(راس الخوف) ومسرحيات أخرى.. فن اقتناص اللحظة/ محمد الروبي

بداية لا بدّ لي أن أسجل اعتذارا -لنفسي أولا قبل أن يكون لصاحب الكتاب- عن جهلي به رغم صدوره عام 2004، ولم أنتبه إليه إلا الآن.. أي بعد ثماني سنوات كاملة. وهو اللغز الذي لا يليق بشخص مثلي كان يظن أنه متابع دؤوب للعالم المسرحي (عرضا ونصا). وربما كان السبب الذي سأستمسك به خجلا، هو أن صدوره كان في العام الأخير لي في منفاي الاختياري بدولة الكويت الذي عدت منه في أواخر عام 2005.
على أية حال ها هو القدر يمنحني إياه في هذا الشهر عبر مصادفة جديدة من تلك المصادفات التي تحرك حياتي منذ وعيت على هذه الدنيا.
الكتاب لطبيب النفس عصام اللباد، وهو عبارة عن مجموعة من المسرحيات القصيرة بالعامية المصرية.
وعلى الرغم من أن ظهور كاتب مسرحي هو بالنسبة لي سبب كافٍ للفرح، فإن ما ضاعف هذا الفرح أن النصوص المنشورة ليست فقط تأليفا خالصا؛ ولكنها (وربما للمرة الأولى في عالم الكتابة المسرحية المصرية) هي استيحاء من نصوص أجنبية، اختارها عصام اللباد بدقة شديدة وفق مقياس يصنع منها مجتمعة حالة ذات طبيعة خاصة. أهم ملامح هذه الحالة أنها مسرحيات قصيرة جدا، لا يكاد عدد شخوصها يزيد على الثلاثة. والحدث في كل منها يأتي كما طلقة الرصاص سريعا ومصيبا ولا يسمح بالثرثرة أو التفريعات المجانية. وربما لذلك كله اخترت أن أصفها في العنوان بـ(فن اقتناص اللحظة).
حين ستقرأ هذه المسرحيات (أحد عشر نصا) ستكتشف أن وصف (مستوحاة من..) الذي اختاره اللباد ليصف به ما فعله بها، هو وصف ليس كافيا، كما أن وصف (تمصير) سيظل قاصرا، وكذلك وصف (إعداد)، وغيرها من الكلمات التى ستظل عاجزة عن الوصف الحقيقي لما قام به الكاتب. وربما كانت كلمة (تأليف) هي الأوفق لوصف هذا الجهد. لكنك لن تملك أمام هذا التواضع من قِبله إلا أن يزداد شعور بالاحترام تجاهه. وستتساءل عن معنى هذا الموقف النبيل مقابل ما تصادفه هذه الأيام من سطو متكرر يصفه أصحابه بـ(التأليف) دون أن يرتجف لهم جفن.
سيمتد نبل عصام اللباد إلى آخره حين يفاجئك في نهاية كل نص بأنه يذكر بالتفصيل اسم الكاتب الأصل، وزمن النشر، وأين تمت ترجمته؛ بل ويذكر سيرة مختصرة لصاحب النص. لتجد نفسك أمام عمل يدفعك دفعا إلى أن تبحث أكثر عن هؤلاء الكتاب، ليصبح هذا المطبوع الصغير الذي بين يديك، والذي لا تصل عدد صفحاته إلى الثلاث مائة صفحة هو بوابتك إلى عوالم أرحب من المعرفة والمتعة.
وعلى الرغم من أنني دربت نفسي منذ أن تعلقت بعالم المسرح على ألّا أبدأ بقراءة مقدمات النصوص، حتى لا تؤثر على استيعابي لها بما ستحدده لي من مسار للفهم، فإنني لم أمتلك نفسي من أن أبدأ قراءة هذا الكتاب من مقدمته. فمن أين لي القدرة على تنحية مقدمة خطها الناقد الأكبر، أبانا الذي علمنا السحر، فاروق عبدالقادر! فأن يوافق فاروق عبدالقادر -وهو من هو- على تقديم عمل ما ولكاتب (يبدأ خطواته المسرحية)، فهي إشارة أولى وحقيقية إلى قيمة الكتاب وكاتبه معا.
وها هو فاروق عبدالقادر يقول عن الكتاب: (… هي نصوص معاصرة، ليس فقط لأن أصولها منشورة في تسعينيات القرن الماضي وما بعده؛ بل لأن همومها وموضوعاتها معاصرة بكل المعاني).
وفي مقطع آخر يؤكد الكبير عبدالقادر على أن النصوص التي بين يدينا هي: (… نصوص معتنى بها. ولا شك عندي في أن صاحبها -الدكتور “الطبيب” عصام اللباد- قد بذل جهدا كبيرا في انتقائها أولا، ثم في إعدادها بعد ذلك، وفيها جميعا تنضح العناية المفرطة -أو كما كان يسميه القدماء بالتحكيك- في اختيار اللفظة والعبارة، وأهم من ذلك استخدام تلك الأداة المسرحية بامتياز، وهي لحظات الصمت).
بعد مقدمة ناقدنا الأكبر دخلت إلى عالم النصوص، نصا بعد نص، ظانا في البداية أنني سأستمتع بترجمة دقيقة وبالعامية المصرية لعوالم أمريكية وتشيكية، إلا أنني فوجئت بأن الشخوص مصرية حتى النخاع تنطق بلغة الشارع المصري وتتحرك وفق قوانينه وعاداته؛ بل تكاد ترى في كل منها شخصا تعرفه حق المعرفة أو مرّ بك مرورا عابرا أو امرأة سكنت صندوق ذكرياتك تستدعيها مع هذه المرأة أو تلك.. وهكذا كان من الصعب أن أتجاوز عن تحية هذا الكاتب الذي لم أكن أعرفه ليس فقط على دأبه في البحث والمعرفة ولا على قدرته الفائقه في صياغة حوار مقتضب كاشف لطبيعة الشخصية، ودافع لتحريك الحدث، ولا على امتلاكه لبراعة الاقتناص محققا القاعدة التي تنادي بأن في عالم الدراما (كل شيء بقدر)؛ ولكن وبالإضافة إلى كل ذلك على نبله المتمثل في الكشف عن من أين حصل على هذه الأفكار وذكر أصحابها بدقة وتفصيل.
والآن، لا تنتظر عزيزي القارئ أن أعطيك ملخصا لكل عمل، فذاك هو الفعل المشين الذي عفيت نفسي منه طوال أعوام قراءاتي للأعمال المسرحية، وهنا تحديدا سيزداد الجرم خطيئة إذا ما فعلتها مع نصوص قصيرة دقيقة لكل لفظة حوار بها معنى وقصد، ولكل لحظة صمت فيها دلالة ومعنى. ابحث عزيزي المسرحي عن هذه النصوص المنشورة عبر سلسلة (تجليات أدبية) عن دار ميريت، فهي نصوص كما وصفها فاروق عبدالقادر وبحق (… ملائمة لأن تقدم الآن.. هنا بحماسة ومحبة أقدم هذه النصوص لمحبي المسرح وللمسرحيين الطامحين لتقديم شيء يختلف عن هذا “المسرح المميت” -بالمعنى الذي شرحه المسرحي الكبير بيتر بروك- الذي يملأ خشبات مسارحنا).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت