البحث في تخوم ميكروفيزيائية الفعل المسرحي/ يوسف الحمدان
المخرج الكوني محمد شرشال..
- حاول فيها قراءة وتفكيك تجربته المسرحية التي بدأت منذ المراهقة وتنامت مع كثرة المشاهدات
ندرة الندرة هم المخرجون في مسرحنا العربي الذين شغلهم البحث في تجاربهم المسرحية من أجل أن تصبح وتتحول من خلال الاختبار والاكتشاف والاستقصاء المتواصل إلى اتجاهات مسرحية مؤثرة وخلاقة، ليس في محيط معملها الخاص فحسب، إنما في محيط وتيارات المسرح على امتداد خريطتنا الكونية، من بين هؤلاء المخرجين يأتي المخرج الجزائري الكوني المبدع محمد شرشال ليدشن في مختبره بفضاء الركح تجربة مخبرية جديدة ومغايرة وإشكالية على صعيد التكوين المركب لرؤية الخلق الإبداعية في المسرح.
المخرج الجزائري محمد شرشال
ففيما انصرف كثير من المسرحيين في زمن الكورونا لملء فراغهم باستعادة بعض العروض التي لا تضيف ولا تضيء في أغلبها جديدًا أو مختلفًا واستحضار بعض الذكريات بعيدًا عن الجهد الراهن الباحث عن رؤية مستقبلية لأعمالهم المسرحية، يأتي محمد شرشال وفي عمق الأزمة والجائحة الكوفيدية ليؤكد أهمية مشروع المختبر المسرحي والبحث من خلاله عن ما يجذي تجربته المسرحية ويضمن لها مستقبلها، خاصة بعد عرضه الإبداعي (جي بي سي) المربك لقناعات أهل الوعي السائد والمسرح المطمئن على نفسه، وكما لو أن شرشال يغرد بتجربته المشاكسة خارج سرب من يطيلون النظر دون أن يدركوا الأقرب منه إلى عيونهم، ولتصبح هذه (الأزمفيديا)، إذا جاز التوليف المصطلحي للأزمة والكوفيديا، فسحة ومحفزًا لقراءة رؤيوية جديدة ومغايرة في تجربة شرشال نفسه.
وعندما يتحدث المسرحيون عليك أن تصغي لأفعالهم أولاً.. وهذا ما جسده الفنان المخرج المسرحي الجزائري المبدع الكوني محمد شرشال في رحلته البوحية نحو البحث في الفعل المسرحي والتي لم تتجاوز النصف ساعة حاول فيها شرشال قراءة وتفكيك تجربته المسرحية التي بدأت منذ المراهقة وتنامت مع كثرة المشاهدات للعروض التي تقدم آنذاك في الجزائر وكان لها كبير الأثر إلى زمن محدد على تجربته، كتجارب المخرج الجزائري الشهيد عبدالقادر علوله من خلال فن القوال في مسرح وهران وكاتب ياسين في مسرح سيدي بوالعباس وولد عبدالرحمن كاكي في مسرح الفعل الفيزيائي والكوميديا في مستغانم وتجربة المسرح الجماعي في قسنطينة وغيرها من التجارب المسرحية المتنوعة والمؤثرة على تجربته في فترة معينة من شبابه المسرحي، والتي كان من خلالها يبحث عن ضالته المسرحية ورؤيته المختبرية الجديدة.
لم يكن شرشال في هذه الرحلة ساردًا لتاريخ مسرح من سبقوه من الرواد والمسرحيين في الجزائر، إنما كان باحثًا فاحصًا شاخصًا معضدًا برؤية عميقة استبارية متأملة لواقع حال المسرح في الجزائر، وكان مشدودًا ومشدوها حينها بالتجارب المفصلية التي أسهمت اليوم في تشكيل مسرحه المغاير والذي يعد اليوم واحدًا من أهم المسارح في حراكنا المسرحي العربي، والذي تجاوز بجهوده الإبداعية سياج الخارطة المسرحية الثقافية الجزائرية العربية، لذا من حق شرشال أن يعلنها بأننا لسنا دخلاء ومتطفلين على المسرح، فهم أبناء التجربة التي أهلتهم لأن ينتموا لشرعية المسرح الخلاق المشاكس للرؤى البليدة الراكدة الميتة.
ولقد اقتضت هذه الرحلة نحو البحث عن الفعل المسرحي من شرشال المخرج الباحث الاستقصائي أن يقتحم مجالات الاقتباس والتوليف فالتأليف فالوقوف على النصوص العالمية المغايرة، كنصوص يونسكو ودورينمات وغيرهما من كتاب المسرح الباحث عن أفق فمختلف في كتابة النص المسرحي، ليصل إلى مناطق حرجة مقلقة وجدها أقرب من غيرها إلى كونه الباحث عن رؤية جديدة تتجاوز حدود النص السارد أو الفعل اللفظي أو الفسح النصي التقليدي في بناه التركيبية، خاصة بعد تجوال رؤيته في فضاءات الخلق المسرحية التجريبية الجديدة في عالم المسرح، فلم يعد مهووسًا أو مسكونًا بالنص الثرثار أو النص البوق الطافح في التجربة أكثر من الفعل الذي ينبغي أن يكون مترجما لها ولحوافها، إنه الباحث عن الذات وهي تتعدد وتتشظى في ذوات، الداخل في العمق وفيما وراء دلالة الكلمة والمعنى، المحول للفعل الفيزيائي إلى فعل ميكروفيزيائي على حد تعبير ميشيل فوكو، الهارب من سطوة اللغة التامة إلى لحظة اللا لغة، اللا فعل، ليبني ويدشن من خلالها حيزًا واسعًا لإزاحة المتشابهات في اللغة والفعل واللفظ، إنه اختبار إلغائي قصدي للنص (المسردن) أو (المعلب) والمتخم بالكلمات والألفاظ، وكما لو أنه يعيد برؤيته قراءة الشتات اللفظي وعزلته ولا جدواه في نصوص يونسكو وبيكيت وبيتر هنديكه، لتصبح لغة شرشال في حد ذاتها إيماء ينتمي لفعل الجسد أكثر من انتمائه لـ(سمهجات) الملفوظ في اللغة المحكية.
إن شرشال في مختبره المسرحي يمعن البحث في خلق لغة من اللا لغة، وهذا هو التحدي في مواجهة المفردة أو العنصر أو المركب أو المتاح، إذ كيف يتطور الفعل غير اللفظي ويصبح متجاوزًا في بلاغته الفعلية أو الإيمائية أو الإشارية أو الدلالية؟ وكيف ينعكس هذا القلق الخلقي على المؤدين للتجربة إلى درجة أنهم يتحولون فيها إلى مركبات (بازيلية) من شأنها المساهمة في خلق أسئلة جديدة تتفكك وتتشظى وتقترح رؤى مغايرة أو معضدة لمسارات المحفز الأول وأعني به المخرج شرشال؟ وهي أسئلة لم يغفلها شرشال نفسه في كيفية صناعة المشهد المخبري للعرض، خاصة وأن التجربة لدى شرشال لم تقف عند العرض بوصفه نسقًا متكاملاً، بقدر وقوفها على العرض بوصفه ورشة اختبارية مستمرة تحفز وتستفز أسئلة جديدة في كل لحظات تحولاتها وانعطافاتها، وهنا تكمن أهمية وقيمة الارتجال اللحظي الخلاق في التجربة وليس الارتجال الذي ربما يحسن في تجويد عنصر ما لدى الممثلين دون وقوف على الدور الذي تضطلع به عضلة المخيلة وخلايا الرؤية في خلق مسارات جديدة في التجربة. وتظل أسئلة شرشال القلقة تأخذنا نحو تخوم أبعد في إشكالياتها الفلسفية والفنية، إذ أيهما أهم؟ لغة المجسِّد أم المجسَّد عنه أو من خلالهما، وأعني بها الدمية أو الحالة الكارتونية أو الغروتسكية؟ أم كل هذا النسيج اللغوي يندغم في لغة واحدة وهي اللا لغة في تماهياتها اللا ضمنية أو في مؤداها العام ضمن الرؤية الاخراجية التي يروم المخرج تجسيدها من خلالها؟.
إن شرشال يدشن أسئلة معضدة برؤى لا يفهمها إلا من يستوعب رؤيته أو يحاول استيعابها، لذا لا غرابة في أن يواجه شرشال الكثير من المصاعب في رحلته المسرحية المغايرة من قبل لجان قراءة النصوص أو مراقبتها في الجزائر إلى حد الرفض، كون تجاربه لا تتكئ على النصوص أو السيناريوهات الجاهزة التي تكمن قابلية تنفيذها ومشاهدتها قبل خروجها من دار الرقابة، وليثبت شرشال من خلال استحواذ تجاربه المسرحية على اهتمام المسرحيين والمبدعين وجمهور المسرح ومن خلال فوزها بجوائز رفيعة وعالية المستوى عربيا أن لجان الرقابة للنصوص واحدة من الإرث القديم البالي والمتهرئ والذي يرفض الجديد في الإبداع ولا يعد وجوده أكثر من بوليس معاد للجمال والثقافة الخلاقة، ولعل النخبة من المبدعين المسرحيين العرب عانت الكثير الكثير من عنت الرقابة وأشباهها وعطلت الكثير من الإبداع وأعاقت نمو أي زهرة فيه أو ورقة.
إن شرشال يكتب نصه في فضاء العرض أو فضاء الركح، وبالتالي هو نص متحرك متحول وصادم في كثير من الأحيان، ويحتاج الكثير من الوقت كي يتشكل وينمو ربما تتجاوز الشهور الأربعة، وهي أقل مدة ممكن أن ينجز فيها عرض هو في حد ذاته مشروع مختبري لا حدود لامتداده ومده، وهو نص ليس مقرون أمره بمناسبة معينة يعرض فيها ومن ثم ينتهي أمره ككثير من عروض المهرجانات التي تقدم خارج إطار البحث والاختبار والرؤية، عروض مشغوفة بالجوائز وملء فراغ وجودها ليس إلا، هو نص يؤسس لوهج تجريبي في كل تجربة، وعندما أتحدث عن النص لدى شرشال فإني أعني به أفق العرض المفتوح على كتابة جديدة في المسرح وفي التجريب فيه، والتجريب لدى شرشال في مسرحه فضاء للحرية واختبار لرؤى قابلة للتحول باستمرار، وهو بحث في العمق نحو الأعلى والأكثر شاهقية في تطلعاته الرؤيوية.
ويظل السؤال قائمًا: إلى أي حد يمكننا خلق لغة جديدة في الفعل اللالفظي غير ملزمة بمعطاها المتاح في العرض، بحيث تصبح بصمة خاصة يختص بها مختبر شرشال المسرحي دون غيره وذلك خشية أن يصبح هذا الفعل سلبا إذا تم استئثاره وفق هذا المتاح؟
أزعم أن شرشال باشتغالاته المفكرة الباحثة الدؤوبة في هكذا اتجاه، قادر على تفكيك أسئلة التوجه نحو هذا الفعل وقيادته نحو الأكثر جدة وجمالية وإبداعًا، وخاصة وأنه القادر على الإمساك باللحظة الهاربة في تجاربه المخبرية في المسرح.
إني أعشق مثل هؤلاء المسرحيين المبدعين الذين يجعلوننا ويدفعوننا للتفكير فيهم حتى في شرودنا عبر لحظاتهم (الدولوزية) الخلقية الهاربة، فهم الذين يجعلوننا نتشبث بالأمل بأن مسرحنا ستكون يومًا فيه اتجاهات وتيارات مسرحية مؤثرة في خريطتنا الكونية، فمثلما بهرني ولا يزال يبهرني ويستوقفني المخرج الكوني المبدع توفيق الجبالي ساحر وفيلسوف الصورة في كوننا المسرحي في مسرحياته (المجنونة)، يبهرني ويستوقفني اليوم المخرج الكوني المبدع محمد شرشال في توجهاته المخبرية الجديدة المغايرة الذاهبة نحو خلق مسرحي إبداعي استثنائي جدير بالقراءة والتأمل.. لذا أنا قرين الأمل لإبداع سيكون له أثر كبير على كثير من مسرحيينا العرب في الأيام القريبة المقبلة.