نص مسرحية: “بين موتٍ وموت” / تأليف: مرتضى عوده
الشخصيات:
ـ حفار القبور
ـ الموت
ـ الحرب
المكان : مقبرة…
ـ مراسيم دفن لقتيل، نرى العشرات من الناس تبكي، امرأة بدت أنها ام المقتول، تصرخ وتولول، الدموع قد غزت وجهها
ـ تنتهي المراسيم، يغادر الجميع ماعدا حفار القبور الذي يبقى جالساً قرب شاهدة القبر
الحفار : (ينهض، يشير الى المقبرة) اللعنةُ عليكِ، ألم تشبعي؟ أخذتي الكثير من الرجال ولم تكتفي بذلك، حتى الصغار والنساء لم يسلموا من فمك المُشرع دائماً، لـــمَ كل هذا ومن اجل من؟ (يشير لأحد القبور) لماذا قتل هذا الرجل؟ لقد قمتُ بدفنه قبل أربعين عاما، قتل في تلك الحرب المشؤومة لكي يدافع عن ارضٍ لا يملك شبراً واحداً فيها، من اجل ارضٍ لم تشبع من الدماء… هكذا قالوا عائلته عندما احضروه هنا، ما زال صوت امه المليء بالحسرة يرن في اذني عندما قالت له: لماذا ذهبت؟ لقد قُتلت من اجل ارض لا تملك فيها بيتاً! في كُلِّ مرة أمر فيها من هنا انظر الى صورته التي تغير لونها وبدأ يتلاشى على مر السنين، وكأنه كبر واصبح عجوزا مثلي، ربما انه لا زال معنا بالرغم من انه غادر الى العالم الآخر. أفنيت عمري في دفن الموتى.. حتى اعتقدت أن لا شيء في الحياة سوى الدفن، حتى في أحلامي لا أدفن سوى الجنود، وصارت الحرب رزقاً من ارزاق الله لي… (يصيح وهو يرفع رأسه الى الأعلى) تعبت، وحقك تعبت يا ربي، متى تتوقف يدي من الحفر؟ كلما انطفأت الحرب اشتعلت أخرى، تعبت، والله تعبت، لذلك قررت أن لا أدفن أحداً بعد هذه الليلة…! (يصرخ بصوت عالٍ) سكفس.. لن ادفن بعد الأن، لن ادفن…
( يظهر رجل بملابس بيضاء اللون، يرتعب الحفار منه)
الحفار : من انت؟
الموت : ألم تعرفني؟
الحفار : لا.. كيف لي ان أعرفك؟
الموت : عجبا.. كنت اظن بأنك ستعرفني مباشرة
الحفار: هل أنت ميت؟
الموت: (يضحك) لالا…
الحفار : فكيف اذاً سأعرف شخصاً لم أره من قبل؟
الموت : لأنه ببساطه.. أنت تُكمل ما بعد عملي مباشرة!
الحفار : (يستغرب) وماذا تعمل أنت؟
الموت: أنا…….. الموت!
الحفار: أنت هو ؟!
الموت : نعم.. أنا هو.
الحفار: ماذا تريد؟
الموت: جئت من أجلك
الحفار: (يصيح فرحاً) أخيراً.. أرجو أن يكون أجلي قد حان
الموت: لا لم يحن أجلك بعد، ولكنني جئت بأمر من الله لكي امنعك من التوقف عن دفن الموتى
الحفار : (بغضب) تمنعني؟ هذا قراري الأخير ولا شأن لك، لن ادفن بعد الآن
الموت : هذا ليس خيارك فأنت مجبرٌ على ذلك
الحفار : لماذا انا مجبر، انظر من حولك، لم يبقَ في المقبرة مكانٌ للدفن، امتلأت تماماً، هل خُلقنا لكي نقتل وندفن؟ أهذا كل شيء؟ ما الغاية؟ أخلقنا حتى نتحوّل الى حطب حرب هنا وهناك؟
الموت : هنالك أسئلة لا يمكن الإجابة عنها
الحفار : (بسخرية) وهل الدفن من هذه الأسئلة؟
الموت : منذ بدأ الكون حياته وهذا القانون سارٍ.. ما دام هناك من يولد لابد من أحد يموت، ولا يمكن لك أن تُبقي الجثث مرمية على قارعة الطرقات لتتفسخ
الحفار: ولــمَ كل هذا؟ لماذا؟ لــمَ لا يوقف الله كل هذا القتل؟ لم تعد لنا طاقة على التحمل، يداي تعبتا من الحفر يا موت.
الموت : يا حفار القبور.. الله أعطاكم العقل لكي تتحكموا بما يحدث
الحفار : العقل؟ وهل يمكن لحريق حروب المجانين أن ينطفئ بالعقل؟
الموت : جعلتم من العقل أداة لتلك الحرائق
الحفار : لا شيء في رؤوسنا غير الغضب والقسوة والقتل، فمن وضع كل هذا فينا؟
الموت : وايضا وضع الرحمة والحب.. أنت من تختار أن تكون رحيماً أو قاسياً، أو متعطشا للدماء..
الحفار : (يتربك) لا لا.. لقد خلق لنا النار لأنه يعلم اننا سنغرق بالخطيئة
الموت : وخلق الجنة لكم.. لأنه يعلم أن بعضكم سيغرق بالمحبة
الحفار : (يستاء) لديك اجابة لكل سؤال
الموت : انا مجرد ناقل لعلمه سبحانه
الحفار : لماذا خلق الحرب إذاً؟
الموت : الحرب لا تُخلق (يشير لرأس الحفار) الحرب تُصنع هنا في مصانعكم…
الحفار : لذلك تعبت من الدفن.. اتركني أرجوك
الموت : كيف اتركك؟ لابدَّ أن تتوقف عن اضرابك
الحفار : حتى تستمر أنت بقبض الأرواح المسكينة!
الموت : لا متعة لي في ذلك، أنا مجرد وسيلة لكي أنقلكم الى العالم الآخر
حفار : اذاً.. اقبض روح الحرب لكي تجف بحيرات الدم
الموت: ستولد أخرى.
حفار: واقتل الأخرى أيضا…
الموت : هذا ليس من شأني
الحفار : شأن من إذاً
الموت : شأنه تعالى…
الحفار : دعني أكون بدلاً عنك.. لكي أستل روحها
الموت : يمكنك قتلها من مكانك دون أن يكون اسمك الموت
الحفار : وكيف افعلها؟ أنا لست سوى حفار قبور جبان وضعيف
الموت : اخبرتك بما يكفي، لا استطيع مساعدتك اكثر من ذلك، ابحث عن الطريق الصحيح في روحك (يختفي…)
الحفار : (يصيح) وقف اين تذهب؟ لا تتركني هكذا معلقاً بين المقبرة والسماء، عليك مساعدتي، اين اختفيت؟ اذا لم تعد سأعلن الاضراب فعلاً، ولن أدفن بعد الان أية جثة…!
(يتفحص فضاء المقبرة، بعدها يأخذ مجرفه ويبدأ بالحفر…)
الحفار : سأجهز هذا القبر من أجلها.. ستكون هذه آخر مرة أدفن فيها، وبعدها سأتقاعد…
(تظهر فتاة ترتدي ملابس سوداء)
الحفار : ومن انتِ ايضا؟
الحرب : (بضحكة ساخرة) الم تعرفني؟ فأنتَ تبحثُ عني منذ زمن بعيد
الحفار: وكيف لي أن اعرفك؟
الحرب: أنت تعتاش من حرائقي
الحفار: حرائقك؟
الحرب: (تشير للقبور) كل هؤلاء قتلوا بسببي!
الحفار: فمن أنتِ؟
الحرب: أنا اسمي.. الحرب!
الحفار: الحرب؟! أنا احفر قبرك الآن
الحرب: لن تسعني كل قبور هذي المقبرة
الحفار : يا ربي.. ماذا تريدين؟ أما شبعتي؟
الحرب : (بسخرية) أستغرب دائما أنكم تحملونني ذنباً وأنتم من تشعلون حرائقي التي تأكلكم فيما بعد
الحفار : لكنك الحرب، اسمك يشير الى الموت، تلك القبور ضحاياك
الحرب : ضحاياكم.. لست سوى أداة ايها الحفار، إنكم تقتلون الآخر باسمي، أنا نفسي تعبت من نفسي، أتمنى أن اتقاعد مثلك يا حفار القبور.
الحفار: لن تتقاعد، نارك أزلية بدأت مع أول نفس حلَّ على هذي الأرض ولن تنطفئ إلا مع آخر نفس يقتل (يشير الى قبر الشاب دفنه حديثا) انظري الى صورة وابتسامة ستختفي مع المطر والشمس
الحرب : أنت كغيرك يعتقد أن الخيار بيدي، كلما أخذت غفوة ونمتُ ايقظني أحدهم بهدير دباباته ودوي مدافعه
الحفار : أنت تتمنين أن تحل الفوضى والدمار في الأرض من أجل أن تعيشي
الحرب : هذا ليس حلمي.. بل حلمك أنت، لكي تعتاش على ضحاياي
الحفار : أنا أدفن حتى أحفظ سر الموت الذي حلَّ ضيفاً ثقيلاً يا حرب
الحرب: وأنا أداة مثلك يا حفار
الحفار: لابد لأحدنا أن يموت، يقتل!
الحرب : اذا تعتقد بأنني السبب لتقتلني، تظن بقتلي سيهدأ هذا الكون.. هيا تقدم وضع رصاصة في رأسي أو خنجراً في بطني، ولكن عليك أن تعلم أن السلام لن يحل.. فهناك ألف حرب وحرب ستشتعل ما دام هناك من يعش على نارها.
الحفار : (يشهر خنجراً) لالا.. سينتهي كل شيء بموتك، أنا واثق من ذلك.
(الحفار يقوم بطعن الحرب ببطنها، تسقط ارضا وتموت…)
الحفار : (يصرخ بصوت عالٍ وهو يرقص) لقد فعلتها، قتلت الحرب، سيحل السلام في هذه الأرض، ستغلق هذه المقبرة الى الأبد، لن أدفن أحداً بعد اليوم…
(يسمع صوت دوي انفجار، وصوت أزيز اطلاق رصاص مباشرة، وأيضا نسمع صراخ بارز للناس…)
الحفار : ما الذي حدث؟ قلت لكم لقد قتلت الحرب، لماذا دوي الانفجار هذا؟ لماذا ازيز الرصاص؟ لماذا لم يتوقف القتل ، لقد قتلتها ، لماذا لازال الموت مستمراً…؟
(نرى العديد من التوابيت تخترق المقبرة، وبعضها يوضع بالقرب من الحفار، يظهر الموت في المقبرة)
الموت: مساء الخير…
الحفار : الخير؟ (للتوابيت) كما ترى.. كيف يحل الخير؟ لقد قتلت الحرب يا موت، لِــمَ لم يتوقف القتل اذاً؟ لقد تخلصتُ منها.. لماذا ما زالت رائحة الدم تهيمن على المقبرة
الموت : انا اشفق عليك كثيراً، لا يمكن لخنجرك أن يقتل الحرب أبداً، لأنها تتناسل في رؤوسكم، الحرب تتجوّل في الشوارع والبيوت والغرف الصغيرة، فكيف لها أن تموت وهي صانعة للموت؟! دعنا نرجع لعملنا.. أستل أروحهم وما عليك سوى الدفن، عد يا صديقي الى الدفن فهناك الكثير من الجثث قادمة اليك، تحتاج الى مجرفتك… (يختفي)
( يأخذ الحفار المجرفة، ينظر له.. وبعدها يبدأ بحفر قبر جديد بهمة عالية)
انتهـــــــت
**العراق-الناصرية 2020