مدخلٌ إلى مفهومِ الجمالِ في الفنِ / مجيدْ عبدَ الواحدْ النجارْ
لقدْ أصبحتْ فلسفةُ الجمالِ فرعا منْ فروعِ الفلسفةِ في النصفِ الأخيرِ منْ القرنِ الثامنِ عشر ، وقدْ بادرَ الفيلسوفُ بومجارتينْ 1714 – 1762 بوضعِ تسميةٍ لهذا الفرعِ حيثُ أسماهُ ( أستاطيقيا) Aesthefics وقدْ حددَ موضوعةً في الدراساتِ التي تدورُ حولَ الشعورِ والخيالِ الفنيِ ، وهذا المنطقُ اختلفَ كلُ الاختلافِ عنْ منطقِ العلمِ والتفكيرِ العقليِ ، وقدْ أكدَ هذا الاتجاهِ وسارَ عليهِ الفيلسوفُ الألمانيُ الكبيرُ عمانويلْكانطْ ، والذي قالَ ” إنَ الخبرةَ الجماليةَ لا ترجعُ إلى النشاطِ النظريِ الذي يقومُ بهِ الذهنُ والذي يحددُ شروطَ المعرفةِ في علومِ الرياضياتِ والفيزياءِ”([1]).
وقدْ أكدَ هذا الفيلسوفِ الألمانيِ ( بومجارتنْ ) في كتابهِ ( تأملاتٌ فلسفيةٌ ) إلى ربطِ تقويمِ الفنونِ بالمعرفةِ الحسيةِ مما جعلهُ يعدْ مؤسسٌ لهذا العلمِ .
وقدْ أصبحتْ بعدَ ذلكَ الأستاطيقيا منْ المصطلحاتِ المهمةِ والتي تناولها العديدُ منْ الباحثينَ في دراساتهمْ ومقالاتهمْ ومحاضراتهمْ للطلبةِ ، كما تناولهُ المثقفونَ في جلساتهمْ ومناقشاتهمْ الثقافيةِ والمعرفيةِ ، وقدْ برزتْ أسماءً مهمةً بهذا المجالِ ، لدرجةَ أنَ هذا المصطلحِ أصبحَ شغلهمْ الشاغلُ ، وقدْ رصدَ الشاعرُ ( دانَ بولٌ ) هذا الحدثِ ووصفهُ بالقولِ ” إنَ زماننا لا يعجُ بشيءٍ بقدرِ ما يعجُ بعلماء الجمال “، ولا يخفى على المتخصصينَ في هذا المجالِ ، أنَ المصطلحَ كانَ متداولاً بينَ الفلاسفةِ في عهدِ اليونانَ ( كأفكارٍ ) متفرقةٍ ، ولمْ يحددوا المصطلحُ كما هوَ عليهِ الآنَ ، ولكنَ تناولهُ الفلاسفةَ المعروفينَ ، عندَ الحديثِ عنْ الأحاسيسِ والمشاعرِ والوجدانِ الإنسانيِ ، فقدَ تناولهُ ( أفلاطونْ وأرسطو ) في عهدِ الإغريقِ ، وكذلكَ في عهدِ الرومانِ عند ( شيرونْ ) ، وآخرونَ .
والفنُ بوصفهِ اصطلاحا شاملاً جامعا لكلِ الفنونِ الإنسانيةِ ، يشملَ كلُ ألوانِ المهارةِ والإنتاجاتِ الثقافيةِ والمعرفيةِ التي تتأملُ الناسَ ، والتي تستخدمُ بمادةِ الإثارةِ والخبرةِ الجماعيةِ ، وقدْ يكونُ الفنانُ قدْ فعلَ هذا المنتجِ بقصدِ أوْ بدونِ قصدٍ ، أوقدَ يكونُ لهُ وضائفْ وغاياتُ قصديةِ أوْ غيرِ قصديةٍ عندَ تناولهِ لهذا المفهومِ أثناءَ الطرحِ والتداولِ ، وبطبيعةِ الحالِ أنَ الفنانَ يحاولُ أنْ ينقلَ وجهةَ نظرهِ للآخرينَ ، أوْ يحاولُ أنْ يدورَ لهمْ الواقعُ كما يراهُ بحسبَ وعيهِ وثقافةٍ ، وانْ يقدمُ لهمْ الجمالُ كما يحسهُ ويشعرُ بهِ ، وإرسالَ رسالةٍ جماليةٍ ، ومعرفيةٌ يحاكي بها واقعُ الجمهورِ الذي يعيشهُ ، وأحيانا يرسمُ لهُ واقعا متخيل ، منْ أجلِ تحريضهِ على الواقعِ الذي يعيشهُ هوَ ، علما أنَ المهاراتِ الفرديةَ والنفعيةَ كانتْ مثلٌ : الصناعةُ والزراعةُ والطبُ وحتى الحروبِ كانتْ تسمى فنونا .
أنَ الفنَ يعتبرُ منْ أكثرِ المفاهيمِ مراوغةً في تاريخِ الفكرِ الإنسانيِ ، شأنهُ شأنَ التنفسِ منْ حيثُ إنَ لهُ إيقاعٌ ، وشانْ الكلامِ منْ حيثُ إنَ لهُ عناصرُ تعبيريةٌ . . أنَ الفنَ ينخرطُ بعمقٍ في العمليةِ الواقعيةِ للإدراكِ والفكرِ والعملِ الحسيِ ، وليسَ لهُ مبدأٌ يطبقُ على الحياةِ ، بقدرِ ما هوَ آليةٌ عامةٌ لا يمكنُ الاستغناءُ عنها ، إلا على حسابِ وجودنا .
أنَ الفنَ هوَ كالهواءِ الذي نتنفسهُ ، وكالترابِ الذي نعيشُ عليهِ ، يحيطانِ بنا منْ كلِ جانبٍ ولا يمكنُ الاستغناءُ عنهما ، وذلكَ لأنَ الفنَ ليسَ مثل الأشياءِ التي نجدها بالمتاحفِ وصالاتِ العرضِ ، أوْ بمدنِ قديمةٍ ، فمهما كانَ تعريفُ الفنِ فهوَ موجودٌ بحياتنا نعيشهُ ويعيش معنا ، ونحنُ نعيدُ الحياةُ بهِ منْ خلالِ لوحةٍ ، أوْ منحوتةٍ ، أوْ معزوفةٍ موسيقيةٍ ، أوْ عرضٍ مسرحيٍ ، أوْ فلمْ سينمائيّ ، بمعنى آخرَ إننا نستطيعُ تدويرُ الواقعِ منْ خلالِ الفنِ بما تراهُ عينُ الفنانِ ، وعينَ الفنانُ ليسَ كباقي العيونِ ، فهيَ تستوقفُ الأشياءُ وتحكي معها وتستنطقها بما تراهُ منْ جمالِ بداخلها . يقولَ جانْ كوكتو ” الشعرِ ضرورةً . . . وآهْ لوْ كنتُ أعرفُ لماذا ” بهذهِ العباراتِ الجميلةِ والرقيقةِ يعبرُ في الوقتِ نفسهِ عنْ حيرةِ هذا الفنِ في العالمِ الغربيِ . كما يعبرُ المصورُ ( موندريانْ ) ، عنْ الفنِ بقولهِ : إنَ العملَ الفنيَ لا يعدو أنْ يكونَ تعويضا لا انعدامَ التوازنِ في الواقعِ الوهنِ ، ويرى أنهُ كلما ازدادَ الواقعُ اقترابا منْ التوازنِ المطلوبِ ، تناقصتْ الحاجةُ إلى الفنِ حتى أنهُ قالَ باحتمالِ اختفاءِ الفنِ أصلاً ([2])، هذا لأنَ الفنَ لا يسلبُ منْ الواقعِ جمالهُ بلْ هوَ منْ يزيدهُ جمالاً ، أوْ يضيفُ لهُ جمالاً آخر ، الفنُ والجمالُ لا يفترقانِ فهما يعيشانِ معا منْ أجلِ خلقٍ واقعٍ غيرِ الواقعِ المعاشِ رغمَ أنهُ ينطلقُ منهُ .
أما علمُ الجمالِ فلا يستطيعُ أحدُ تعريفهِ ، لأنهُ علمُ مقاييسِ الجمالِ الذي يتطلبُ معرفةَ قواعدهِ ، فلا بدَ أنْ تأخذَ في الاعتبارِ عندَ إنتاجِ الأشياءِ الجميلةِ ، والمعنيونَ بهذا العلمِ يعرفونَ أنهُ لا توجدُ مواصفاتُ وقواعدُ يضعُ العملُ الفنيُ بناءً عليها ، وهذا إلا وجودٌ لا يعني وجودَ خللٍ في بنيةِ علمِ الجمالِ كونهُ علم ، بلْ هناكَ نظراتٌ جماليةٌ متعددةٌ بحجمِ جمالياتِ القارئِ للوجودِ ، فكلا يقرئ بما يراهُ بما لديهِ منْ مواصفاتِ وقواعدَ خاصةٍ ، أيْ بمنظارهِ الخاصِ الذي يعرفُ كيفَ ومنْ أينَ ينظرُ للأشياءِ ، أوْ مكوناتِ الوجودِ ، ولكونَ علم الجمالِ هوَ علمُ تجاربِ الشعورِ أوْ الإحساسِ ، لذلكَ لكلا لهُ طريقتهِ بعملِ هذهِ التجاربِ منْ أجلِ الوصولِ إلى نتائجَ إيجابيةٍ تظهرُ الوجودَ أجملَ منْ وجودهِ .
وقدْ اشتركَ بتعريفِ علمِ الجالْ كل منْ ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا بأنهُ علمُ الأحكامِ التقويميةِ التي تميزُ بينَ الجميلِ والقبيحِ .
وانْ لفظةٌ (أستاطيقيا) (علمُ الجمالِ) يعودُ في أصلهِ إلى اليونانَ فهوَ مشتقٌ منْAisthesisالتي تعني الإحساسَ ويفيدُ معناها الاشتقاقيُ ( نظريةُ الإحساسِ ) ويتضمنُ الإدراكُ الحسيُ :
1 . المعرفةُ الحسيةُ أوْ الإدراكِ الحسيِ
2 . المظهرُ المحسوسُ
أنَ الجمالَ يقربنا منْ جوهرنا الإنسانيِ أكثرَ ويجعلنا أرقى اجتماعيا وأكثرَ نفعا ويقوي منْ إدراكنا للواقعِ المحيطِ ويمدنا بأدواتٍ يمكنُ عنْ طريقها أنْ نفسرَ ماهيةُ الحياةِ بلْ وحتى أكثر منْ ذلكَ باعتبارِ أدواتِ المعرفةِ يعطينا القدرةَ على لعبِ دورٍ مؤثرٍ في التحكمِ بآلياتِ التعبيرِ .
أنَ علمَ الجمالِ هوَ الميدانُ الذي يؤدي فيهِ الأدبُ والفنُ دورا عظيما في تربيةِ الناسِ الفكريةِ ، ويزودهُ بالشحنةِ العاطفيةِ ، وبالقوةِ العظيمةِ ، والقدرةُ على التأثيرِ في مشاعرِ الإنسانِ ، وعقلهُ وإرادتهُ ، ولهذا فإنَ علمَ الجمالِ واحدٍ منْ ميادينِ الحياةِ المهمةِ .
أنَ هذا العلمِ مرتبطٍ ارتباطاعضويا بقضيةِ تربيةِ الناسِ تربيةً جماليةً، يتحدثَ فيها البحثُ النظريُ اتحادا وثيقا بالممارسةِ العمليةِ، التي تهدفُ إلى تكوينِ الإنسانِ الجديدِ المتطورِ تطورا شاملاً ([3])، لهذا لمْ يكنْ يقرأُ الفنانُ الحياةَ كما يقرأها الناسُ الذينَ يعيشونَ معهُ فيها ، بلْ هوَ يخترقُ المألوفُ ليأتيَ بجمالياتٍ لمْ تأتيَ في مخيلةِ الناسِ ، لذلكَ فهوَ – أيْ الفنانِ – المسؤولُ عنْ تعليمِ ما لمْ يرى الواقعُ كما يراهُ هوَ .
وقدْ يتفقُ الكثيرُ على أنَ الفنَ هوَ نشاطٌ إنسانيٌ تمَ الاستدلالُ عليهِ منذُ عصورِ ما قبلَ التاريخِ ، هذا النشاطِ ينتجهُ مجموعةً منْ البشرِ الذينَ يمتلكونَ موهبةٌ إبداعيةٌ وابتكاريةٌ ، ويكونَ لديهمْ القدرةُ على التعبيرِ عنْ طريقِ الوسائطِ الفنيةِ عنْ أفكارٍ وموضوعاتٍ تؤثرُ في الآخرينَ ، لقدْ تمَ تعريفُ كلمةِ فنِ تاريخيا على أنها ( المهاراتُ ) للإشارةِ إلى مهارةٍ أوْ إتقانٍ ، ولقدْ تعتبرُ هذا المفهومِ منذُ ظهورِ الاتجاهِ الرومانسيِ في تاريخِ الفنِ ، حيثُ تمَ تصنيفُ الفنونِ تبعا للعلومِ الإنسانيةِ([4]).
إذنُ لابدِ أنْ يدربَ إحساسُ الإنسانِ بالجمالِ بواسطةِ الفنِ ، كما يدربُ إدراكهُ للواقعِ بواسطةِ العلمِ ، ومنْ خلالِ التعبيرِ الفنيِ يكتسبُ الجمالُ الطبيعيُ قيمةً ويصبح موضوعا للتذوقِ الفنيِ ولذلكَ يمكنُ أنْ يقالَ إنَ موضوعَ علمِ الجمالِ ليسَ هوَ الأشياءُ الجميلةُ التي ندركها بشكلٍ مباشرٍ بلْ هوَ أقربُ إلى أنْ يكونَ تفسيرا للتعبيرِ الجميلِ عنْ الأشياءِ سواءٌ كانتْ طبيعيةً أوْ مستمدةٍ منْ الحياةِ الإنسانيةِ.
وعندما يكونُ الإنسانُ مدربا تدريبا علما ، يمكنهُ بهذهِ الحالةِ أنْ يشاركَ الفنانُ بقراءاتهِ للواقعِ وإضافةِ جمالياتٍ جديدةٍ أوْ خلقِ جمالياتٍ للوجودِ الخالي منْ الجمالياتِ في نظرِ منْ لمْ يدربْ على رؤيةِ الجمالِ الداخليِ المكبوتِ في تكوينِ الأشياءِ ، ومنْ هنا يظهرُ لنا إحساسُ الإنسانِ المتذوقِ للجمالِ وعارفْ لأسرارهِ ، كما يظهرُ لنا قيمةُ الإنسانِ الحقيقيِ منْ خلالِ قراءاتهِ الجماليةِ .
إذنٌ فعلمَ الجمالُ يعني بالقيمِ الجماليةِ منْ خلالِ الأعمالِ الفنيةِ ، ومنْ خلالِ السلوكِ الإنسانيِ ن في المجتمعِ ، فكلُ متدربٍ على علمِ الجمالِ بإمكانهِ التأثيرُ بالآخرِ منْ أجلِ أنْ يكونَ لدينا مجتمعٌ يحبُ الجمالُ ويتطلعُ إلى حياةٍ جميلةٍ ، وهذا هدفُ الفنانِ الحقيقيِ ، فهوَ – أيْ الفنانِ – المسؤولُ عنْ الذوقِ والجمالِ في المجتمعِ . ويبقى الحكمُ على الجمالِ حكم ذاتيٍ وهوَ يتغيرُ منْ شخصٍ إلى آخرَ ولهذا فإنهُ يختلفُ عنْ الحكمِ المنطقيِ القائمِ على التصوراتِ العقليةِ .
الإحـــالات:
[1]): ينظر : د. اميره حلمي مطر ، مقدمة في علم الجال وفلسفة الفن ، (دار المعارف ، القاهرة ، 1989)
[2]): ينظر : ارنست فيشر ، الاشتراكية والفن ، ترجمة : اسعد حليم ، ج2 ( بيروت ، 1980 )
[3]) :ينظر : قاسم المحمد القحطاني ،(علم الجمال والمفاهيم الجمالية مدخل .. الانسان كائن جمالي)، كوكل.
[4]) :ينظر : محمد علوش ،( فلسفة الفن وعلم الجمال : دراسات عليا) ، كوكل ، 18/2/2009.