قدسيّة الإبداع
تعبت خشبة المسرح والشاشات ومعها الجمهور من الممثّل المصطنع ومن حركات جسده الذليلة والكاذبة، ومن نزاعه مع كلّ فعل يجسدّه امام كاتب يدرك جيّداً قوانين النص الدرامي، ومخرج مفكّر يهندس تفاصيل خريطة رؤيته الإخراجية بحنكة وبراعة، بهدف تحقيق انجازات ابداعية على المستوى العالمي، ليضيفَ رؤيةً جديدة تكون هدفاً للفن الآتي…
اذا لم تتكامل كل مكوّنات المسرحية على قاعدة مبادىء المنهج الأكاديمي بدءاً من هواجس الكاتب في اختيار الموضوع والبحث في عالمه وانتهاء بفكر المشاهد، مروراً بمهنية المخرج الملتزم بتطبيق رؤيته الإخراجية ورسم جماليّات فكرها الإنساني، وبعمليّة البحث اليومي للممثّل عن اهداف شخصيّته، وباحترام جميع هذه العناصر لقدسية الوعي، لن يكون في الوطن آفاقُ مسرحٍ يُبنى عليها افكارٌ تؤسّس لحضارة مسرحية عالميّة تنافس بجماليّاتها الفكرية والفلسفية والفنية مدارس ساهمت في تطوير فكر الانسان بعدما نجحت في ترسيخ قوانين قد انتشلتها، عبر محطات مفصلية، من اعماق الإبداع الأدبي، فغيّرت في مفاهيم متحجّرة، وخلقت حركة استفزازيّة للوعي جعلته في حالة استنفار دائم للحصول على مفاهيم تطوير السعادة …
المسرح هو ورشة عمل بين الفنّان والجمهور في البحث عن كيفيّة خلق رؤى وافكار مميزة وصائبة في التحليل المنهجي في عالم الفن والحياة اليوميّة، لأن النتائج ستلعب دوراً في محاربة الشرّ وستجعل من الصدق والتربية الفنيّة نظاماً بديلاً عن الفساد الفني الذي دمّر عمداً الجامعات والمعاهد والمسارح بشهادات زائفة مشتراة من سوق نخاسة واعمال تخدم التخلّف والجهل.
إن غالبيّة جامعاتنا تفتقر الى المناهج الأساسية في إعداد الممثل والمخرج، وهي ايضاً، تتطاول على القوانين الأكاديميّة وتوزّع شهاداتٍ عليا: اجازة، ماجيستير ودكتوراه في اختصاصات الإخراج والتمثيل الغائبة عنها المناهج الخاصة بها وكذلك الأساتذة مستوفي الأهلية العلمية والبحثية لملء شواغرها. اذن، هي توزّع شهادات في اختصاصات غائبة أساساً بصيغتها العلمية الأكاديميّة وحاضرة للسماح بتصدير نماذجَ شاذّةٍ من الخرّيجين الفالحين في العهر والفاشلين في الفنّ والثقافة والحضارة، يسرقون ويشوّهون نظافة وجهود الخريجين الطامحين لبناء وطن حضاري… امّا الملاهي التجاريّة والحانات الليلة وأزقّة المدن فشاهدة على ذلك…
نتمسّك حتى الآن، وبفخر، بتاريخ سطحيّ في المسرح والأدب قبل وبعد ما يُسمّى بنشأة المسرح العربي وروّاده المزيِّفين لعظماء الكتّاب والمفكرين المسرحيّين. هذا التأسيس الخاطىء هو مرضٌ متفشٍ في كلّ الجسم الدراميّ، جعل من العهر الفنّي مدرسةً طالت عدداً من شباب الجامعات حتّى، فراحوا يعكسون فضاءَه الملوَّث على شاشات السينما والتلفزة وخشبات المسارح وتحوّلوا الى هواة فنّ مبتذل في سوق تجاري…
منذ الإغريق حتى هذه اللحظة لم يبقَ حيّا الا من ساهم في الابداع الأصيل وفي الاكتشافات الجديدة في النظريّات وفي التطبيق، اكتشافاتٍ اصبحت مدارس عالمية تعتمدها الجامعات الحضاريّة وتعمل على تطويرها بشكل دائم، اكتشافاتٍ غيّرت مسارَ الحياة الإبداعية والعلمية ورسمت ثورةً فنيّة واقعية في التقدّم والوعي والمعرفة في دياليكتيك المسرح العالمي…
على كلّ فنّان ان يثبت انه مبدع لا منتحل، فما من احد يرغب في ان يتقاسم معه الآخرون انجازاتِه، انّما كلُّ مبدع يسمح ويطمح بأن يطوّر الآخرون معه تلك الانجازات، خدمة للبشرية وفنانيها…
اعلم جيّدا ان العلاج ليس بالأمر السهل وان الأزمةَ متجذّرةٌ منذ مئات السنين ولم يحاول احدٌ علاجَها في السابق، فبقيت بعضُ اراءِ المثقفين الجديّين خارج الزمن حتى تراكمت عاداتُ نسف المناهج الاكاديمية وسيطرت الأعمال الساقطة، في ظلّ المشكلة الأساسية الكامنة في الانظمة السياسيّة التي دمّرت الحياة الاجتماعية والثقافية عبر الهروب من البحث عن بدائل للحالات الرجعية من جهة وللمظاهر الفنية البرجوازية السخيفة من جهة أخرى، لأن اصحابَ الرأي السائد مقتنعون ان ما يحدث هو امر طبيعي وان هذا هو الفن.
علينا الاعتراف بجرأة وشجاعة، انه منذ تأسيس غالبيّة المعاهد المسرحيّة في عالمنا العربي وحتى هذه اللحظة، لم تذهب كل السنين هدراً فحسب بل امعنت في ترسيخ ثقافة الفوضى.
لقد بات من الضروري اعادة بناء وتكوين اقسام المسرح في الجامعات والمعاهد بمساعدة اختصاصيين في الإدارة والفن، اختصاصيّين يُشهد لشهاداتهم من جامعات عالمية موثوقة ومعروفة بتاريخها العريق، اختصاصيّين يبدعون الجديد انطلاقا من بيئتنا فتكون ابحاثُهم مرجعاً عالميّاً يساهمون من خلالها في تطوير الحياة المسرحية في الوطن، على اسس تشرّفنا بالجلوس حول طاولات عالمية للابداع الحقيقي وليس كما في المهرجانات والندوات التي تُبنى على المصالح المتبادلة والعلاقات الشخصية والنفعية والسياحة المبتذلة تحت غطاء المسرح…
المسرح معبدٌ للابداع الملتزم بمفهوم الانسان والانسانية، معبدٌ لصلاة جماليّات الفكر المسرحي ولترتيل سمفونيّات الاكتشافات الفنية.
نحن اليوم بأمسّ الحاجة الى قطيعة معرفيّة تسعى وبصدق للنهوض بالمناهج المسرحية والفنية وتساعدنا على البحث في تطبيقاتها على الخشبة بإدارة مفكّرين طليعيّين، لان الاستمراريةَ في البحث الاكاديمي والابداعي هي الحلُّ الوحيد لمسرح يطمئن رغبات الفنان والمواطن وكل مثقّف يطمح لأن يعيشَ ويبدعَ في وطنٍ حضاري…