المسرح ورؤى التخلق .. / بقلم : يوسف الحمدان
يقول لرسوي : ” إنه ما من شيء أشد اضطرابا للنفس من أن نعتقد في صحة ما نريده نحن أن يكون صحيحا ” ..
هنا تنغلق الدوائر ويضيق الأفق وتتحجم مخيلة المسرح ويتنمط الأداء ويتشوه ، وتغيب الرؤى ولا يبقى غير أن نجتر آلية تقودنا إلى طمر المسرح تماما وكما لو أنه لم يكن ولم يوجد على الإطلاق ..
إذن لا بد من البحث عن قراءات ورؤى واجتهادات تعضد أهمية المسرح وضرورته باعتباره فنا إبداعيا يدفعنا ويحفزنا على الدوام على استكشافه دون توقف أو حدود ..
إنها المحاولات الدائبة في اكتشاف المغاير والمتجدد والمتشظي في المسرح ، فدأبنا لا يكمن في تغيير المتلقي وتغيير مسارات تلقيه في الأفضية المسرحية المتاحة بمختلف أنواعها وأشكالها ، ولكنها المحاولة المستمرة في استخراج رؤى وأشياء جديدة من الممكن أن يتحاور معها المتلقي ويشاكسها ويشكل رؤى جديدة من خلالها وعبرها من شأنها أن تنتج تجربة مسرحية جديدة لم تخطر على بال المسرحي والمتلقي أبدا ، وكما لو أنها تنتج في اللحظة والتو .
إن العمل المسرحي ما لم يأتي بجديد مغاير يربك محاولاتنا التنظيرية في تعريفه ، فهو لا يعد من قبيل المسرح الباحث والمشاكس ، ولعلنا نقبل بهذا الجديد سواء أحببناه أو مقتناه ، ذلك أنه يظل راسخا فينا وكما لو أنه خلية أساسية من خلايا تكويننا البيولوجي والإنساني والدلالي .
إن المسرحية ـ حسب بيتر بروك ـ ” هي سلاسل من الانطباعات ، لمسات صغيرة ، واحدة بعد الأخرى ، شذرات من المعلومات أو المشاعر ، في تتابع يستثير إدراك المتلقي ” .
من هنا يظل العرض المغاير الجزيئيي الإنطباع عصي على التعريف ، إذ أنه لا يمكن أن يدرك بسهولة من مختلف حلقات عناصره المسرحية ، ذلك أنه مكتنز بدلالات مراوغة للمنتج النصي ، كما هو الدال الزمني لدى آن بروسفيلد ، غير مباشر ومبهم ، ولأن عناصر مصيرية مثل الإيقاع والسكتات والنطق على مستوى العرض يصعب إدراكها .
إن هذا الدال الصعب الإدراك يقترح أسئلة أكثر شائكية : ما هو الزمان في مجال المسرح ؟ هل هو الزمن الكوني للساعة ؟ هل هو المدة التاريخية ذات الاتجاه الواحدي ؟ هل هو إيقاع المجتمعات الإنسانية وعودة نفس الطقوس ونفس الاحتفاليات ؟ .
مثل هذه الأسئلة والأمور تقودنا إلى مسائل تتعلق بالنسبية الثقافية ، وهي تلعب دورا في تحديد التجريب ، فما قد يبدو تقليديا في بلد يصلح أن يكون تجريبيا في بلد آخر ، ولا وجود لقاعدة تحكم خيال المبدع في عصر ما بعد الحداثة حسب الناقد البريطاني جون إلسم .
لذلك لا يمكننا أن نقول : أن هناك عملا طليعيا ، وعلينا أن ننظر لكل عمل على اعتبار أن له طليعيته الخاصة به ، فنحن في هذا الصدد لا نقدم نظرية محددة لها بناؤها الفني والموضوعي ، بقدر ما نقدم أفكارا ووسائل تسعى للوصول إلى معنى ما ، فكرة ما .
ويعزز ذهابنا إلى هذا المنحنى الإشكالي مجمل ما قدمه المخرج الألماني بيتر تسادك من عروض مسرحية إشكالية ، حيث أنها عروض تتصف بالفوضوية ، خاصة وأنه لا يؤمن بالعظمة أو النظام أو العدالة ، ذلك أنه لا يبحث في النص المسرحي عن الكلمات ليخرجها ، بل يبحث عن نقائضها ، إنه ينسف كل توقعاتنا لأنه يبحث عن اللامتوقع في كل تجربة مسرحية يتصدى لها ، وهو الأمر الذي أوقع الكثير من النقاد والباحثين في حيرة من أمر قراءة هذه التجارب ، ومن بينهم الناقد والمفكر المسرحي الألماني بيرند زوخر .
هل يمكن أن نطلق على المسرح أنه وجود معملي ، معمل للخيال والتخيل وهو ما يفرقه عن معمل العلوم الاجتماعية ، ذلك أن معمل الخيال والتخيل تتم فيه حالة الإبداع وتتم إعادة صياغة المجتمع في بنية درامية أو غير درامية تقدم لنا الجديد والمغاير واللا مألوف ؟
إن هذا المعمل التخيلي أكده الكاتب الإسباني ألفونسو ساستري في أكثر نصوصه المسرحية ومن بينها ( الكمامة ) التي أخرجها الفنان البحريني المبدع الباحث عبدالله السعداوي ، والذي من خلالها شكل جسدا تخيليا أسهم في تشظية هذا المعمل التخيلي للنص ، والتي استحق عليها جائزة أفضل مخرج في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي عام 1994 .
يطرح أندريه فوزان سؤالا جوهريا عن تجربته المسرحية في المغرب : ” كيف يمكن أن تستدر الأمطار وهي نادرة ، كيف يمكن أن نولد الإبداع ؟ .
سؤال ربما يلح على كل متصد لتجربة مسرحية ، سؤال يدفعنا دائما للتجدد والبحث والاكتشاف ، سؤال يمعن دائما في ردم ما نعتقد أنه صحيح ..