المسرح الذي لا يشيخ../ يوسف الحمدان
وحده المسرح الذي لا يهرم ولا يشيخ ولا يموت، لأنه ولد بعمر الأسطورة، حيث ميلاد الأبدية، حيث الزمن الذي يسبق كل ميلاد، وحيث النصوص التي استحضرت الأسطورة وتمثلتها قبل بزوغ فجر هيرودوت، وحيث الملاحم التي سبغت على آلهتها وأنصاف آلهتها والبشر روحًا أسطورية عصي على واصفها وفارزها ومصنفها رهن احترابها بتضاريس مواقع أحداثها، فأي ملاحم تلك التي تتربع الأسطورة عرش تواريخها وأحداثها ونسيج نصوصها؟ هل كان المسرح أول الخلق في التكوين؟ هل كنا لو لم يكن المسرح؟ هل كنا نحيا لو لم يكن المسرح أول الفعل؟ هل كنا نتاج أسطورة سبقت أي كتابة أو فعل؟ هل كانت الأسطورة مخيال دفقنا المسرحي الأول؟ هل كانت الأسطورة وكان المسرح المستحيل؟ هل كان المستحيل المولد الأول للشك الخلقي المنتج للمسرح؟
وحده المسرح الذي ينتج الأسطورة ويهد أركانها بأزاميل أسطورية أيضا، وكما لو أن حالة إنتاج الأسطورة وهدم أركانها ضرورة لخلق مسرحي أكثر تمردا على ذات نشوئه واكتماله، ضرورة للبحث عن نوع يستثري با الذي سوف يأتي بعده ولا يقف عند نواصيه، ذلك أنه المستحيل الشك، حيث لا يقين إلا ما يكون أكثر شكاً في المستحيل والشك معًا.
وحده المسرح الذي خلد أساطير الحياة منذ زهرة الخلود الدلمونية وزهرة اللوتس الفرعونية ورموز الحب والبغض والخير والشر والخصب واليباب في كل أساطير الكون، وظلت معينا لرؤانا ورؤيانا في المسرح حتى يومنا هذا والأيام التي لم تأت بعد، لذا نعود إليها كلما استبدت بنا الأسطورة أو استبد بنا التاريخ أو اضطرنا الواقع لنقرؤها بمثل ما تم التسليم بها أو بعكسها أو بما يقترحه مخيالنا عليها، ونظل نبحث شكًا فيها أو في ذواتنا أو في وجودنا، معتملين في أتون صراعات وأحداث تدفعنا نحو التباس أكثر فيها، بوصفه مولدنا الرئيس الذي نحتاج كي يظل المسرح مغمورًا بفيض وشظايا الفعل الذي يرسم خريطة اشتغالنا في المسرح كلما اعترض مخيالنا سور أو حاجز أو سديم..
وحده المسرح المتنوع المتعدد فينا، إلى حد يوشك أن يكون كل انفعال أو فعل في تفاصيل جوارحنا أو حياتنا نوعًا من أنواع المسرح، نوعاً يتنوع ويتعدد ويقترح اشتباكاته وتقاطعاته مع كل تفاصيل ذواتنا وواقعنا واللامرئي في كوننا، وكما لو أن جهازنا البشري عالمًا ممتدًا مكتظًا بما سبقه وبما فيه وبما سوف يأتي ويحدث بعد.
وحده المسرح الذي لا ينتظر بيتا أو مأوى كي يعيش ويحيا، وكما لو أننا خلقنا من أنفاسه وترابه وهيوليته وسديمه، إنه يوجد في كل مكان ويأتي بأزمنة لم تكن يوما رهنا بزمان، أو ملتبس على الذات مكانها أو زمانها، إنه أشبه بسيزيف كل الأزمنة واللاأزمنة، هدفه في كل لحظة صعود بالصخرة العذاب والمحنة أن يصل ولا يصل، لأن في الوصول محنة وعذاب أيضًا، إذ ماذا بعد الوصول؟ ألم يكون غودو بيكيت الذي ننتظر ربيب هذا السيزيف؟ ويا ترى ماذا يحدث لو وصل غودو الذي انتظرناه؟ إنه المنتظَر المريب، إنه نهاية البحث والاكتشاف والعثر لو كان قد وصل. إن حريتنا الاخيرة والأبدية في سيزيف الذي لا يزال حتى يومنا هذا يعاود حمل الصخرة على عاتقه كلما ألقت به ذرى الجبال في قاع الأرض، فهل كانت هذه الحرية فكرة لا منتهى ولا حدود لتحققها حتى تصبح أبدية مقرون أمر اشتعال فعلنا المسرحي باستمرارها؟
حريتنا في بروميثيوس الذي لا يكف عن إيقاد شعلته كلما تعمد البعض أو استمات من أجل اطفائها..
حريتنا في رامي القرص كلما عاود رمي قرصه ثانية لحظة ارتداده..
حريتنا في زهرة الخلود التي لا زال جلجامش يبحث عنها ليمنح البشرية حياة جديدة خالدة..
إنها الحريات التي تكتنز بوهج يتجاوز حدود كل مصنفات وأنواع الدراما إلى ما بعدها، وتدعوك للحوار حولها من أعلى ذرى الشك والمستحيل، إذ ما الحرية الخالدة إذا كان البحث مستحثا عن مستعبد جديد؟ فهل فضاء المسرح مقرونة حريته بالبحث عن الحرية كلما رسى قلقه الوجودي على حرية ظن أنها المستقر الأخير؟ هل كان (جوزيف ك) في قضية أندريه جيد وجان لويس بارو في (القضية) المقتبسة عن (محاكمة) فرانز كافكا، مقرون أمر عدالته وحريته بالإجابة على التهم الموجهة إليه من قبل القضاة المسخيين؟ أم أنها مقرونة بحرية ليست رهنًا بتهم أو مساءلات، بقدر ما هي مشغولة بحزمات الشك الكافكاوي المرتاب في كل أفضية الحرية والعدالة في هذا الكون؟..
وحده المسرح الذي لا تغلق أمام وجهه كل قبب البرلمانات في هذا الكون، لأنه الأسبق منها، بل هو منتجها قبل أن ترسو أركانها على عتبات مدينة أثينا ما قبل الميلاد، وهو المعارض الأول لقوانينها التي لم تنصف بعد حين من الدهر شكوك فلاسفة أثينا العظماء، من أمثال سقراط وتلامذته، أو أريستوفانيس الذي فتح أبواب الجحيم على كل سلطات أثينا بنقده الغروتيسكي العالي والمر عبر مسرحياته الكوميدية الساخرة، وحده المسرح المجبول بصراع مضن من أجل الوصول إلى حرية يرى ما بعدها بوصفه الغواية الأبدية لمخيلتنا.
كم هم عظماء هؤلاء الذين وجدوا في المسرح طريقًا ابديًا للبحث عن خلاص لا بد وأن يكون مؤكدًا عبر الأزمنة كلها وإن ظل حلمًا، كم هم عظماء هؤلاء الذين استلهموا رؤاهم المسرحية من ملاحم أزمنة سحيقة ومن واقع يقترب من روح الأسطورة ومن فضاء هو أقرب للحلم من الواقع، من أمثال تشيكوف وغوغول وماير خولد وأرتولد بريخت وارتو وبيكيت وهارولد بينتر والمعلم الياباني سوزوكي وأريان نوشكين وغروتوفسكي وتادوش كانتور وتوفيق الجبالي وسعد الله ونوس وبيتر بروك وأوجينيو باربا وليتشه وأمثالهم من مفكري المسرح الذين اشتبكت رؤاهم بقلق البحث الذي يدفعنا لقراءة الشك حتى شك آخر فيما نتوفر عليه حريات هي ليست من قبيل المنال، ومن حريات هي في ملتبس التكوين والتشكيل، ومن حريات هي في فسحة العرض وفي فضاء المتلقي.
هل نريد مسرحًا بحجم رأس ستيفن هوكينج عالم الفيزياء والفضاء والرياضيات الذي قرأ مستقبل الجنس البشري والذي ظل يردد في كل إنجاز حضاري كوني هذه العبارة «إني بعد لم أكمل عملي»؟ إنه أسطورة الرأس والحياة والنبؤة، فهل أكمل المسرح بعد عمله، أم أننا اليوم مطالبون أكثر من أي يوم مضى للبحث عن شك يدمي يقين قناعتنا بالوصول إلى ما نريد في عالم المسرح؟.
اعتقد أنه حان الوقت كما يذهب إلى ذلك المخرج الأمريكي بيتر سيلرز كاتب كلمة اليوم العالمي للمسرح لهذا العام للانتعاش العميق لعقولنا، لحواسنا، لتخيلاتنا، لتاريخنا، ومستقبلنا. ولا يمكن القيام بهذا العمل من قبل أشخاصٍ معزولين يعملون بمفردهم، يتعيّن علينا القيام بهذا العمل معاً، والمسرح دعوة للقيام بهذا العمل معاً..