البهلوان خليل عقاب.. أول مسرح للجسد/ بقلم : يوسف الحمدان

  • خليل عقاب والذي يُعد حسب ما تناهى إلي، أقوى رجل في العالم آنذاك

 

لم يكف طفلي عن مشاكستي بعد، فمن بعد الدمى الآدمية الملطخة بالدماء والأشلاء القماشية والقطنية المتناثرة حولها في ساحة العزاء بقرية السنابس، ومن بعد الخطيب الحكواتي المشخصاتي الذي يصور بمختلف طبقاته الصوتية ومسعفاتها الإيمائية الفاجعة الحسينية، يصحبني الوالد معه مساء في العام 63 من القرن الماضي، حيث عمري لم يتجاوز بعد السابعة، إلى نادي الرفاع الشرقي الواقع شمالاً من المدينة والذي لم تبنَ بجانبه آنذاك أية بيوت أو مرافق عدا بيت العم النجار علي بن خليل وورشته الصغيرة التي يعتمد أهل الرفاع كلهم تقريبا عليها في إعداد أثاثهم المنزلي ومخازنهم ومطابخهم وتصليحات ما يمكن إصلاحه من مرفقات خشبية في بيوتهم، في هذا النادي يختبر والدي أيضًا قلبي الصغير الرقيق الذي سرعان ما يرتجف ويرتعف وتعلو دقات نبضاته بمجرد رؤيته لشيء تبدو القسوة ساطية عليه أو منبثقة منه، أو لشيء يحرك الرغبة فيه للتعرف عليه أو اكتشافه، أو لشيء يبهجه ولم يكن يتوقع حدوثه يومًا أمام مرأى من عينيه.

إنه اختبار آخر وجديد بالنسبة لي ولم أتوقع حدوثه أمامي يوما وأنا في مثل هذا السن، فحين أجلسني بجواره في قاعة النادي التي تكتظ بالحضور قبل بدء العرض الجديد الذي سأتعرف عليه هذا المساء، تلفت حولي علني أجد من الأطفال من سيشاطرني هذه الفرجة، فلم أجد بينهم أي طفل سواي، كلهم كبار، رجال وشباب، وحين ارتفعت دقات نبضات القلب استغرابًا من حالتي الاستثنائية، تساءلت بيني وبين نفسي: لماذا أنا الطفل الوحيد في هذه القاعة؟ ليرتفع هذا الهمس قليلاً ليصل صداه إلى أذن والدي اليمنى الذي كان مشغولاً بأذنه اليسرى في الحديث مع أحد أصحابه العمال في القاعة، ليلتفت إلي بعدها وهو يبتسم ليسألني: ألا تود أن تكون رجلاً كأبيك؟ فهززت رأسي إيجابًا، ثم أكمل: لا تخف، فالذي ستراه الآن لا دم فيه ولا جثث.

طبعا لم أستغرب من والدي مثل هذه الردود الواثقة، خاصة وأنه المولع حد الهوس بالمصارعة، وحين يكون في البيت لا يمكن لأي أحد منا أن يشاهد فيلمًا أو برنامجًا آخر غير المصارعة، أو حتى يطلب منه ولو بخجل أقل من الهمس تغيير القناة أو البرنامج، خاصة وأنه يتمتع بقامة طويلة ضخمة مهيبة تتخيله وكما لو أنه أحد أبطال المصارعة الكبار الذين يشاهدهم في التلفزيون، وهي صفة تتناقض مع توجهاته العامة في عشقه للزعيم جمال عبدالناصر الذي احتلت صوره كل غرف المنزل، ولا أبالغ إذا قلت أنها احتلت حتى جدار حوش البيت، كما أنه لا غرابة في أن يحتضن إحدى هذه الصور ويسلمني إياها داعيًا إياي وأنا ابن التاسعة ربيعًا، للمضي في مسيرة المتضامنين مع عبدالناصر في شوارع الرفاع.

دقائق ويبدأ العرض على خشبة النادي الإسمنتية، وياللمفاجأة، حين صعد المسرح رجل تبدو الخشبة لضخامة جسمه وهيبة مظهره صغيرة عليه، بل ربما تبدو وكما لو أنها قطعة من القطع الإكسسوارية التي سيستخدمها في عرضه، صفق الجمهور وأنا عيني لم تعد تستوعب بعد حجم هذه القامة المهيبة، إنه البهلوان والرباع الإيراني الأشهر خليل عقاب والذي يعد حسب ما تناهى إلي، إنه أقوى رجل في العالم آنذاك، إنه يقترب في رأيي من الشخصيات الأسطورية الفريدة في تاريخنا المادي والمتخيل.

كنت أراه هكذا، هل لأنني آنذاك صغيرًا وضئيل الحجم، أم إنه فعلاً كذلك؟

في هذه اللحظات، أشعر بوالدي وهو يراقبني بنصف عينه اليمنى دون أن يكلمني، كان البطل البهلوان خليل عقاب يغطي جزءا من جسده بجلد النمر، ويبدو فعلاً بهذا الغطاء وهذا الرأس الكثيف الشعر الكبير المستدير، أشبه بالأسد منه إلى النمر، وكان مظهره بشكل عام مبهرًا ولافتًا ومدهشًا ومذهلاً ويدفعك إلى تسليط كل حواسك وأحاسيسك نحوه دون أن تغمض أو تغفل عنه عيناك لحظة، وكنت أشعر هذه اللحظة أن كل الشباب والرجال وخاصة حملة الأثقال والرباعين وأبطال كمال الأجسام يتمنون أن يكونوا بمثل قامته ومظهره وهيبته، حتى أنا الصغير الضئيل الحجم كنت أتمنى لو كانت بحوزتي اللحظة هذه وجبة (باباي) السحرية الخرافية، فألتهمها دفعة واحدة لأكون في غمضة عين خليل عقاب آخر.

ولم أستغرب حين بدأ عقاب بأمر منه أن يبدأ أحد المعاونين له بتكسير وتحطيم صخرة ضخمة فوق صدره وتارة فوق رأسه بالمطارق والفؤوس، أو يقوم هو نفسه بإرخاء ظهره العريض على مسامير ضخمة وطويلة أشبه بالخوازيق مثبتة على صفحة لوح بحجم ظهره العاري دون أن يصاب بأي جرح أو خدش، ولم أستغرب أيضًا حين يبادر بثني قضيب حديدي سميك حول ذراعيه العاريتين القويتين، ولم أستغرب حين رفع بقدميه من الأثقال ما لم يمكن لأي أحد تخيل وزنه، ولم أستغرب تمامًا من أن يحرك والدي هذه اللحظة لشدة انسجامه مع ما يراه وغفلته عني، أن يحرك عضلتي صدره ويرقصهما كما يفعل أحيانًا أمامنا في البيت مداعبًا.

كل هذا لم أستغربه وأنا أشاهد هذا البهلوان الأسطورة وهو يذهلنا بقوته العضلية والجسمانية الفريدة والنادرة، ولكن ما استغربته وما أذهلني فيه، أن هذا الجسد لم تسل منه ولا قطرة دم بالرغم من ثقل وحدة رؤوس وأنصال المسامير وعنف المطارق والفؤوس التي تعرضت لها كل تفاصيل جسده بجلده ولحمه وعظامه، والأغرب أنه لم تصدر منه حتى أنة أو آهة واحدة جراء هذا العنف الذي تعامل معه وكما لو أنه ملازمًا حميمًا لجسده.

وما استغربته وأذهلني حقًا في هذا العرض، هذه الطاقة الخرافية الهائلة التي لم تبدِ طوال العرض العنيف والصعب أية حالة أو شعور بالتعب أو الإرهاق وكما لو أن هذا الجسد في أصله خرسانة ثقيلة أو حديدًا أو فولاذًا سميكًا وقويًا لا يؤثر فيه كل عنف المطارق والفؤوس والأنصال والمسامير، في الوقت الذي كنت أشعر ببعض الأنات والآهات تصدر من بعض الحضور مع كل حالة عنف، تقززًا وخوفًا من حدوث ما لا يحمد عقباه لهذا البهلوان الأسطورة.

وظللت أتساءل في أثناء العرض وبعده: هل هذا النوع من العروض ينتمي للعروض البشرية أم أنه أمر آخر تمامًا؟ من أين جاء هذا البهلوان بهذه الطاقة السحرية الخرافية؟

ينتهي العرض وينتهي التصفيق الحار، ليجيبني والدي على هذا السؤال المحير: إن هذه القوة التي يتمتع بها خليل عقاب سرها في (الطلماس) وهو الحزام الأسود المطرز ببعض النجوم الفضية الصغيرة والذي يغطي به نصف ذراعه اليمنى.

سألته: وماذا تعني بالطلماس؟

أجاب الوالد بثقة: اللغز الذي يصعب الحصول عليه.

سألته: وكيف يمكن الحصول عليه؟

أجاب وهو يبتسم: عندما تعيش مع الأسود والنمور في الغابات.

كانت إجابته مستحيلة على طفل مثلي يتمنى في لحظة أن يخطف وجبة (باباي) من يديه، ومن أين؟ من التلفزيون طبعًا ليكون قويًا وقادرًا على مواجهة الأسود والنمور في الغابات كي يسرق منهم لغز البهلوان خليل عقاب ليصبح مثله ويقدم للجمهور عروضًا لا تتقطر بالدماء.

ولعلني أزعم إنني في هذا العرض قد أتيحت لي فرصة أن أشاهد أول عرض يعتمد على الجسد في كل مفرداته وتفاصيله وطاقته الهائلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت