“زقاق المدق” — الفقر الوحشي واندفاعات السقوط/ د . وفاء كمالو
في حضرة نجيب محفوظ كان الوجود الفني فريدا مدهشا وعظيما , يبحث عن معنى العصيان وعن العدالة الهاربة ودوافع الإنسان , يدين القهر والغياب , يحاكم الفقر الوحشي واندفاعات السقوط , يشتبك مع الوجوه والأقنعة , مع أنثى جميلة منحلة تبحث عن بطولة في مسرحية الحياة , تفتقد أمها التي أخبروها أنها ذهبت إلى الله – – , وفي هذا السياق يأتي العرض المسرحي زقاق المدق , الذي تقدمه الفرقة الغنائية الاستعراضية التابعة للبيت الفني للفنون الشعبية – , يأتي كحالة إبداعية مدهشة غير مسبوقة , تمثل إنجازا دراميا رفيع المستوى يثير الجدل والتساؤلات حول هؤلاء الذين امتلكوا شعلة الوعي والوهج , ليكشفوا أسرار وعلاقات الزقاق المصري الذي يسقط بقوة في جحيم الجسد , يشتبك بعنف مع الواقع والمجتمع والإنسان , ليطرح تساؤلات الجنس والرغبة والهوى , وأحلام الحرية واكتمال الذات , ورؤى العبث والتمرد والعصيان .
كان مسرح البالون يموج سحرا وإبهارا وجمالا , الدكتور عادل عبده مخرج زقاق المدق يبعث بتيارات الحياة الثائرة على خشبة المسرح , المغامرة الجريئة الساخنة تكشف عن موهبته الخصبة , التي تؤكد أنه فنان مثقف لامع يمتلك أدوات جديدة مغايرة وتقنيات حديثة متوهجة , وإدراك عميق لمفاهيم الإبهار والدهشة والتشويق , الإيقاع الحار ينطلق إلى تصاعده المثير , وجماليات صورة المشهد المسرحي تتجاوز السائد والمألوف , جاءت مسكونة بالتفاصيل الدالة التي تضافرت مع دراما الضوء لتبعث حالة من البهاء المسرحي المثير , أما كوريوجرافيا الحركة والاستعراضات الراقصة ولغة الجسد والمزج العبقري لشاشة السينما بالحركة على خشبة المسرح عبر تقنيات المابنج والفيديو بروجكشن , فقد بعثوا تيارات الوهج الأخاذ , فتحول الواقع والفانتازيا والأوهام إلى قراءة حية في قلب المجتمع والسياسة والاقتصاد , واستطاع المخرج الكبير أن يمنح العرض مساحات خلابة من الثراء والإبداع والتنوع والجاذبية .
يدخل المؤلف المتميز محمد الصواف عالم نجيب محفوظ الروائي ليكتب الرؤية المسرحية والأشعار لزقاق المدق , كان شديد الإدراك لقيمة العظيم نجيب محفوظ وفلسفة عالمه الجمالي , جاءت رؤيته متعددة الأصوات والأبعاد , واستطاع أن ينزع كل الأقنعة ليسقط الزيف والعبث والأخلاق , وتصبح الشخصيات عارية تواجه سقوطها المخيف , وهكذا يقبض محمد الصواف على تلك الجمرات الفكرية والفنية المتدفقة , وتندفع الحالة الفنية إلى مسارها المحتوم , فجاءت ملامح البناء الدرامي متعددة المستويات , غابت عنها الأطر والمرجعيات , وظلت الأحداث تنمو وتتطور عبر حرارة التفاصيل الصغيرة التي تكشف بذاءة انتهاك شرف الإنسان وتزييف جوهر الإرادة والحرية , ورغم وقائع السقوط الصادم لنماذج النساء في المسرحية , إلا أن الفن الراقي لا يعرف أبدا شبهات الإسفاف والابتذال , حيث اتجهت جماليات الطرح إلى الزاوية الحرجة ليتفجر ذلك الجدل العقلي بين رؤى الضحايا وقسوة الجلادين , وتتفتح الأبواب المغلقة على الصبايا والعاهرات والساقطات والقوادين , لندرك أن السقوط الإنساني لن يكون أبدا هو الحياة أو المسار لامتلاك الذات .
كانت حميدة ابنة زقاق المدق هي امرأة تفتح أبواب الجنة والجحيم , تشبه غصن الياسمين , ترغب في الجبل المفتون , وفي عناق الرجل الذي ترتعش حين تراه , سقطت أمام سطوة الاستلاب والاختزال , وعاشت صراع الوجود وعجزت عن مواجهة المعنى رفضت حياة الفقر في الزقاق وظل حلم الثراء والأضواء يشاغبها , هربت من عالم عباس الحلو , الحلاق الذي أرادها بصدق , واندفعت باسم الأوهام إلى عالم فرج القواد فلامست نيران الجحيم وأدركت في النهاية أنها سقطت في الحضيض .
تتخذ الأحداث مسارها في إطار تشكيل سينوغرافي شديد الإبهار , اللحظات تخطف عيون وقلوب الجمهور , الشاشة في العمق تموج بسحر الأضواء , مصر الأربعينيات حاضرة في قلب الزمن , بصمات المخرج دكتور عادل عبده تثير تيارات الخيال , أسلوب تقديم أبطال العرض على الشاشة يأتي مغايرا وخلابا , الاستعراضات الرشيقة تحتفل بالحياة وتتضافر مع موجات الضوء وألوان الملابس المشرقة والموسيقى والغناء والحركة , أشعار محمد الصواف ترسم المسارات القادمة , تؤكد أن كل واحد فينا عايش في زقاق فيه الحب والخير والشر , التشكيل الجمالي اللافت للزقاق يأخذنا إلى الوكالة ودكان الحلاق والمقهى والبيوت , واللحظات الإنسانية الوقحة ترسم مسارات العبث , تبتذل المشاعر الإنسانية , تستبيح الروح والجسد , تبيع المعنى وتغتصب الشرف , لتكشف أن القيمة الإنسانية لم يعد لها حيثية .
تأخذنا الحالة الفنية إلى سياق مثقل بالخطايا والمجون , بالفقر والوجع والأحزان , وبالمواجهات التي ستظل صادمة , تلك الحالة التي تتضح عبر حوارات صاحب الوكالة الثري مع ابنه الطالب المشاغب , والتي تشتبك بقوة مع رؤى عباس الحلاق وبائع البسبوسة , التناقضات تفرض نفسها ومفاهيم الجروتسك تبعث تيارات الكوميديا , بينما تختصر الاستعراضات المبهرة تفاصيل الأعماق المسكونة بالرغبات , وتظل حميدة هي ابنة التاريخ والماضي والحاضر والمستقبل , نراها ترقص على المسرح بكل حضورها ومشاعرها , فهي الأنثى الأسطورة كما جاء بالأغنية , أصل كل بنات حواء , رجال الزقاق أصبحوا دراويش في عالمها , بينما هي لا تراهم ولا تعترف بوجودهم .
تمتد إيقاعات الحرارة والجمال ويأتي الاستعراض الخيالي الصاخب الذي يضع بطلة العرض الجميلة دنيا عبد العزيز على النجمة المضيئة الخلابة التي تنزل من السوفيتة – , يأتي كمقدمة بليغة لمسار حميدة القادم حين تتحول إلى تي تي في كباريه العالم السحري , فقد رآها فرج وقرر أن يدفعها إلى عامه المشبوه , وفي هذا السياق يذهب عباس إلى بيت حميدة ليطلب يدها , وعدها بكل أمنيات الحياة فوافقت واتجه هو ليعمل في التل الكبير , وحين أخبرتها أمها أن السيد سليم علوان صاحب الوكالة الثري يريدها للزواج وافقت بسرعة وقررت أن تهرب من عالم عباس وتعيد له صينية البسبوسة لتتزوج صاحب الوكالة وتترك الزقاق , وحين اندفع المعلم ليأكل الفريك المطبوخ بالمخدرات , يسقط على الأرض ويتصور أهل الحارة أنه مات – – , وهكذا يعود فرج وينجح ببساطة في العزف على أوتار حلم حميدة , أخبرها أنها خلقت لتكون نجمة تمتلك الليالي والذهب والثروات , فذهبت معه إلى شقته والكباريه , انتهى زمن حميدة وملاءتها السوداء لتأتي تي تي , التشكيل السينوغرافي البراق يشير إلى انتقال نوعي في المكان والأفكار والأعماق , ويموج بغموض الليل والضوء وعذابات الجريمة والسقوط , الراقصة الجميلة شوشو التي عاشت نفس تفاصيل قصة حميدة , لا تزال معذبة بحب فرج , أخبرها كثيرا أنه قواد وبس – – لا يعرف الحب , لكنها لا تدرك المعنى , الظروف تدفع عباس إلى الكباريه فيلتقي بحبيبته الهاربة , بينما تقرر شوشو الانتقام من فرج لنفسها وشرفها وصديقتها , تبلغ البوليس عن تفاصيل تجارة فرج للمخدرات , وفي تلك اللحظة الفاصلة يطلق القواد النار على الشابتين , لكن الحياة تنتصر ونعايش ذلك الحل الأخلاقي الذي يحتاجه واقعنا الآن , حيث تقرر حميدة العودة إلى الزقاق لتعتذر لأهلها وتستعيد حب عباس , لكنه رفض ومضى لعل الأيام تجمعهما , بينما عادت زميلتها لتصبح ابنة من بنات زقاق المدق وتتزوج حسين الذي أحبها وتجاوز عن خطاياها .
كانت نجمة المسرحية دنيا عبد العزيز هي طاقة من الجمال والحس والإبداع , شاركها النجوم الكبار المتميزون بهاء ثروت , مجدي فكري , شمس , بثينة رشوان , والنجم عبد الله سعد , والفنان الكبير أحمد صادق , حسان العربي , سيد عبد الرحمن , مراد فكري , هاني عبد الهادي , والنجم الواعد كريم الحسيني , مع عصام مصطفى وإبراهيم غنام .
كان الديكور المدهش لمحمد الغرباوي , والإضاءة لبكر الشريف , وكانت الألحان لأحمد محيي , والتوزيع لديفيد جميعي , وكانت المشاهد السينمائية والجرافيك لضياء داود , والفيديو مابنج لرضا صلاح , وتصميم الأزياء لمروة عودة .