“جرب حظك مع سمك القرش” .. عرض لن تنساه الذاكرة منذ العام 1994 .. / بقلم : يوسف الحمدان
إلى روح الفنان الصديق محمد بسطاوي ..
وَجِلون حد الهلع من لعنة قادمة .. هلعون حد السحق من مسخ ما يتناسخهم .. انتظار قلق .. قلقٌ حد الفجيعة ، قطار يأتي ، قطار يمضي ، قطارات تتقاطع وهم المنقطعون في المحطة ، موطن الهجرة ، منفى المهجورين حد الثمالة ، ثملون حد النسيان ، يتطوحون وبوصلة الطريق تضل درب الرؤية ..
أسعفتهم الذاكرة على حين شهقة بأن لهم أسماء يتعارفون بها .. لغو .. لجلجة والصوت تائه في حشرجة اليأس ..
تذكر أحدهم مرة بأنه قادر على تحقيق القتل ، قتل غيره ، قتل نفسه ، وما فتيء يجرؤ حتى انكفأ على عجزه ..
ضجرون من أجسادهم حد الخلع .. حد السلخ .. اغتربت عظامهم وتوزعت أشلاؤهم حد التلاشي وما عادت الحياة في الرميم .. بقت الحكايات خلايا ذاكرة في غرفة لا تنعش ولا تنتعش .. تباهى أحدهم ذات وهْم مكابر بأنه رجل يتملك الفحولة ، مستلبون وأصدقهم يستعدي في الداخل أصدق صحبه .. أناس بلا إرادة .. إرادة من غشّ وهشيم ..
ذات رجولة اعتلى أحدهم منبر مقعده وهو يترنح وأدلى بخطابة لم تعصمه من العصيان ولكنه تحقق بالقتل ..
متحققون في مطالب وهمية .. منصرفون إلى نوبة أبدية ..
ذات مسئولية زجر أحدهم اثنين فاكتشف أنه ثالثهم .. منجذبون إلى صوت أخرس .. منشدون ومنجذبون إلى أمل بائس ويائس ..
ذات عنوة ظنوا أنهم أحياء فوجدوا أجسادهم على هيئة دمية .. ذكروا ذات لغو غابت عنه فصاحة الجهر بأنهم نتاج يرجم ولا يرحم .. بأنهم معزولون لأنهم قادرون على عزل سلطتهم .. بأن ذاكرتهم قادرة على فضح من يحاول استئصالها .. بأنهم يحلمون في المنام وفي الصحو وفي الغفو .. بأنهم يطمحون والطموح موءود في مجتمع القناعة ..
ذات حكاية متأرجحة اقترح أحدهم على صاحبه بأن يجرب حظه مع سمك القرش ، فبدت الفكرة لديه واضحة ومغرية فعلا ..
أي عبث صارخ جسدته فرقة مسرح المدينة المغربية آنذاك في ملتقى المسرح العربي بالقاهرة عام 1995 على خشبة مسرح محمد فريد ، تلك الخشبة القديمة المناسبة تماما لعرض كعرض ( جرب حظك مع سمك القرش ) ..
إنه عرض يأتي به مؤلفه الروائي المسرحي المبدع الشاب يوسف فاضل ومخرجه المجنون الجميل عبد العاطي المباركي وخالق السينوغرافيا عبدالمجيد الهواس والمؤدون المقتدرون على تجسيد واقع ينضح بالألم حد الفجيعة .. محمد بسطاوي الذي صدمني فقده عندما فاجأتني الزميلة بشرى عمور بمهرجان الهيئة العربية للمسرح الذي أقيم بالعاصمة المغربية الرباط بأنه قد رحل ولن تراه معك في هذا المهرجان ، وفاطمة عاطف وسليمة بنمومن ومحمد خيي ومحمد بن بار وعلي عبدالرحيم .. إنهم يأتون بهذا العرض لا ليستضيفوا التراث الاحتفالي المفترض ، ولكن ليتجسدوا في تراث العزل والنفي والاغتراب الفكري والنفسي .. إنهم يتجسدون في لغة تعبيرية يظن المتابع لها بأنها لغة اعتيادية مألوفة ، ولكن ما إن تمعن التركيز على ثيمة العرض حتى تجد نفسك إزاء أداء تعبيري مغاير لما توقعت أنك قد ألفته ، إزاء لغة واقعية تبدو غير واقعية إطلاقا ، إنهم يجسدون العرض وكما لو أن كل شخصية تؤدي عرضها لوحدها ، إنهم ينصرفون أحيانا إلى لغة مونودرامية تبدو كمونولوج طويل في الوقت الذي تجد أنك مطالب بمحاورتها لا باعتبارها شخصية تبدو أحيانا خلاف ذلك إطلاقا ، صراخ أحيانا يبدو كالهمس بالرغم من زئيره ، وهمس يبدو كالصراخ بالرغم من انطفائه تماما ، شخصية موجودة على الخشبة في المحطة تدعوك دون أن تعي لعدم الإحساس بوجودها ، وشخصية تقصد المحطة فجأة وتمضي وتشعر بوجودها طوال فترة العرض ، شخصيات تتجرع الخمر وكما لو أنها تصحو به ، مكان يقال أنه محطة قطار وأنت تراه أو بوسعك أن تراه حانة مهجورة ، أو رصيف شارع معدم ، شخصيات غاضبة مستفزة كما تبدو ولكن ما إن تقترب منها أكثر تجد أن هذا الغضب يستوي في الرقة والتخاطب العادي والبكاء والحيرة وأحيانا لا يستوي في أي شيء من كل ذلك ، إذ لا وجود لأي انفعال ..
شخصية تحلم بالسفر .. هكذا تبدو المرأة التي قصدت المحطة ، ولكن ما إن تشاخصك حتى تجد أنها تحلم بالهروب أو ربما تبحث عن من يقاسمها لا جدوى الاستقرار في مكان ..
شخص يمارس القتل وهو يخاف من يديه ولكنه يبدو محترفا في القتل في هيئته العامة وفي سلوكه الظاهري ..
أجساد ترتجف من الخوف أو ترتعد وفي لحظة لا يوجد أحد ما يدعوها للخوف أو ربما ترتجف لأنها تريد ذلك ، وأحيانا تشعر لو لم تفصح بأنها ترتجف من برد قارص .. شخصية تبدو في في لحظة ما بأنها تتحدث بلغة متسلسلة منسابة واضحة ولكن ما إن تقترب منها أكثر حتى تجدها عبر إيماءة عابثة بأن ما يتسلسل منها وينساب من لغة هو العبث كله وعدم الاتزان ذاته .. شخصية إثر انفعال حاد تسقط ويعلن الجميع موتها ولكنها وبعد غفلة من الحوار المتقاطع تصحو وتمارس دورها معهم وكما لو أنها غيبوبة لا بد منها ..
هكذا يبدأ العرض وينتهي وأنت في مواجهة تجربة لا تعرف حينها من أين تبدأ في قراءتها إلا إذا جربت حظك مع سمك القرش ..
هامش : كتبت هذه القراءة في 29 يناير 1995 ..