” باي باي جيلو” مسرحية تكشف المستور وتعري القطط التي تأكل أبناءها/ حيدر ابو حيدر
عن نص للشاعر طه عدنان مؤلفا و الدكتور ابراهيم الهنائي مخرجا، و تمثيل الفنان جمال كنو وبمشاركة زميلته فاطمة الزهراء شتوان و سينوغرافيا عبد العزيز ماهر،و موسيقى وغناء الفنان حسن شيكار، قدمت فرقة مسرح الجيب ومديرها الاستاذ عادل المنصوري على خشبة مسرح دار الثقافة في الداوديات مسرحية:” باي باي جيلو” يوم السبت 18 دجنبر 2021 بحضور جمهور كبير افترش الارض بعد ان امتلأت قاعة العرض بالكامل..
هناك فارق كبير ما بين الهجرة و البحث عن واقع مريح تجري من تحته انهار العسل و النساء ، وما بين التهجير القسري بسبب المواقف او الحروب او الاضطهاد. شخصية الجيلالي او جيلو في المسرحية تنتمي الى الفئة الاولى.. شاب لم تعوقه الحروب حيث اللاحروب. شاب حالم غير معني بصراعات الكون سوي بالطيران بجناحين قويين، وحينما يعلو بطيرانه الافتراضي يتحول الي رائي لكل الاشياء التي يراها حيث تتحول قريته و مدرسته الى اشكال صغيرة الحجم، طائر يحوم فوق (معزتين وجوج زويتينات ). كل ما تملكه عائلته.. لم تكن فكرة السفر والهجرة في اولوياته، لولا اصرار امه للخلاص منه بالتوسل لعمه الذي هو الاخر يعيش في بلجيكا لتهريبه في السيارة عبر الحدود..
ان ظاهرة الهجرة غير الشرعية ليست جديدة بل هي تمتد لسنوات منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة وحتى يومنا هذا. فبعد ان قسم العالم الرأسمالي الصراع الي كتلتين متنافرتين اطلقت الاحتكارات الجديدة مصطلح (الشمال الجميل والجنوب القبيح) والمقصود منها أوروبا الجميلة وبلدان العالم الثالث الفقير. وبعد ان سيطر تجار الحرب علي مجمل الثروات لخدمة تطورها الاقتصادي، اغلقت حدودها امام المهاجرين بينما بقت بلدان ما يسمي بالعالم الثالث ترزخ تحت خط الفقر. و من هنا بدأت الهجرة المعاكسة بحثا عن الشغل وتحسين دخل الفرد،
وبما ان الجيلالي في مسرحية طه عدنان ليس فيلسوفا او شاعرا ولا مناضلا سياسيا له خبرة في اقبية التحقيقات الجنائية. بل انه خارج هذه التصنيفات، فلو توفرت له بعض الدراهم ليشتري (حلوي الشباكية ) لترك التفكير بالشوكولاتة البلجيكية ولظل حالما بالطيران في فضاءه المتخيل. انما هو كما يقول المثل الشعبي (من اهل الله) يحلم ضمن حدود الفنتازيا، طائر بجناحين يجتاز الحدود من غير تصاريح رسمية، ولا يتعدى تفكيره اليومي غير الشوكولاتة والنساء في بلجيكا، ليجد نفسه مختبئ في سيارة عمه بلا جناحين مواصلا رحلته الكارثية. لذلك بناء شخصية جيلو عند طه عدنان لم تأتي من الفراغ، بل هي انعكاس لما شاهده من اعداد كبيرة من المهاجرين الغير شرعيين الذين قصوا له حكاياتهم او ترحالهم وحتى مشاكلهم النفسية.
وبلغة الشاعر والعارف خلق لنا سردا متماسكا بنكهة السخرية، التي طرح من خلالها عشرات الأسئلة بتيمة درامية متماسكة جعل من الهجرة عذاب مستمر وضياع لروح الانسان. وما موت جيلو الا ادانة موشومة بالخزي للشمال الجميل ضد الجنوب الفقير.
طه عدنان رغم كتاباته النثرية ودواوين شعره المعاصر ولغته الرمزية الجميلة الا انه في “باي باي جيلو” استخدم لغة السرد النثري الشعبي المحكم والدلالات العميقة التي لا تخلو من النقد والاصطفاف مع شريحة (اهل الله)، لذلك فان نص “باي باي جيلو “ممكن ان يقدم في كل البلدان وفي اي مكان. لان الواقع الاجتماعي والسياسي في اسيا هو نفسه في افريقيا وحتى في امريكا اللاتينية، فكل هذه الاماكن تمتلك المتشابهات مادام القهر واحد.
ثم يأتي دور الاخراج ليضعنا امام اسئلة جوهرية منتفضة، فقد استطاع المخرج الدكتور ابراهيم الهنائي ان يقرا النص بشكل اخر تماما، قراءة فلسفية مغايرة تلتقي مع جوهر النص وتختلف في بنية بناء الشخصية. فلم يكن ذلك الجيلالي الحالم بالطيران بل جيلو المتمرد الرافض لمجمل عذاباته القديمة والجديدة.
ففي إحدى حواراته مع الشرطة البلجيكية يقول جيلو
– صحيح انا سرقت لكني لست مجرما.
يذكرنا بالكاتب المسرحي جان جينييه حينما يسرق كتابا ويساق للمحكمة. فبين سرقة جيلو لقنينة الكوكاكولا وسرقة جينييه للكتاب يكمن جوهر الصراع الطبقي.
استطاع الهنائي ان يخلق لنا نبي شعبي غير معصوم من الاخطاء.. ورغم الاحتفاظ بتيمة النص الاصلي من حيث المضمون الا ان الوجه الاخر لجيلو اختلف فقد صيره متمردا وحكيما في ان واحد رغم جميع مساوئه، جعل منه ثائرا علي فكرة (الشمال الجميل) وينحت في شخصية الجيلالي وينفخ فيها روح السحر و الحضور المتميز على الخشبة، بطريقة العارف بكل عناصر اللعبة المسرحية الحديثة.
فقد ادان العنف البوليسي خصوصا في المشهد الاخير اثناء اعتقال جيلو في المطار وارغامه على الاذعان والعودة الي موطنه الاصلي، حيث جعل جمهور العرض في حيرة الاسئلة، هل مات جيلو؟ وإذا ما مات، كم جيلو اخر سيصادف نفس المصير؟
اشتغل الدكتور الهنائي علي جمهور العرض ليس باعتباره عنصرا للتلقي فحسب بل متفاعلا وناقما ومتعاطفا اثناء مجرى العرض.
استطاع الهنائي ان يقسم مجريات العمل المسرحي الي وحدات حركية توزعت على شكل مشاهد منتظمة ومتصلة بإيقاع دقيق.
سبق ان قدم هذا العمل بشخصية واحدة مونودرامية وقام ببطولته الفنان جمال كنو ايضا، الا انه الان قدم لنا شخصية ثانية هي فاطمة اشتون لتقوم بجميع الادوار في رحلة الجيلالي ولهذا اخرج العمل من الرتابة المألوفة الي فضاء متعدد الشخصيات. ورغم شحة الاضاءة وما تعانيه كل الفرق المسرحية في هذا الجانب استطاع الهنائي ان يقرب معظم مشاهد المسرحية الى مقدمة يمين ويسار المسرح وفي الوسط,لكي يضع الشخصيتان الرئيسيتان بالمواجهة الكاملة مع الجمهور، كما لو انه يريد ان يجعل جمهور العرض شاهدا على المأساة.
ثم يأتي دور الممثل جمال كنو ليحلق هو الاخر بفضاء المسرح ابعد من سماء الجيلالي، فقد لامس ذهنية الجمهور من خلال الاقناع جسديا وتشخيصا والقاء مرن، ممثل مثقف يعي ملاحظات المخرج، ويبدو ان الهنائي ترك له مساحة واسعة في حرية الحركة على الركح.
وكما شاهدنا سابقا جمال كنو في مسلسل عمر بن الخطاب في دور صغير لا يتناسب وامكانياته الكبيرة، الا انه في “باي باي جيلو” اثبت انه ينتمي للمسرح، لهذا السحر الجمالي والمعرفي المباشر. المسرح الذي يطلق للمثل التحكم بالجسد والصوت ومجمل لعبة الاداء. امام جمهور يعتبر من أخطر النقاد واصدقهم. ولذلك لا يمرر اي عمل نحو الذاكرة الجمعية دون شهادة الجمهور الصادقة. لذلك ترك جمال كنو اثرا رائعا في حس وذهنية الجمهور المتفاعل معه.
وكانت لزميلته علي الركح الفنانة فاطمة الزهراء شتوان دورا وحضورا مكملا وحتي منفصلا في بعض الاحيان وان تجسد اكثر من شخصية مختلفة اثناء سير العرض، فكانت الام و الشرطية و الصديقة البلجيكية و زوجة العم ،كل هذه الشخصيات تتطلب مهارات جسدية و صوتية مقنعة ، وفعلا حققت فاطمة شتوان كل ذلك التنوع باسترخاء, وتشخيص وباجتهاد عال. ان ثنائية العرض كسرت نمطية العرض في المونودراما واستكملت عنصر الفرجة المسرحية بإتقان..
كان لوجود السينوغرافيا قراءة ثالثة للنص، فقد استطاع الفنان السينوغرافي المعروف عبد العزيز ماهر ان يذهب ابعد من تاريخ الهجرة ويرسم لنا فضاء المسرح بمضارب الخيم مدونة عليها اشعار ومواقف النفري وهو أحد شيوخ المتصوفة في العهد العباسي. ان هذا الاختيار الذكي انما يذكرنا بالشيخ ابن عربي الذي سلط الضوء على سيرة واقوال النفري، ولولاه لظل منسيا عن التدوين. حتى أدونيس تبني فكرة ان يكون النفري السلف الشرعي لقصيدة النثر العربية.
لذلك اعاد الفنان عبد العزيز ماهر هذه الشخصية الغريبة للمسرح من خلال سينوغرافيا “باي باي جيلو”. ليختار بعض الاقوال والاشعار للنفري خصوصا تلك التي تتعلق بالبحر والترحال ليضعنا امام تشابه ذكي مع شخصية الجيلالي. فكلاهما يعشقا الترحال والسفر.
من هنا جاء شكل السينوغرافيا منسجما وحداثة النص والاخراج.
يقول النفري:
اوقفني في البحر فرأيت المراكب تغرق والالواح تسلم
ثم غرقت الالواح، وقال لي لا يسلم من ركب
وفي مكان اخر على الركح نقرا اختيارا اخر
وقال لي في البحر حدود
ايها يقلك
للسينوغرافيا هندسة معمارية بصرية – جمالية، حققها الفنان عبد العزيز ماهر بأدوات بسيطة لكنها عميقة الدلالات.
واخيرا كي لا ننسي دور الاستاذ عادل المنصوري المدير الفرقة وهذا التنظيم الرائع بداء من دخول الجمهور بقدسية للمسرح وانتهاء بالإدارة الناجحة لهذا اعمال نحن بأمس الحاجة لها
** حيدر ابو حيدر -مخرج مسرحي