيرة التي بزغ خلالها محمد مفتكر كصوت سينمائي مختلف على مستوى النوع والشكل والمضمون عبر رؤية سينمائية مدروسة وتصاعدية تتجاوز ذاتها وتطوره إبداعيا.
أصرح للقارئ الكريم لهذه الورقة، أن قراءتي ليست بالعاشقة ولا بالموجهة ولا حتى بالارتسامية بل هي قراءة واقعية تلقائية بوحية وواعية بمنهجها جمعت معطياتها من خلال تلق أولي لفيلم مرتبط ببعضه غير مطنب ولا بخيل ولا لغوي (بفتح اللام وضم الغين)، إذ وظف لغات السينما المتعددة، لإيصال بلاغة فيلم ينطق سينما حقيقية تحكي بالصورة وبجزئياتها وجمالياتها.
أصرح بكامل وعي حروفي، أن قراءتي ستكون من داخل الفيلم ولن تضح بملاحظات خارج الفيلم؛ إذ أعترف أن هذه الأخيرة ساعدتني أنا شخصيا أن أتمتع بفرجة موازية للفرجة السينمائية المرسلة، وهي متعة إضافية أود أن أشاركها مع قارئي المفترض. وهكذا سأقسم هذه القراءة إلى آفاق متداخلة مع بعضها البعض وكأنها مشاهد سيناريو متأثر بالتقطيع الذي سار عليه الفيلم موضوع القراءة “خريف التفاح”.
قبل اللجوء إلى الآفاق المنتظرة بتتابعها البنائي، سأقف مع الثلاثي محور السرد الفيلمي وقضيته مع الممثلين الثلاث، سعد التسولي ومحمد التسولي وفاطمة خير، حيث تجمعهم علاقة أسرية، كون أحمد/سعد التسولي ابن حقيقي لمحمد التسولي فتمة مغامرة في التوزيع، فهل من الممكن الفصل والوصل في هذه الحالة، تم أن فاطمة خير زوجة حقيقية لسعد التسولي وزوجته في الفيلم فكيف يحصل الفصل والوصل، ونفس الأمر يحكى عن علاقة فاطمة خير مع محمد التسولي أب زوجها فهل يحصل الفصل والوصل، مع ملاحظة بانية أن التوزيع في هذا الإطار كان له ذكاء أن يستثمر في هذا الجانب لصالح الفيلم، وكأن المخرج يود أن يطمئن على ممثليه وعلاقاتهم ومشاهدهم؛ وقد لا مسنا ذلك من خلال عدة مشاهد حميمية وخاصة ولها العمق الإنساني.
أفق انتظار أول:
وصلتني الأصداء عن الفيلم من خلال مشاركته في المهرجان الوطني الحادي والعشرين وحصده للجائزة الكبرى ولأهم الجوائز الأخرى جائزة أفضل تصوير في المهرجان نفسه، وكذلك جائزتي النقد، إحداها تقدمهما الجمعية المغربية لنقاد السينما، والأخرى باسم الجمعية الوطنية للأندية السينمائية.
تم مشاركة “خريف التفاح” في 2 دجنبر 2020 بمهرجان القاهرة السينمائي، ضمن فعاليات الدورة 42 من الحدث السينمائي، هذه الدورة وهذا الاحتفاء بالفيلم خارج الوطن الذي حضره الفيلم ولم يحضره المخرج الذي عوضته كلمته البليغة، التي صرح فيها: “شخصيا أرى السينما في كل شيء جميل ومعبر، أراها في قصيدة وفي لوحة وفي رواية وفي مسرحية وفي تحفة منحوتة وفي قطعة موسيقية وحتى في نكتة، لم لا.. فالسينما ليست حكرا على السينما فقط، السينما توجد حيث التعبير الجمالي الصادق. السينما نظرة شعرية للعالم، نحملها معنا منذ الأزل وقبل أن تكون صناعة ضخمة غزت القرن العشرين. إبحث عن السينما بداخلك وأخرجها إلى الوجود قبل أن تجهد نفسك عبثا في البحث عن الموارد المالية لإخراجها. المال يتبع وليس هدفا لذاته، هو وسيلة فقط وليست غاية. التعبير الصادق أقوى حتى في جلبه للموارد المالية التي تأتي لخدمة الفيلم لا للإغتناء، فكن صادقا في تعبيرك الجمالي، يتبعك المال لتحقيقه، فداخل قاعة مظلمة، حيث ينسى الناس كل شيء، ويعم الظلام، هي فقط الأفكار والتعابير الفنية ما نشاهده على الشاشة المضيئة، وليس المال”.
أفق انتظار ثان:
تأتى لنا أن نتواصل مع “خريف التفاح” بمناسبة عيد السينما بمراكش في حفل الافتتاح الجمعة 5 نونبر 2021. وشخصيا قادتني كلمة المخرج المفكر، محمد مفتكر، التي أرسلها سفيرة مع فيلمه إلى مصر، في التلق الخاص للفيلم، وبذلك ستحضر في قراءتي ضمنيا وتصريحا، وأعلن أن قراءتي ستكون من داخل الفيلم ومن خارجه بتكامل مترابط لم ولن يسطيع أن ينفك لدي وذلك على المستوى الشخصي، سيما وأعتبره مدخلا للقراءة، وسأقدمه في توطئتي الأولى:
ذكاء الكاستينغ والتوزيع: أولا لنعترف أنه فيلم حبك وأرسل بسيميائية الأجيال الثلاث: الطفل محور السرد الفيلمي، تشخيص الطفل أنس باجودي وجيل الوسط مع المثلين الكبيرين سعد التسولي وفاطمة خير، كآباء صحبة حسن بديدا “العسكري” وأيوب اليوسفي “المعلم” وجيل الآباء والأجداد نعيمة المشرقي ومحمد التسولي، 7 ممثلين كما 7 تفاحات و7 مشاهد كبرى بأماكن 7 كبرى أعتبرها المفاتيح السرية لفك طلاسيم هذا الفيلم، متمثلة في مشهد البداية والفضاء الأول الذي استقبلنا تم ختم لنا الحكاية بماء يسقي شجرة التفاح، وفضاء ثان البئر مصدر ماء وحياة، والفضاء الثالث شجرة التفاح التي تتوسط البيت كما الحكي والسرد والتصاعد إلى درجة محاولة قطعها تم لمها بقطعة توب كجريح، والفضاء الرابعغرفة الجد والجدة والفضاء الخامس غرفة أحمد والفضاء السادس المدرسة ومحيطها والفضاء السابع فضاء القرية ومساراتها الوعرة وسط الصخور.
ويضاف إلى هذا الذكاء، التوزيع الجمالي وتأثيث الفضاءات تشكيليا، من خلال أثاث الفضاءات الداخلية، البيت الغرف المدرسة وأكسسواراتها ومقوماتها، ومركز المتلاشيات، وجماليات الفضاءات الخارجية بإنارتها الخاصة، ويندرج هنا ذكاء التصوير الذي قدم لنا معرضا من اللوحات تتحاور مع التيمة الفيلمية.
أفق انتظار ثالث:
يحكي الفيلم قصة ومعاناة طفل في السن العاشر من عمره، لم يعرف أبدا أمه التي اختفت في ظروف غامضة مباشرة بعد ولادته، كما يصطدم بتنكر والده له وعدم اعترافه به والشك في نسبه، بحضور جد وجدة يدافعون عنه ومحيط تشاركه فيه إمرأة تحن للأب وللابن في علاقة غامضة هي الأخرى ترتبط جدليا بمعلم القرية وخادم له حضور بالمعنى والرمز.
عبر الحكاية الفيلمية نجد أنفسنا أمام سيناريو، كتب بلغات السينما بنظرة شاعرية للعالم، وظفت الحكي والسرد والتقطيع السينمائي بإيقونات متراسة ومتحاورة ومتكاملة مع بعضها البعض، أعطتنا تحفة كسرت لنا أفق الانتظار؛ إذ بدل أن نرى خريفا له علاقة بالعمر أو بالطبيعة أو بالأحاسيس، رأينا ربيع حكي وسرد.
في الرسالة التي بعتها محمد مفتكر كسفير عن فلمه يقول: ابحث عن السينما بداخلك وأخرجها إلى الوجود، وقد لا مست هذا من خلال السيناريو الذي كتب بالعين وبالصورة ووظف لغات متعددة كانت لها بلاغة السرد والحكي المبني بدء من الماء الذي استقبلنا ترميزا للحياة، تم لقاء الماء والنار والمعرفة، والحضور السيميائي والإيحائي للشجرة والتفاح، إذ ثمةَ تعددا في مستويات الدلالة ، أوصلتنا إلى التمييز بين ثلاثة أنواع في وجود المؤول وهي : ( المؤول المباشر، والمؤول الديناميكي، والمؤول النهائي)، وهي أنواع بل مستويات ثلاث للقبض على الدلالة التي خاطبتنا فيها رؤية المخرج المفكر محمد مفتكر، الذي تدعونا سينمائيته وسينماه إلى التسلح بأدوات نقدية للتأويل للوصول إلى المعنى.
أفق انتظار رابع:
ذكاء البلاطو والديكور بإنارته وأكسسوارته ومكملاته مع الصورة وبلاغتها: اعتمد الفيلم على مشاهد خارجية نهارية ومعظمها ليلية، لكون الحبكة تضم مأساة وعنف إحساس غير واضح يجمع بين الشدة واللين وبين الضعف والقوة وبين النكران والوفاء، ومشاهد أخرى داخلية كانت بدورها جوانية خاطبت الذات والخصوصية مثل مشهد الجد والجدة الذي خاطب الرغبة، ومثل مشهد اقتحام غرفة أحمد الذي هاجرها، ليكون بلاطو اعتراف وكتشاف الحقيقة، (متيقش بللي قالو ليك، تيق في اللي شافتو عينيك)، وترى العين الأحاسيس وتصل إلى المعنى.
وكانت بلاغة المعنى عبر مبنى المشهد الذي اجتمع فيه الداخلي بالخارجي حينما اتكأ الأب أحمد على جانب من الغرفة وهو ينظر إلى الشجرة وإلى الأب والزوجة، والابن متكئ هو الآخر على الحائط الجانب الآخر في شكل شبيه وهو إشارة أننا أمام حوار الأجيال الثلاث وأن الخريف يحضر خارج الذات وأن التفاح حلو وأن الشجرة لها دوام الشباب ولم ولن تشيخ ولم ولن يلحقها الخريف وهي دعوة للحياة.
أفق انتظار خامس:
يعدنا “خريف التفاح” بفرجة سينمائية باذخة يجتمع حولها عشاق السينما ومحبيها مع جمهورها الواسع، كونها احتفت بالسينما الحقيقية نحو فرجة حقيقية للجميع، ننتظر برمجة القاعات السينمائية لهذه التحفة التي تحتفي بسينما تشبهنا وتحترمنا.