أنا وجهي .. رحلة البحث عن الذات / أ.د مجيد حميد الجبوري

في الرابع عشر من شباط/ 2022 استضاف المركز الثقافي بجامعة البصرة وبالتعاون مع كلية الكنوز الجامعة الفرقة الوطنية للمسرح ؛ التي قدمت عرضا لمسرحية “أنا وجهي” تاليف وإخراج المبدعة الكبيرة (د.عوطف نعيم) وتمثيل كل من الفنانة الكبيرة (د. شذى سالم) والفنانة القديرة (سمر محمد) والفنانة الشابة المتألقة (شيماء جعفر)؛ وتصميم سينوغرافيا العرض للفنان المبدع (د. علي السوداني).

قدم العرض أحتفاءً بمناسبة أفتتاح قاعة (المسرح الجامعي)؛ وبحضور جمهور غفير- غصت به صالة العرض؛ وكان غالبية الجمهور من العوائل البصرية المتلفهة لمشاهدة العروض المسرحية الجادة ؛ شاهد العشرات منهم – العرض – وقوفا ؛وذلك لأمتلاء القاعة بالحاضرين. وفيما يأتي قراءة نقدية للعرض المذكور:

أولا: الرؤية العامة للعرض

في زمن الضياع وفي وسط الفوضى وعدم الوضوح في كل شيء؛ وفي ظل الأزمات المتلاحقة ؛ التي تلتهم كل أزمة فيها سابقتها لتصبح أضخم وأعقد من المتقدمة عليها؛ وفي وسط كل الخسارات التي يدفع ثمنها المواطن العراقي المسالم ؛ تتضخم مأساة هذا المواطن ؛ ويكون تأثيرها أكثر قسوة وأشد ضراوة على المرأة العراقية التي يسكن قلبها البيت والأب والأم والأخ والأبن ؛ ونتيجة هذه القسوة وشدتها والمصاحبة لمهيمنة القتل التي سادت في زمننا المعاصر وبشتى أنواعها سواءً القتل الأرهابي أو القتل الطائفي أو القتل على الهوية أو القتل على الانتماء أو القتل لمن يطالب بوطن؛ فأن وقع تلك المأسي وثقله يقع على المرأة التي بدأت تفقد كل من يحيط بها ويحميها ويشعرها بالأمان أبتداءً من الحبيب والزوج ومرورا بالأب والأم والأخ وليس انتهاءً بالأبن والحفيد؛ إذ أن ما صاحب وأد -نداء الحرية والوطن والتعبير عن الرأي والرأي الآخر- من عنف ودماء ؛ جعل المرأة العراقية التي يسكن اليها الرجل أبا كان ام زوجا او حبيبا أو أبنا أو أما أو أخا؛ تنشطر وتتشظى الى شخصيات متعددة؛ أجملتها مسرحية (أنا وجهي) بثلاث شخصيات نسائية : الأولى تمثل المرأة العراقية المعاصرة، والثانية تمثل المستقبل المجهول؛ والثالثة تمثل الرقيب الداخلي أو (الضمير)؛ الأولى ضاع وجهها وضاعت ملامحها وضاعت شخصيتها بسبب كثرة الاحباطات والانتكاسات والحروب والقتل المجاني والموت المستشري في كل زمان ومكان؛ إذ فقدت (هي) – المرأة الأولى- كل أحبائها وفي مقدمتهم الأب والأم والأخ ؛ ولم يعد لها من يسندها ويحميها وسط عالم عنيف متوحش يغتال كل معنىً للحياة؛ ومع أن عرض المسرحية ضم شخصيات نسائية ثلاث؛ غير أن المتأمل لنص المسرحية وعرضها يخرج بانطباع مفاده : أن المسرحية هي مونودراما انشطرت فيها شخصية المرأة الرئيسية الى ثلاث شخصيات ؛ الأولى (هي) – الشخصية الرئيسية – والثانية مستقبلها المجهول الذي يضيع هو الآخر في سلوكيات متمردة من أبرزها أدمانه المخدرات؛ وهو ويهرب امامها ما يضطرها لملاحقته وخوض صراع متواصل معه؛ والثالثة هو ضميرها الرقيب الذي يراقب تصرفاتها ويحاسبها ويحملها مسؤولية الضياع؛ هذا على المستوى الفكري؛ أما على المستوى الزمني؛ فأن الشخصيات تجسدت بأصوات ثلاث؛ تمثل أزمانا ثلاث هي: صوت الماضي الذي يراقب الحاضر والذي تمثله تجسيداً في العرض المرأة الثالثة (سمر محمد) ؛ وصوت الحاضر المحبط الضائع وسط الانتكاسات والفوضى والقتل والدماء والعنف وهو ما تجسده في العرض شخصية المرأة الأولى (شذى سالم)؛ وصوت المستقبل الذي يبدو مجهولا ومتمردا؛ وهو الصوت الذي جسدته في العرض شخصية المرأة الثانية– الشابة (شيماء جعفر).

لا يتوفر وصف.

وثيمة الانشطار لا تتعلق بالشخصيات فحسب؛ وإنما يمكن ملاحظة هذه الثيمة أبتداءً من عنوان المسرحية ( أنا – وجهي) المكون من مفردتين هما: (أنا) و (وجهي) ؛ إذ فصلت المؤلفة بين الكلمتين وكان بإمكانها أن تكتفي بأحدى تلك الكلمتين ؛ فمفردة (أنا) يمكنها أن تمثل الشخص المتكلم؛ ومفردة (وجهي) يمكنها أن تمثل الشخص نفسه؛ غير أن الفصل بين المفردتين يوحي بأن هناك اختلافاً بين المفردتين أو أن هناك انفصالا بين المفردتين ؛ فكلمة (وجهي) ربما لا تمثل وجه من قالها ؛ وكلمة (أنا) قد لا تمثل من يحمل ذلك (الوجه) ؛ أو – وهو الاحتمال الأكثر انسجاما مع سياق هذه المسرحية– أن  حامل هذا الوجه لا يرى أن وجهه يمثله ؛ أو يرى  أن هذا الوجه الذي يحمله أصبح غريبا عليه ؛ لذا فإن دلالة العنوان ومنذ هذه العتبة الأولى تشير الى ثيمة الانشطار.

وعلى مستوى الدلالات الصورية للعرض فأن سينوغرافيا العرض – ولكي تنسجم مع الثيمة أعلاه– انشطرت هي الأخرى الى علامتين مهيمنتين تتمثلان بالظلام أو السواد الشائع في صور المسرحية سواء الظلام المهيمن على الجو العام للسينوغرافيا أو السواد في الأزياء التي ترتديها شخصيات المسرحية؛ أما العلامة الثانية: فتتمثل بالشاشة الخلفية الساطعة التي تظهر وجوه الممثلات بسعة فضاء المسرح؛ والعلامتان– أعلاه – تخوضان  صراعا تكون الغلبة فيه تارة للظلام وتارة للشاشة الخلفية الساطعة؛ ونظرا لما تفصح عنه هاتان العلامتان من دلالات تعبيرية عديدة؛ فقد تحولتا الى شخصيتين داخل العرض لهما فعلهما وتأثيرها على السياقات الفكرية والصورية للعرض.

ثانيا : نص المسرحية:

نص (أنا وجهي) هو مسرحية رمزية تتكون من فصل واحد يضم ستة مشاهد؛ أطلقت المؤلفة على كل مشهد تسمية (بحث)؛ إذ عنونت مشاهد مسرحيتها على الوجه الآتي: البحث الأول، البحث الثاني .. وهكذا حتى البحث السادس؛ ولكل بحث من تلك الأبحاث موضوع خاص به ؛ سنبينه لاحقا؛ ونص المسرحية بمستواها الرمزي يمثل رحلة ذهنية لشخصية تبحث عن ذاتها الضائعة التي تعني بالنسبة لها شخصيتها وهويتها وتحدد انتماءها الإنساني؛ والوجه الذي تقابل به الناس؛ والذي غابت ملامحه وضاعت وسط فوضى الأقنعة؛ وكل شخصية من شخصيات المسرحية ترمز الى جانب من جوانب الشخصية التي تبحث عن وجهها الضائع؛ فالمرأة الثالثة المقعدة على كرسي للمعوقين ترمز الى الضمير المراقب الذي ينتقد أي تصرف أو سلوك تقوم به الشخصية ويقوم بسؤالها عن كل شيء، ويستهجن إجاباتها؛ وهو غير راض عنها على الدوام ؛ وبالرغم من كل ما يمارسه من دور إيقاظي فأن هذا الضمير أصبح مقعدا ومعوقا لا أحد يسمع كلامه أو يهتم به؛ أما المرأة الثانية وهي المرأة الشابة فأنها ترمز للمستقبل الذي ستؤول إليه رحلة البحث عن الذات؛ والذي سيتضح في النهاية على أنه هو الوجه الضائع، أو الذات الضائعة التي تبحث عنها الشخصية الرئيسية؛ وهذا الوجه ستجده المرأة– في الختام – بين  وجوه الشباب الذين انتظموا ضمن ثورة شباب تشرين والذين خرجوا للبحث عن وطن؛ وهكذا تخلص المسرحية في مستواها الرمزي الى: أن الوجه الضائع يمكن أن يعود إن عاد الوطن المضيع.

لا يتوفر وصف.

تتوزع رحلة البحث عن الذات على ستة مراحل؛ تمثل كل مرحلة منها بحث عن هدف ما؛ فالبحث الأول يكون هدفه (البحث عن فعل)؛ والبحث الثاني يكون هدفه (البحث عن وجه)؛ والبحث الثالث هدفه (دفاع عن الذات)؛ والبحث الرابع يستهدف (البحث عن حب وحنان ووفاء)؛ أما البحث الخامس فيستهدف (بحثا عن وجه حقيقي وسط أقنعة الزيف)؛وتختم رحلة البحث؛ ببحث سادس يمثل (العثور على الوجه الضائع) أو العثور على الذات الضائعة.

يقدم النص صراعا بين الأفكار وليس صراعا بين الارادات؛ وهذا الصراع ثلاثي الأطراف؛ إذ يتم بين أفكار رسخت في ماضٍ كان مليئا بقيم النبل والعدالة وبين أفكار أمتلأ بها الحاضر ورسختها مظاهر الكذب والفوضى والسرقة والقتل المجاني والدماء؛ وكل هذه المظاهر ارتدت أقنعة مزيفة لا تستطيع أن تخفي ما تبطنه؛ اما الطرف الثالث في صراع الأفكار هذا فهو يتمثل بأفكار تبنتها أجيال شابة أحست بضياعها بعد أنضاع منها الوطن؛ فأنبرت للبحث عنه. وتأسيساً على ما تقدم فأن مثل هذا النوع من الصراع يقرب النص مما يسمى (المسرح الذهني) الذي يرتكز فعله الدرامي الأساسي على تقاطع الأفكار وتضادها؛ ليقدم عصفا ذهنيا يكتسح المظاهر التي رسختها قيم الظلم والضلالة والفساد؛ ناشداً السمو الى قيم تدعو للفضيلة والسعادة والأمل.

أما لغة الحوار فقد جاءت متدفقة بسلاسة ومقاربة للغة المحكية؛ وكانت تسمو – أحيانا – الى مستوى الشعرية بخاصة في المواضع التي تقتبس فيها المؤلفة مقاطع من مسرحيات (ماكبث، وهاملت) للكاتب الإنكليزي (وليم شكسبير)، ومسرحية (أنتيجونا) للإغريقي (سوفوكليس)، ومسرحية (ميديا) للإغريقي الآخر (يوربيديس). ومن المفيد – هنا – الإشارة الى أن المقتبسات أعلاه– مع أنها كانت تتعلق بموضوعات مغايرة لموضوع المسرحية – غير أن المؤلفة كانت حريصة على اختيارها بدقة ما جعل تلك المقتبسات تأتي منسجمة مع السياق العام للنص وأفكاره؛ فضلا على أنها جاءت ملائمة للحالة النفسية التي تمر فيها الشخصيات؛ وقدمت تعزيزا للمستوى الفكري الذي يشتمل عليه النص.

ثالثا: الرؤية الإخراجية:

اعتمدت الرؤية الإخراجية في عرض مسرحية (أنا وجهي) منظومتين أساسيتين هما: السينوغرافيا، والمهارات الأدائية لممثلات العرض؛ فبالرغم من قلة مفردات السينوغرافيا التي لم تزد عن كومتين من الملابس وشاشة عملاقة تمثل خلفية لفضاء العرض؛ غير أن المخرجة استطاعت توظيف تلك المفردتين بما يخدم الفكرتين المهيمنتين في العرض وهما فكرة الضياع وفكرة الانشطار؛ فوجود كومة ملابس منتظمة وأخرى متناثرة كيفما أتفق تشير الى الفكرتين المذكورتين ؛ والشاشة العملاقة التي تقع في خلفية العرض فقد جسدت تلك المهيمنتين ؛ فقد أظهرت الشاشة أدق تفاصيل التعبيرات النفسية التي ترتسم على وجوه الممثلات؛ والتي كان المتلقين  يرون وجوههن وقد ارتسمت عليها التعبيرات ذاتها في الوقت نفسه؛ إذ وفرت تقنية (التصوير الفيديوي المقرب جدا لوجه الممثلات وعرض صوره مباشرة) رؤية صورية مضاعفة لملامح التعبير النفسي جاءت على مستويين : الأول ما يمكن أن يظهر على خشبة المسرح بالشكل المعتاد؛ والثاني ما يمكن أن تظهره شاشة العرض من تضخيم لتلك التعبيرات. وقد نجحت هذه التقنية من تقديم تأثير نفسي مضاعف لفكرة الضياع من جهة؛ ونجحت في تأكيد ثيمة الانشطار من جهة ثانية؛ فضلا على تقديمها عنصر إدهاش جمالي مضاف للعرض من جهة ثالثة.

لا يتوفر وصف.

أما المنظومة الثانية للرؤية الإخراجية والمتعلقة بمهارات الممثلات المجسدات للعرض؛ فقد تمكنت الممثلات الثلاث (شذى سالم وسمر محمد وشيماء جعفر) من تقديم مباراة مثيرة في التمثيل؛ إذ استطاعت المخرجة أن تستنفر اقصى الطاقات التعبيرية والشعورية لدى ممثلات العرض لتقديم عرض رشيق متماسك ؛ شد أنتباه جمهور المتلقين منذ لحظة  انطلاقه الأولى وحتى لحظة الختام التي توحد فيها المتلقين مع خشبة المسرح وهم يصفقون لنجاح ثورة تشرين الشبابية؛ ونجاح العرض في تقديم هذه الثورة بصور جمالية بعيدة عن الشعارات والهتافات والخطابات الدعائية.

تحية تقدير لمبدعي العرض أبتداءً من المؤلفة/ المخرجة ومرورا بالأداء التمثيلي المتماسك وليس أنتهاءً بمبدع السينوغرافيا الفنان (الدكتور علي السوداني)؛ إذ تحية التقدير تمتد الى مصممي ومنفذي الإضاءة والأزياء والمكياج والإكسسوار وباقي متطلبات الإنتاج.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت