مرحاض لعلي العبادي: نص فنتازي يٌقلق ويٌوصِد بوابة الصالة!!!/ فاروق صبري
منذ عنوان النص غير (المؤدب) وغير المؤدلج (مرحاض) يستفزك الكاتب علي العبادي ويدفعك خلاله -أي العنوان- ومع السطور الأولى إلى مكان تفوح منه روائح نتنة من ثمان مراحيض شرقية وغربية ، لماذا هذا العدد من المراحيض ولماذا تقاسمها بين الشرقية والغربية ؟؟؟
ودون البحث عن الإجابة على تساؤلنا نتوقف عند إستفزاز العبادي المٌتعمد والمٌخطط مٌسبقاً لإقحام القارئ في مكان غير مألوف إلا في أوقات قضاء الحاجة !!!!
وأيضاً نتساءل لماذا الإستفزاز أوالإقحام الذي ينسجه العبادي في طقوس الكوميديا السوداء ؟
ومع تواصل قراءة النص (مرحاض) تتواصل الإجابة على هذا التساؤل ، فالعبادي وبإسلوب كتابي في غاية الذكاء والكثافة يٌقدم حكاية (علاء الدين والمصباح السحري) عبررؤيته المختلفة ومعالجته المتعارضة مع سيرة الحكاية ، فمصباحها يتحول إلى مرحاض وماردها يصبح جباناً ومستلماً وبائع كلام لايقدر تلبية ما يتمناه علاء الدين ، :
☹المارد: (يضحك بقوة) هههههههه وهل وجدتني غنيا كي أمنحك جزءاً من ثروتي ؟
علاء الدين : (بحزن) أمنحني القوة … وسحرك ؟
المارد : (يضحك) هههههه … لو كان لي قوة لما استعنت بك للخروج من هذا المرحاض .
عالء الدين : وماذا عن سحرك ؟
المارد : (يضحك) ههههه ، انطفأ ضياؤه منذ زمن بعيد
هل تقديم المارد للإعتراف بأنه مٌعطلً وإن فانوسه لا ضوء فيه كافٍ لعلي العبادي وهو يلوي ويكسر عنق زجاجة الحكاية ولنقل يحاول سردها بلغته الساخرة إلى حد البكاء والقريبة لتيارات العبث واللامعقول ورؤيته النابضة من وقائع يومية نعيشها ومن صور الوجع والقهروالإنتظار والخراب النفسي والبنياني والخيبات والخسارات وشلّ الضمير والوعي ؟؟؟؟؟؟
إن العبادي في نصه (مرحاض) يكتب (علاءه ومارده) ويرسم مرحاضاً بدلاً من المصباح ويغادر شخصية علاء الدين الرومانسية الحالمة بالزواج من إبنة السلطان وبناء قصر لها إلى علاء الدين ساخط يخرج من المرحاض ويجعل منها منطلقاً لبناء مملكته التي تنث روائح وشخصيات ومواقف نتنة وفاسدة ، مساحة من القبح تشغل جغرافية االحدث وشخصياته وأفكارها و(أمنياتها) ولغتها وأمكنتها ، فهل مثل القبح يعيق إيصال أوتجسيد جمالية النص للقاري، في كتاب (جماليات المكان) يحاول غاستون باشلار أن يجيب على هذا التساؤل بطرق غير مباشرة وخاصة حينما يتحدث عن صدق التعبير في تأسيس فضاء النص وفي بناء أحداثه وشخصياته ولغته ، نعم مثل هذا الصدق والصارخ جداً انشغل به وتبناه علي العبادي في نصه (مرحاض) حيث فيه يقلب جوهر الحكاية التي سمعناها من جداتنا وأحبها أطفالنا ونحن وكتبت بها وعنها العديد من النصوص والأعمال الفنية، ويفكك اسطورية الحكاية وبل ويهشمها ويُسفّه ويُدين حدثها الخرافي وماردها السوبرماني وعلاءها العاطل الرومانسي ، إنه -اي الكاتب- يهدم أسطورية الحكاية وبنيتها الكتابية من حيث المكان والزمان والشخصيات ويزيح كامل ركامها وغبارها وفانوسها ويترك أرضها منبسطة لا أثر فيها وحتى صرخة (لبيك شبيك المارد المطيع بين يديك) نسمعها مرّة وبصوت منافق مثلما يقول (علاء الدين) العبادي.
وإذا كان (علاء الدين) العبادي يمثل الحاضر المحاصر بالعفن والقهر والحاجات فإن مارده يتجسد في لا جدوى طلب (الامنيات) من واقع صار مرحاضاً فالكاتب يحاول إستحضار اسطورية الحكاية إلى الأذهان ومحاولته لا تذهب إلى إمتاع القارئ كأنه يعيش داخل حكايات ظريفة وإنما بالعكس دفعه إلى داخل فضاءات فنتازية موجعة وغير مألوفة تتأسس خلالها الأحداث والشخصيات والحوارات المكثفة والدالة عبر طقوس كوميدية سوداء تثير التساؤلات وتفضح المستور وتدفع القارئ إلى حالات من القلق واليقظة والشك .
هنا تتجلى صفعة العبادي لوعي مّغفل ومُعطل ما يزال خانعا ، خاضعاً لــ(ثقافة) اليقينيّات الحالية ولتخريفات أساطير تشبه حكاية (عصا موسى) التي لم تشق البحر لكنها تركت وإلى الأن قناعات باطلة تقود الوعي إلى الظلام والتيه، إلى الخراب، المستنقع الإجتماعي المتمثل بمراحيض ثمانية شرقية وغربية يريد العبادي إشهارها أمامنا ويحاول أن نشتم روائحها النتنة ونلتقي بشخصياتها المنافقة والغارقة في انتظارات (امنيات) غادرة يريد علاء الدين تحقيقها (مملكة)، وأية مملكة هذه ، لنقرأ:
علاء الدين : (يزهو) سوف أؤسس مملكة
المارد : (يفغر فاه) مملكة!
علاء الدين :أجل
… علاء الدين يتجه إلى أحد المراحيض المكشوفة الغربية فيجلس عليها متخذاً منعا عرشاً ، ويخرج من جيبه المسلة……).. تتوضح ماهية المملكة التي يحلم علاء الدين تأسيسها مع إصداره فرمانات للمارد كي يجد أناس يشاركوه في الحكم ولكن لابد أن يتصفوا بـــ(قيم رثة) وبكونهم من (السفلة والشواذ والقوادين وممن لديهم خدمة جهادية ) وأيضاً مع إتخاذه المرحاض عرشاً للمملكته ، عند هذا الحد نلمس أن العبادي يسرد وقائع لأنظمة سياسية تحكمنا الأن ولكن ما أن يُخرِج علاء الدين من جيبه ( المسلة) حتى يربكنا السارد ويجعلنا في حيرة وتساؤل من أمر قراءتنا للنص ، لماذا أشهر علاء الدين مسلة تُلمِح وكأنها مسلة حمورابي أو تشبهها بالتسمية!!!؟؟
هل أراد علي العبادي القول انهيبة عرش حمورابي المبني بحجر اسود (الديوريت) والمبني حوالي أكثر من ألف عام قبل الميلاد وإن مسلته الحضارية الحجرية المنحوته عليها 282 بنداً قانونياً قيل أنها عادلة ولصالح الإنسان وحياته وبيئته قد تحولتا بيد أمثال علاء الدين الحاضر إلى مرحاض يحيطه ويتعشش فيه المنافقون والأرذال ويجلس عليه حكام يبنون مملكتهم عبر (مسلة) مثقلة بالقوانين الرثة والصالحة للدعارة والسفالة واللصوصية .
إعتمد علي العبادي في نصه مرحاض على كثافة في اللغة وبناء الحدث عبر مفردات ظاهرها السخرية وباطنها المرارة ، ولم يُهادن الذاكرة الجماعية التي تحتفظ بعذوبة حكاية علاء الدين وسحرية مصباحه ، ولم يساير وقائع حياتنا اليومية ولم يغلق أغطية مراحيضها وهي تختنقنا براوائحها البشعة والقاتلة، ولم يرن جرس الإنذار والتحذير، أشعرنا بأن في سبات نغط بالنوم ونتغطى بالعذر والكسل فيما روائح مراحيض العفنة تنتشر في الأرواح وليس فقط عند أرنبة الأنف ….
ملاحظة سيناغرافية :
بعد الإنتهاء من القراءة أو بعد الإنتهاء عرض مرحاض ينهض الجمهور مُتوجهاً نحو أبواب الصالة ، وإذا بها مُغلقة ، أضواء الصالة تنفتح بالكامل فيما الجمهور مجتمعين حول بوابات الخروج وإذا بالأغطية السوداء المتعددة المغطية كراسي الجمهور ترتفع وتظهر الكراسي على شكل مراحيض بيضاء، الجمهور ينزعج من مشهد الكراسي المراحيض ويتوجه بشكل عاصف صوبهاوفي صياح وهياج ودق بالأيادي على البوابات الموصدة..