نص مسرحي: ” الرَّغيف المُر” / تأليف: د. ميسون حنا
ـ نعيم
ـ رشدي
ـ أبو عمر
(ساحة أمام غرفة على سطح أحد المنازل، مقعدان صغيران، يجلس كل من نعيم ورشدي عليهما. رشدي يبدو كئيبا، نعيم يحدجه بنظرات ثاقبة، متفهمة. نعيم يتناول من تحت مقعده دفترا وقلما).
رشدي: عدت لخرابيشك؟
نعيم: خرابيشي التي تهزأ بها تمنحني القدرة على التوازن.
رشدي: (ساهما) سجل … سجل.
نعيم: صدقت، أنا أسجل انفعالاتي. (يكتب شيئا في دفتره، ثم يغلقه، ويضعه جانبا على الأرض) أراني اليوم عاجزا عن التعبير (رشدي ينظر إليه مستفهما، يتابع) القلم يترنح أمام استدعاءات الذاكرة.
رشدي: بدأت تهذي.
نعيم: الهذيان نعيم يا صديقي، دعني أهذي. (يبدو شاردا ، مفكرا ، لحظة صمت).
رشدي: فكر بصوت مرتفع، أحب الإنصات إليك، هذيانك جميل أحيانا.
نعيم: أحيانا؟
رشدي: أعني عندما تتكلم، أما ما تكتبه فلا يهمني. أنا أحب الإنصات فقط، وأكره القراءة.
نعيم: أنت لا تحاول القراءة.
رشدي: الرغيف يبعدني عنها.
نعيم: أما وقد شح وابتعد، أفكر بـ …
رشدي: (مقاطعا) أفكر بوسيلة تمكنني من استحواذه.
نعيم: غيابه يقربني من هذا. (يتناول الدفتر ويضمه إلى صدره).
رشدي: أنت حالم يا صديقي، ليتني أستطيع أن أكون مثلك.
نعيم: حاول.
رشدي: لا أحسن القراءة، فكيف أكتب؟
نعيم: ليس مطلوبا منك أن تكتب، فقط مارس الحلم.
رشدي: كيف؟
نعيم: أغمض عينيك (يضع الدفتر جانبا)
(رشدي يغمض عينيه)
نعيم: أخبرني، ماذا ترى؟
رشدي: (يصرخ) لا أرى شيئا، أنت قلت: أغمض عينيك، ثم تسألني ماذا ترى !
نعيم: أقصد ماذا ترى بعين قلبك؟
رشدي: (يقف أمامه متحفزا) ماذا تريد مني بالضبط؟
نعيم: لا فائدة منك.
رشدي: أنت تهزأ بي، قلت لك لا أملك قدراتك.
نعيم: أريد أن أنتشلك من واقعك المزري.
رشدي: لكنه واقعك كذلك.
نعيم: أنا أتغلب عليه بهذا (مشيرا إلى قلبه)
رشدي: أنت مرهف الحس وحالم، لكن أنا … أنا (شاردا) أنا أحلم أحيانا أني أملك بيتا كبيرا، وخدما يطوفون حولي، ولكن سرعان ما ألعن الساعة التي جعلتني معدما، والسبب أنني كنت فاشلا في دراستي… أنا حمار يا صديقي ، حمار… أنا مجرد عامل مياومة والرزق منقطع الآن مع كورونا، أنت ترى… (متحسرا ) ثم أنا لست متعلما مثلك.
نعيم: (بحزن) وماذا أفادني العلم؟ غير عقل متفتح وجيب مخروم، أنا موظف فقد وظيفته في هذه الظروف… تقليص عدد الموظفين… أنا لا أختلف عنك.
رشدي: بل تختلف، أنت تعبر عن ذاتك، تنفس عن كربك، أما أنا فلا أستطيع.. أنا لا أتقن غير اجترار الأحزان (يصرخ) أنا عاجز .
نعيم: وأنا عاجز اليوم عن الكتابة (يركل الدفتر بقدمه فينتثر جانبا)
رشدي: لا … لا تفعل هذا (يتناول الدفتر ويضعه تحت المقعد بعناية)
نعيم: أنت تنقذه؟
رشدي: صحيح أنا لا أحب القراءة ولكني أحترم المثقفين أمثالك.
نعيم: أشكرك … لو فقدت دفتري كنت سأحزن.
رشدي: حافظ عليه إذن.
نعيم: (مبتسما) أول مرة أرى حمارا رقيق المشاعر.
رشدي: (يضحك) لكنك رفيقي، لا تنس.
نعيم: ماذا تقصد؟
رشدي: الطيور على أشكالها تقع.
نعيم: (يضحك) الطيور يا صديقي، الطيور.
رشدي: والحمير كذلك. (لحظة) ومع ذلك أريد أن أرفعك إلى منزلة إنسان، وأدعوك لتعود إلى أحلامك.
نعيم: (بارتياح) أنت تثق بي ، وهذا حافز يمدني بالطاقة، شكرا لك .
رشدي: (عابسا فجأة) رفهنا عن نفسينا قليلا، لكن الواقع يشدني إليه، ماذا نصنع؟
نعيم: الألم المحيط بنا يُحبط محاولاتنا حتى لو التففنا على الجراح.
رشدي: لا يوجد عندنا كسرة خبز.
نعيم: ستفرج… ستفرج الصبر.
رشدي: عيل صبري.
نعيم: الحمار صبور.
رشدي: (غاضبا) كف عن المزاح، وفكر معي بحل لهذه الأزمة.
نعيم: وماذا تنتظر مني أن أفعل؟ سُدت أبواب الرزق أمامنا، ولست أملك لك حلا سحريا ينقذك.
رشدي: (بهدوء) عد لتأملاتك أفضل… عندما تحلم يكون صوتك رقيقا، دافئا، أما في الواقع أنت جلف كتمساح.
نعيم: (يضحك) أشكرك، أنا تمساح وأنت حمار، إذن سأبتلعك، حذار.
رشدي: (مبتسما) لكني عسير الهضم. (منقبضا فجأة) ما العمل؟
نعيم: معي نصف دينار، سنشتري خبزا اليوم ، اِطمئن.
رشدي: وبعد ذلك؟ ماذا سنفعل غدا؟
نعيم: لا أدري، ولكني آمل بفرج من عند الله.
رشدي: نعم، ستفرج بدليل أني سأصبح غنيا في القريب العاجل.
نعيم: كيف؟
رشدي: يقال أن الأحلام تُفسر على عكسها، وأنا حلمت أني أتسول.
نعيم: وعكس المتسول يكون المغدق عليه.
رشدي: أي سأكون غنيا.
نعيم: ها أنت تجيد الحلم، وتدعي عكس ذلك.
رشدي: (مسترسلا) حينئذ لن أتخلى عنك، سأشملك بعطفي.
نعيم: جميل، جميل… استرسل.
رشدي: أطلب وتمن، ماذا تريد؟
نعيم: أريد فلافل.
رشدي: لا تحقر حلمي… أقول لك أنا غني، أطلب… أطلب.
(تُسمع خطوات مقتربة)
نعيم: أحدهم قادم نحونا.
رشدي: (مسترسلا) أطلب، معي من المال ما يكفي لتحقيق رغباتك.
(يدخل أبو عمر، ويبدو أنه سمع العبارة الأخيرة)
أبو عمر : هات إذن أجرة المنزل.
رشدي: (متلعثما) أنا … أقصد..
أبو عمر : أيها المحتالان، معكما المال، وتدعيان العكس، إدفعا ما عليكما فورا.
نعيم: عم أبو عمر … هو يمزج.
أبو عمر : (ساخرا) يمزح؟
نعيم: يحلم.
أبو عمر : ثلاثة شهور تراكمت عليكما.
(يتبادل نعيم ورشدي النظرات بحيرة)
أبو عمر : لماذا تبلمتما؟
(نعيم ينفض جيوبه إلى الخارج، يسقط نصف الدينار،يلتقطه)
نعيم: هذا كل ما أملك، خذه (يمده نحوه)
أبو عمر : (يصرخ) تهزأ؟ (يدفعه بظاهر يده، يسقط نصف الدينار… ينظر إلى رشدي) تحرك أنت وادفع الأجور المتراكمة.
رشدي: أمهلنا يا عم ريثما تتحسن الأحوال، أنت ترى، كورونا.
أبو عمر : حجة واهية، هات (يمد يده)
رشدي: من أين؟
أبو عمر : لا أكذّب سمعي… أنت قلت.
نعيم: أمهلنا يا عم حتى نهاية الشهر.
أبو عمر : يومان وينتهي الشهر.
رشدي: حسنا، بعد يومين إذن .
أبو عمر : ولماذا ننتظر وأنت تملك المال؟
رشدي: لا أملك شيئا صدقني.
أبو عمر : سمعتك بأذني، هل تنكر؟
رشدي: (حائرا) لا … لا أنكر.
أبو عمر : اِدفع إذن.
رشدي: المال ليس في حوزتي الآن.
أبو عمر : تقصد في البنك؟
رشدي: ها … آه … في البنك.
أبو عمر : تذهب غدا صباحا وتسحب من البنك وتسدد.
رشدي: سأفعل، سأفعل.
أبو عمر : (مهددا) غدا.
(يغادر أبو عمر بينما يتبادل نعيم ورشدي النظرات بخيبة).
***
المشهد الأول:
(في الخلاء. أشجار متفرقة، نعيم ورشدي يجلسان تحت شجرة في الصدر).
نعيم: (بضعف) أزمة وستنتهي.
رشدي: (ساهما) أنا أصدقك، علي أن أصدقك لأني كالغريق الذي تعلق بقشة.
نعيم: (متمالكا بعض الشيء) والغريب أنها أنقذته.
رشدي: القشة؟
نعيم: (مؤكدا) أنقذته.
رشدي: وهل كان بلا مأوى مثلنا؟
نعيم: (بضعف) فال الله ولا فالك.
رشدي: لماذا تتهرب من الحقيقة؟
نعيم: ألا يعجبك هذا المأوى؟ هذه الأرض الواسعة؟ تأمّل حديقة منزلك الكبير الذي كنت تحلم به.
رشدي: (يتلفت حوله) لا أرى بيتا هنا.
نعيم: أغمض عينيك تره.
رشدي: (يغمض عينيه) أرى كلبا ينبح.
(يُسمع نباح كلب)
نعيم: بل زقزقة عصافير.
رشدي: (يفتح عينيه ويصرخ) كلاب… كلاب تنهشنا.
نعيم: (بحزن) فرت عصافيري، لماذا أفزعتها؟
رشدي ):بحزن) نهشت لحمنا الكلاب.
نعيم: (بضعف) قاوم واُطْردها.
رشدي: (يائسا) وهل طردتها أنت؟
نعيم: (مترددا) نـ… نعـ… نعم.
(يُسمع نباح كلاب، نعيم ينتفض)
رشدي: أنت تكابر.
نعيم: (مترددا) سنتغلب عليها.
رشدي: أنت يائس مثلي.
نعيم: (محبطا) سأعود إلى البلدة.
رشدي: أما أنا فلن أعود خائبا.
نعيم: (متمالكا بعض الشيء) صدقت، علينا أن نجد مخرجا.
رشدي: كيف؟
نعيم: بالحلم … سنحقق المستحيل.
رشدي:لا جدوى.
نعيم: للحلم موهبة تأجيل الإحتمالات أو تحويلها.
رشدي: لا أفهمك.
نعيم: أنا أؤمن بالتحولات التي تغير مجرى الحياة.
رشدي: (بيأس) هيهات.
(تعتيم، لحظات ثم يضاء المسرح عن المشهد الثاني)
المشهد الثاني:
(نفس المكان، نعيم ورشدي يجلسان على الأرض وفي يد كل منهما ساندويشا)
نعيم: (يقضم) أشعر بالعار.
رشدي: (يقضم) لا أجد لذة الجائع في تناول هذا الطعام.
نعيم: له مذاق التراب ، المجبول بالعذاب.
رشدي: عذاب الضمير.
نعيم: لسنا لصين.
رشدي: لكننا اختلسنا.
نعيم: سنعيد ما اختلسناه في الوقت المناسب.
رشدي: هوية الرجل معي.
نعيم: احتفظ بها.
رشدي: أنا أتألم.
نعيم: خفف عنك، كنا مضطرين لاقتراف هذا الذنب.
رشدي: الميل يبدأ بخطوة.
نعيم:(فزِعا) لا … لا تقل هذا ، لن ننزلق.
رشدي: لن نعيد الكرّة.
نعيم: أبدا.
رشدي: (مترددا) هو حل مؤقت ريثما تتغير الظروف.
نعيم: نعم هو هكذا.
رشدي: (ساخرا وبحزن) هذه هي التحولات التي تغير مجرى الحياة؟
نعيم: (بِأسًى) للأسف.
رشدي: أنا أشعر بالخزي.
نعيم: والعار… العار.
(لحظات صمت، كل من نعيم ورشدي مستغرقين في تفكير عميق)
رشدي: (مترددا) سنحتفظ بهوية كل من نسلبه محفظته ونسجل ديننا لنسدده في الوقت المناسب.
(نعيم يطأطىء، ويضرب بيديه على رأسه يائسا) (لحظة) (نعيم ورشدي يتبادلان النظرات بقلق).
(تعتيم، لحظات وينار المسرح عن المشهد الثالث).
المشهد الثالث:
(نفس المكان. نعيم ورشدي جالسين وأمامهما علبة خشبية)
رشدي: هاك.(يناول نعيم ثلاث هويات) حصيلة اليوم.
نعيم: (يتناولها منه) سجلت الدين؟
رشدي: (يناوله ورقة) هنا كل شيء بالتفصيل.
نعيم: (يتناولها ويضعها مع الهويات في العلبة) وماذا عن المحفظات التي لم تحمل في داخلها أي إثبات شخصية لأصحابها؟
رشدي: إنسها.
نعيم: (محتدا) هذه سرقة.
رشدي: (ساخرا) معاذ الله … دَين. (نعيم يبدو مرتبكا، بينما يبتسم رشدي بسخرية)
***
اللوحـــة الثالثــــة
(صالة في بيت نعيم، بابان، أحدهما يؤدي إلى الخارج والآخر إلى داخل الشقة. أريكة في الصدر، مقاعد متفرقة، طاولة، على الطاولة توجد العلبة الخشبية التي تحتوي على الهويات).
(نعيم ورشدي يجلسان ويتبادلان الحديث).
نعيم: تمام… تمام.
رشدي: ومتى التسديد؟
نعيم: (بفتور) إلى أن يحين الأجل.
رشدي: لم يحن بعد؟
نعيم: الحاجة تبرر التأجيل.
رشدي: كانت حاجة، أصبحت فائضا الآن.
نعيم: سنسدد، لا تقلق.
رشدي: متى؟
نعيم: (مفكرا) عندما نشبع ونرتضي.
رشدي: لماذا تعقد الأمور؟
نعيم: ألن نشبع؟
رشدي: الجائع يخيل إليه أنه سيأكل زرع الأرض كلها ولا يكتفي.
نعيم: لكنه سيصاب بتخمة تبعده عن الطعام.
رشدي: شعور مؤقت، سيعود إليه بنهم أكبر عندما يأتي موعد الوجبة التالية.
نعيم: (حزينا) وضعت يدك على الجرح، نكأته.
رشدي: (يفتح العلبة) كل هذه الهويات؟ (يلتقط دفترا من داخل العلبة، يفتحه) هنا كشف بالديون الواجب تسديدها. (يضع الدفتر على الطاولة)
نعيم: (بحسرة) هذا الدفتر كنت أعبر فيه عن مشاعري وأحاسيسي، وانفعالاتي، والآن أسجل فيه الديون.
رشدي: الاختلاسات لو سمحت… (نعيم يرتبك، رشدي يواصل) حقا، لماذا ابتعدت عن الكتابة؟
نعيم: (حزينا) لئلا أحتقر نفسي.
رشدي: لا تحزن، عندما نسدد ديوننا سنستعيد ثقتنا بأنفسنا.
نعيم: سنحترم ذاتنا.
رشدي: (ساهما) ومتى التسديد؟
نعيم: لا أعرف.
رشدي: أراك مترددا.
نعيم: الدفتر يثبت أنني مصمم.
رشدي: (بتحد) الدفتر يوهمنا أننا نظيفين.
نعيم: (بفزع) لا … لا تقل هذا.
رشدي: وأنت تريد أن تتخلص منه، وتعرض علي أن أنقله إلى منزلي.
نعيم: قريبا سأتزوج، ولا يجدر بزوجتي أن تطلع عليه، وتعرف تفاصيله.
رشدي: (ساخرا) لتبدو نقيا أمامها؟
نعيم: (محتدا) ولكني نقي.
(رشدي يحدجه بنظرات ثاقبة)
نعيم: (مرتبكا) نية التسديد واردة والدليل هذا الدفتر.
رشدي: عدت لتبريراتك الواهية (نعيم ينظر إليه بقلق، رشدي يواصل) وعندما أنوي أنا الزواج ، أين سنضع الدفتر؟
نعيم: لكل حادث حديث، حينئذ سنتدبر الأمر.
رشدي: (يصرخ) أرأيت؟ أنت لا تنوي التسديد، أنت ترجئ هذا إلى أجل غير مسمى.
نعيم: (بتحد) وأنت؟ هل ستسدد؟
رشدي: نعم، وسأبدأ بهذا (يفتح العلبة ويتناول هوية ويقرأ) نوفل سعيد، أربعون عاما ، قيمة الاِخْتلاس (يفتح الدفتر ويقرأ) مائتا دينار.
نعيم: (ينظر إليه وقد لمعت فكرة بذهنه، يخطف الدفتر، ويلقيه على الطاولة..بحماس) أتلف هويته.
رشدي: ماذا؟
نعيم: كما سمعت، أتلف هويته.
رشدي: جننت؟
نعيم: نعم جننت، أربعون عاما، قادر على العطاء، سيثمر غيرها… إنسه.
رشدي: (بحماس) صدقت…
( يتبادلان النظرات، لحظة، يبدوان مستغرقين في تفكير عميق)
رشدي: سنسدد لمن جاوزت أعمارهم الستين عاما.
نعيم: (بنشاط) دعنا نفرز الهويات إذن.
رشدي: (يتناول هوية أخرى ويقرأ) صلاح عيسى، خمسة وستون عاما.
نعيم: (يخطف الهوية من يد رشدي وينظر إليها باهتمام)مستحيل.
رشدي: ما الأمر؟
نعيم: هذا حماي…والد خطيبتي.
رشدي: سنعيد إليه ماله، لا تقلق.
نعيم: (يصرخ) لا .. لن أكشف نفسي أمامه.
رشدي: (بحماس) صدقت، لن نسدده. (لحظة) (رشدي يتابع بحماس) اِسمع، لن نسدد المسنين كذلك.
نعيم: لا أفهمك.
رشدي: المسن سيتكفل به أبناؤه الشباب، ولن يكون بحاجة لنا.
نعيم: كيف انقلبت الأمور؟
رشدي: (بتصميم) الآن سنتحرر من ديوننا.
نعيم: هكذا ببساطة؟
رشدي: (بحماس شديد) سنتلف جميع الهويات… هات الولاعة.
نعيم: (يناوله الولاعة) ماذا تريد أن تفعل؟
رشدي: سأشعل النار… النار.
(يضحكان بصخب هستيري. لحظة ويهم رشدي بإشعال النار في العلبة. تسمع صافرات الإنذار لتعلن بدء الحظر).
***
(نفس مكان اللوحة الثالثة. نعيم مستلقي على الأريكة في الصدر. رشدي يجلس على أحد المقاعد بعيدا عن نعيم. الاثنان يرتديان الكمامة).
نعيم: لماذا أتيت؟ ألا تخشى من العدوى؟
رشدي: أنا تلقيت المطعوم، ثم إني أرتدي الكمامة في حضورك.
نعيم: (مغتما) إصابتي تفتح ذهني على الحقيقة.
رشدي: أية حقيقة؟
نعيم: الزمن يجور علينا نحن الغافلين ، المختفين خلف خساراتنا، متوهمين عكسها، ولكن هذا الوهم يوأد في حينه.
رشدي: لا أفهمك.
نعيم: سأفسخ خطبتي.
رشدي: لا تتسرع، ستتعافى بإذن الله.
نعيم: هذه ليست العقدة.
رشدي: أعلم… مذ علمت أن والدها ضمن المسلوبين اهتززت، لن تعلم هي بذلك، اطمئن.
(نعيم يبتسم بسخرية)
رشدي: كن متفائلا.
نعيم: الغمام يغلف مدارات أحلامي ، مع ذلك أحاول نبشه لأفتح فجوة تقودني إلى خلاص مزيف.
رشدي: بل خلاص حقيقي، الله لن يتخلى عنك.
نعيم: الله يمتحنني أنا الخاطئ المثقل بذنوبي.(ثم بلهجة جديدة) لماذا يبتليني الله بامتحانه دونك وكلانا مذنب؟
رشدي: (مرتبكا) لله في خلقه شؤون لا يعلمها غيره.
نعيم: (نادما) لا أعترض على مشيئتك يا رب، ولكني أسألك اللطف والرحمة، وقد اقترفت الذنوب متشبثا بحياة وهبتنيها وأردت التمسك بها.
رشدي: صدقت، لو لم نختلس كنا سنموت جوعا.
نعيم: كنا سنموت شريفين.
رشدي: الله غفور رحيم.
نعيم: وأنت وأدت الأمل الذي قد ينجينا من العذاب.
رشدي: كيف؟
نعيم: أتلفت الهويات.
رشدي: فعلت هذا بموافقتك.
نعيم: تسرعت ، وأحرقتها.
رشدي: (بلؤم) البادئ أظلم.
نعيم: ماذا تعني؟
رشدي: نسيت اقتراحك عندما أبديت رغبتي في التسديد؟
نعيم: كان عليك أن تردعني، ولكنك أثنيت علي وجررتني للغلط.
رشدي: وهل الذنب يقع علي وحدي؟
نعيم: صدقت، كلانا مذنب.
رشدي: أنا أعلن توبتي ويشهد الله أنها توبة صادقة.
نعيم: هكذا ببساطة! نقترف الذنوب ثم نعلن التوبة.
رشدي: حيرتني، وهل ترفض أن تتوب؟
نعيم: لا، لا أرفض ولكن…
رشدي: التوبة هي الأمل الوحيد المتبقي لنا الآن.
نعيم: التوبة تشبه بصيص أمل في عين ساهرة، تجتر آلامها فتبرق العين مرسلة ومضة تفتح العقل على زاوية كانت لائذة في عتمة المجهول.
رشدي: لا أفهمك.
نعيم: (مسترسلا) حينئذ سنكتشف هشاشة توبتنا وزيفها.
(رشدي ينظر إليه حائرا) (لحظة)
نعيم: كان علينا أن نتسول بدل الإختلاس.
رشدي: التسول يجعلنا وضيعين، فاقدين لكرامتنا.
نعيم: والاختلاس يحفظ كرامتنا، ويجعلنا محترمين؟
رشدي: (يخلع الكمامة ويصرخ) إلى أين ستصل بنا؟
نعيم: إلى الحقيقة.
رشدي: أية حقيقة؟
نعيم: حقيقة وضاعتنا وخستنا.
رشدي: قلت لك أعلنت توبتي.
نعيم: وأنا العبد الفقير أرفض هذه التوبة.
رشدي: لماذا تعذبني؟ (لحظة ثم بتحد) ولكني أرفع توبتي إلى الله ولا أنتظر جوابا منك أنت، والله سيقبلها.
نعيم: نخطئ ونعلق شماعتنا على الله وندعي أنه سيعفو عنا، ونصدق ثم نتمادى في الغي.
رشدي: كف عن تشاؤمك الذي لن يقودنا إلا إلى الدمار.
نعيم: وهل هناك دمار أكثر مما نحن فيه؟
رشدي: (بتحد) نعم، هناك من يختلس أموالا طائلة، كأن يختلس بنكا، أو خزنة أموال.
نعيم: لو أتيحت لنا فرصة كهذه كنا اغتنمناها، ولكننا كنا نختلس البسطاء.
رشدي: وما أدراك أنهم بسطاء؟
نعيم: بعض المحفظات كانت تحتوي على مال شحيح يدل على فقر حامله، ونحن جردناه منه بقسوة.
رشدي: لم نكن نعلم ما بداخل المحفظة، ثم أنت تقول أنه مال شحيح، لا أسف عليه إذن.
نعيم: المال الشحيح كان سينقذ عائلته من جوع محتم.
رشدي: لماذا تستعيد هذه الذكريات الآن، وتفبركها لترضي خيالك المريض؟
نعيم: المرض جعل ضميري يصحو.
رشدي: ومع ذلك رحمة الله واسعة.
نعيم: التوبة لا تشفي غليلي منك.
رشدي: أوف..
نعيم: (بتصميم) علينا أن نفترق.
رشدي: لكننا أبناء بلدة واحدة، تركناها معا، وأتينا إلى المدينة معا، وعانينا معا…
نعيم: وسلبنا معا. (ينزع الكمامة بعنف، ثم بتحد) أنت صاحب فكرة الاختلاس.
رشدي: لم يكن أمامي حل آخر.
نعيم: أنت المذنب الكبير.
رشدي: أنت شريكي لا تنس.
نعيم: جرفتني معك.
رشدي: (بتحد) كان عندك استعدادٌ لذلك، وإلا لما انجرفت.
نعيم: علينا أن نفترق.
رشدي: بعد تعافيك سأهجرك، لا تقلق.
نعيم: الان ، قبل التعافي.
رشدي: تطردني من بيتك؟
نعيم: اِفهمها كما تريد.
رشدي: حسنا ، ولكن تذكر أنك عندما تطردني لا تستعيد نقاءك الذي فقدته.
نعيم: (يصرخ) أنت شرير.
رشدي: وأنت نذل حقير.
(نعيم ينهض متحفزا للعراك، لكنه يدوخ ويرتمي على الأرض)
(رشدي ينظر إليه بلؤم)
نعيم: اُغرب عن وجهي، لا أريد أن أراك.
رشدي: سأغادر، ولكن قبل كل شيء هات حصتي من المال المسلوب الذي بقي عندك.
نعيم: (ينهض بصعوبة ويرتمي على الأريكة) ليس لك شيء عندي.
رشدي: هكذا أنت مصمم على الاختلاس الآن، ولن ينفعك الندم.
نعيم: (بسخرية) هو مال مُختلس، ما الفرق إذن؟
رشدي: جعلتك الوصي عليه.
نعيم: وصايتي لم تنته بعد، وأنا قررت أن أتصدق به على الفقراء لتكون توبة صادقة.
رشدي: يا أحمق، سنعود إلى الشارع.
نعيم: نعود شريفين.
رشدي: لا تتهور.
نعيم: أنا أقودك لتوبة حقيقية الآن.
رشدي: (بتحد) هات المال.
نعيم: لن أمكِّنَك منه.
(يتعاركان، رشدي يسحب مفتاحا من جيب نعيم الذي يهوي على الأرض بضعف، رشدي يذهب للداخل ويعود وهو يحمل بيديه أوراقا مالية، يخفيها في جيوبه. نعيم ينظر إليه بحسرة وغضب، رشدي يغادر ويطرق الباب بدفاشة. نعيم يفقد الوعي).
***