المرأة والفضاء السينمائي/ د. نزهة حيكون
شكل المعطى البيولوجي الصانع الأساس لأنماط الفكر البشري بدءا من الأسطورة فالفلسفة فالدور الاجتماعي، وصولا إلى تطور الدراسات من فسيولوجيا الجسد إلى فسيولوجيا العقل مع الاكتشافات التقنية المهولة التي يعرفها العالم. وإذا كان الأدب قد عرف ربط الاجتماعي بالنصي، ففي الفنون تم ربط الاجتماعي بالمشهدي أو بالمعروض للرؤية المباشرة في قاعات العرض (مسرح سينما رواق ساحة وأخيرا منصة رقمية..). بداية لا يمكن إلا أن أعبر عن فرحي الذاتي والموضوعي بصدد الموضوع المقترح لأن بعده الجندري واضح، ولأن المؤشرات الدالة والقابلة للدراسة لها من الآنية ما يجعلنا نستكين للنتائج المرجوة منها. فمع كل فعاليات مهرجان سينمائي إلا ونرى عددًا كبيرًا من الأفلام التي أخرجتها مخرجات نساء، أو ساهمت في تصويرها أو توليفها نساء، كما أن أعداد الجمهور من الفتيات والنساء في أعمار مختلفة تلج القاعات بكل سلاسة ودون تشنج مجتمعي معتاد. وبالنسبة للمنجز الفيلمي فهو متنوع بين أفلام الوثائقي والروائي، من هذا المنطلق نستطيع الوقوف على ما تقدمه المرأة في السينما العربية ونستطيع أيضا أن نستعرض تاريخ هذه السينما بصورة واضحة وسريعة.
لماذا يطرح ولوج المرأة السينما كفضاء عام بعضا من العوائق، أو لماذا يطرح تساؤلات حوله، يختلف تواجد النساء في الفضاء العام بحسب بيئتهنَّ وتقاليد أسرهنَّ والدائرة الضيّقة التي ينتمين لها، رغم تمرد بعضهن على أسرهن ليستطعن ولوج هذا الفضاء وإثبات حضورهنَّ؛ فيما تخضع أخريات للتركيبة المجتمعيّة التي ينتمين إليها، وكثيرا ما منعن من حقوقهن فقط لأن الأمر كان يتطلب خروجهن بمفردهنَّ لوقت طويل، دعونا نُقر أنه وحتى في مجتمعات تنعم بأعداد أكبر من المواطنين التنويرين والتقدميين ظلت النسوة تتميّزن ب ” الانكماش” على أنفسهنَّ يتعاملن مع حضورهنَّ الجسدي بخوف وقلق، وكأنهنَّ يحاولن طوال الوقت إخفاء الطابع الأنثوي الذي قد يستفز الآخر ويدفعه للعنف والتحرش والإساءة.
الحديث عن المرأة في الفضاء السينمائي هو عمل يتطلب جهدا استقصائيا حقيقيا لأنه يتمحور حول أنماط الحياة التي تتبناها النساء في مجتمعاتنا العربية عامة، والمغربية على وجه الخصوص، إنه عمل يتطلب فهما أكبر للنوع الاجتماعي في بلدان تعرف تحولات اجتماعية متباينة قد يكون بعضها يلتزم بالفصل بين الجنسين. ولوج المرأة للفضاء السينمائي هو بحث غير مفصول عن ولوجها فضاءات عدة مثل: المدارس والجامعات ومراكز العمل والفضاءات الدينية والمركبات التجارية والاستهلاكية. جِدة الموضوع وتنوع حقول مقاربته قد يوقع الدارس في مزالق التعتيم لأنه قائم على مسلمات متعلقة بالجانب السلوكي في تقاطع مع معطيات مجتمعية كثيرة منها ما هو سياسي حكومي، ومع التوجهات الكبرى للدول، بالعودة للمزالق فطبيعة الموضوع قد تؤدي أيضا إلى الوصول إلى حدود التعبئة التحررية أو حتى النضال النسوي، دون أن ننسى أننا قد نقف على انتهاكات مُهينة للأنثى كجسد وفكر، وحديثنا أيضا لن ينفصل عن مجالات الحريات والسياسات العامة والخصوصيات الجندرية، ما يوقع الدراسة في تبني الثنائية الملتصقة بالدراسات النسوية القائمة على مصطلحي القمع والمقاومة.
يكمن جوهر الموضوع اذن في تناول مسألة النوع الاجتماعي وعلاقتها بولوج فضاءات عامة من بينها السينما، وأيضا في علاقة النوع بالفن، وبالإبداع، وبالحق في الولوج إلى الإبداع كخدمة من الخدمات التي يقدمها المجتمع، إن مسألة النوع في البلدان العربية غالبا ما يُنظر إليها من زاوية علاقتها بالتقاليد، وبالدين خاصة، فتُهمّش التيارات النسوية في مقابل تكريس قيم الذكورة وإن كان من الواجب التنبيه إلى تزايد هيمنة الحداثة المدنية التي تزج بنا في سياق عالمي يزيد من هامش تمركز النساء، ما يدفعنا إلى التأكيد في عالمنا العربي على ذكورية التابوهات في بعدها السوسيوثقافي، فالفضاء العام ليس متاحا للنساء ووجودهنَّ فيه مرتبط بوظيفة محدّدة هدفها الوصول إلى مكان أو العودة منه.للأسف لا يمكن أن نعتبر الفضاءات العامة كلها فضاءات مسالمة ومحايدة للجنسين، فالتمييز على أساس النوع الاجتماعي يطال الفضاءات العامة أيضا، ونضال النساء سواء في إطار النسويات المختلفة، أو حتى في معزل عنها يحتاج عملا دؤوبا وملحّاً فالاضطهاد حاضر بمستويات متفاوتة في التعامل مع الأنثى كنوع اجتماعي عليه أحيانا أن يرضى بالانكفاء والقبول بالقيود عن طواعية.
لكن وارتباطا بموضوع الفضاء السينمائي دعونا نربط الأمر دون تجن منا أو تحوير بالمرأة كجسد يلج الفضاء السينمائي، فإذا كان للسينما دورا مهما باعتبارها قناة ثقافية ذائعة الصيت، فقد أرست في هذا الشأن بداهة مفادها أن الجسد حقيقة ذاتية محددة تحمل الهوية وتحمل ميزة صاحبها، بعد عملية تأطير وإخراج، وبناء وإعادة بناء مركزة في أفق توجيهها للنظر. خارج ذلك لا يعدو أن يكون الجسد عائماً في دوامة مجهول محمل بكل الأيديولوجيات والاستيهامات التي تتخفى في الغالب اﻷعم خلف الكثير من المواضعات المقبولة. أي خارج الصورة، في الحياة العامة، حيث لا يعدو أن يكون جزءاً من الجسد المجهول، في حركته وجموده، في إعلانه عن ذاته في شكل صارخ أو في انحساره وعاديته. للأسف لا يمكن أن نعتبر الفضاءات العامة كلها فضاءات مسالمة ومحايدة للجنسين، وللجسدين، فالتمييز على أساس النوع الاجتماعي يطال الفضاءات العامة أيضا، ونضال النساء سواء في إطار النسويات المختلفة، أو حتى في معزل عنها يحتاج عملا دؤوبا وملحّاً فالاضطهاد حاضر بمستويات متفاوتة في التعامل مع الأنثى كنوع اجتماعي عليه أحيانا أن يرضى بالانكفاء والقبول بالقيود عن طواعية.
لن نبالغ إذا قلنا ان بعض الأماكن في بلداننا العربية تُمنع المرأة من الخروج من منزلها على الإطلاق ويقوم الرجل بتولّي جميع المهام خارج المنزل وهو من يصطحبها الى منزل أهلها في فترات زمنية متباعدة، نساء لا يعرفن الحدائق والمقاهي وحتّى السوق، يعشن حياتهنَّ داخل الجدران، يعتبر هذا أشدّ أنواع الاضطهاد والعنف الذي يمكن ممارسته على إنسان، تقييد حرية الحركة والفعل واختصار النشاط الحيوي ضمن أفعال ثابتة ومكرّرة، إنّ نزع الطابع الاجتماعي عن المرأة هو عنف بنيوي قائم على وضع بناء اجتماعي يتحكّم في هويّتها عبر زعزعة ثقتها بإشعارها بالخوف والقلق ضمن الفضاء العام ممّا يؤدّي إلى تفضيلها عدم اقتحامه والنأي بنفسها عن المساحات التي تشكّل خطراً عليها.
دعونا نبحث من جهة أخرى عن أسباب المنع من داخل السينما التي لا يمكنها إلا أن تُظهر الجسد. الجسد المصَور المُشاهد، والجسد الزائر المشاهِد. وبالتالي فقد أصبحت لها الصدارة في توجيه السلوك والرؤى، وخلق النماذج المجتمعية؛ حضور الجسد الأنثوي في السينما العربية ككاتبة،كممثلة، كتقنية عاملة، وكجمهور مشاهد مسألة تجرنا للحديث عن حضور المرأة في الفيلم العربي، ومشاركتها في الإنجاز، وصنع الصورة أو الصور المروَّج لها.
أولا من هي المرأة المُشَاهَدة أو ما هي الصور المقدمة أو الأجساد التي يُسلط عليها الضوء، غالبا وفي تتبع لصورة المرأة في السينما العربية فهي وبنوع من الكرونولوجية:
– النساء في سن النضج، ونساء الطبقة المتوسطة.
– أما أصناف أخرى النساء من الوسط الفني، أو الثقافي، أو حتى التطرق لنماذج شاذة، ومنحرفة، فلم يأتي إلا لاحقا.
مما يعني أن المرأة في سينيمانا مستهلكة، غير قادرة على الانتاج، ولا الإبداع في غير الأمومة، والزواج.
لذلك فهي في الغالب عاطفية، لا تخرج في علاقاتها عن العلاقة بالرجل حبيبا، وزوجا، عاطفية هشة، متهالكة، وغير قادرة على التفكير، وإلا فهي عندما تفكر تصير ماكرة تكيد للإيقاع بالرجل (نموذج الأفلام المرتكزة على التراث المحكي المغربي مثلا)
-وتروج السينما للمرأة المثقفة، متوسطة الجمال أو حتى قبيحة الشكل التي لا تهتم لإبراز جسدها، ولا تحافظ على هويتها لا الجنسية، ولا الدينية، والحضارية.
-والأغلب في تناول المرأة، وجسدها على الخصوص، هو صورة الجسد المغري الفاتن، الذي أمعنت الأفلام التجارية في اظهار مفاتنه، بابتدال بعيد عن حاجة الدراما والحبكة الفيلمية لذلك.
هي بعيدة عن السياسة، والقضايا الكبرى للبلد، إلا في أفلام بعض الدول العربية التي تعرف أحداث الحروب والاحتلال.
لما كانت اذن هذه هي المرأة في الأفلام فكيف بالمرأة الجمهور، أو السيدة التي سترتاد القاعات السينمائية لترى هذه الحمولة في عرض مشهدي يجعلها تعيش نوعا من التقَّبل الاجتماعي، وتخلق نوعا من التوافق بينها وبين الفئات التي لن تكون إلا جزءا منهن. أشير هنا إلى اعتبار الجسد المشاهَد والمشاهِد حاملا وصانعا للإثارة، في علاقته بالمنشأ الطبقي للحامل، ليتم التركيز عليه بصفته جزءا اجتماعيا لا يخرج من الطبقة التي رسمت له. لهذا ركزت بعض الأفلام تركز على التعري كشكل من أشكال أزمة الطبقة، وليس مجرد لغة سينمائية حافلة بالدلالات والرموز. فلا أظن شخصيا أن فيلما سيعرض صورة بهذا التنميط سينظر لامرأة ضمن الجمهور خارج هذه الصورة. جسد المرأة سواء على الشاشة أو في القاعة مع الجمهور هو مكان صالح لعرض أزمات كالفقر والتناقض الطبقي وصراع الأقوياء والضعفاء.على المرأة اذن مواجهة واقعها الاجتماعي وتناقضاته وإظهار مقدرتها على اكتساب مواصفات بقاء معينة تمكنها من الاستمرار في تحدي الواقع والتخلص من أزماته.
نعود لما قلناه عن القمع والمقاومة، لنقول أن القمع قائم على ما أصاب النساء من انكماش، وخوف من الفضاء السينمائي، ومن الفضاءات العامة، ولعل من أهم الأسباب التي تدفع النساء إلى الانكماش:
– تحولهنَّ في المكان العام إلى موضوع مراقبة واستهلاك.
– ضرورة الاهتمام بمظهرهنَّ أضعاف الرجال لأنهنَّ مقبلات على عمليّة تفحّص طويلة وتشريح لملابسهنَّ وأجسادهنَّ وحركتهنَّ وأسلوبهنَّ بالمشي والكلام. (هذا الاهتمام يكون بحجب الجسد أو سفوره المبالغ فيه بحسب الطبقة والمرجعية الفكرية)
– تحوّلهن هن أنفسهن إلى مراقبات لبعضهنَّ البعض ليخلقن عملية اجتماعيّة معقّدة تؤثّر على حقهم في ولوج السينما كفضاء عام.
– إمكانيّة تعرّضها للعنف في أيّة لحظة، ومحاولات التستّر والعودة في وقت محدّد وبسلك طرقات محدّدة، وعدم الأمان في وسائل النقل (نموذج ميكاراما مراكش)
على الجسد الأنثوي في السينما العربية في الشاشة أو أمامها اختراق المكتسبات السلوكية المجتمعية، لأنه مرآة لما يختزنه المجتمع من أعطاب نتيجة تناقضات النظرة إليه، بعيدا عن التناول الجمالي والإيحائي الخالص في موضوعة الجسد عندما ينقله الفن السينمائي من المجهول إلى المعلوم الظاهر والمُعلن. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل استطاعت السينما أن تُعبر عن قضايا الجسد الأنثوي العربي، هل تمكن هو الآخر أن يُنتج خطابه الشخصي بعيدا عن الثقافة الذكورية، وفتوحاتها الخارقة، أم بقي رهين تصور أبوي محض، هل نجح الإبداع السينمائي بجمالياته، وتقنياته المتعددة في نقل الصورة شفافة صادقة، وهل فعلا هو مُطالب بالنقل الصادق أم هو مطالب بالتصوير الفني السريالي المعتم؟ هل وجدنا في سينمانا العربية صورة للجسد الأنثوي وما عاشه، ويعيشه الجسد المراق دمه، والمنكل به والمنتهك في اقسام الشرطة والسجون؟ والمذبوح غيلا وغدرا من أجهزة المخابرات والأمن السرية في أرجاء الوطن العربي، والمقموع من الحركات التطهيرية التي تمارس السلطة الدينية على البشر؟ وأين هذا الجسد المتنعم من أجساد منعها انعدام الحقوق الأساسية مثل: توافر المياه والفقر من النظافة حتى لا نقول من وسائل التزين والتجميل؟ هل كتبت السينما العربية الجسد الأنثوي كتابة ملائمة لاحتياجاته فوضعته في اختبارات وجودية مختلفة، استجابة لهمساته، وصرخاته؟ أم أنها لم تبتعد عن النقل الايروتيكي للرغبات الدفينة في شكلها المتوحش.
لا يمكن إيجاد الحلول إذا لم يتمّ التعامل مع النساء ككيان مستقل لهنَّ حقّ التواجد في الفضاء العام والتنقّل بحريّة، كما أنّ اعتبار الأماكن العامة بالنسبة للنساء وجدت لوظيفة محدّدة هو تقييد لهنَّ وحرمان من وجودهنَّ في أماكن الترفيه والتسلية وممارسة الجوانب الأخرى من الحياة، من حقّ المرأة شعورها بالأمان في الأماكن العامّة دون أن تتقيد بالشروط الأبويّة التي تقيّد حركتها، ولا يمكن اعتبار السلامة المشروطة بارتياد أماكن معيّنة دون أخرى تحظر عليهنَّ حلّاً، فمن الضروري أن تكنَّ قادرات على الوصول لأيّ مكان دون عقبات أو خوف، أن يمتلكن الحقّ في المشي والركض وممارسة أفعالهم الحياتيّة كما الرجال، كلّ هذا يتطلّب تفكيك المفاهيم الموضوعة يما يخص تواجد النساء في الفضاء العام، وإعادة بناء نظام اجتماعي يسمح للنساء بالحضور الكامل ضمن هذا الفضاء مع كامل حريتهنَّ في اختيار ما يلبسونه وما يقمن به من أفعال والأماكن التي يودون ارتيادها، يتطلّب هذا جهداً ومشاركة من الباحثين الاجتماعيّين لدراسة المشكلة وأثرها وإصدار إحصائيّات دقيقة تبيّن حركة النساء، وعدد النساء المحرومات من التواجد في الفضاء بالإضافة لتصميم الأماكن لاحتوائهنّ وضمان عدم تعرضهنّ للخطر، النساء معنيّات بدورهنَّ بالمطالبة بحقوقهنَّ وتجاوز مخاوفهنَّ والقلق الذي قد يرافقهنَّ في ساعاتهنَّ خارج المنزل وعدم الخضوع لهذه المعايير المجحفة بحقهنَّ وتفضيل الالتزام بالمنزل، معظم التغييرات التي تحصل في حياة البشر تتطلّب شجاعة وقدرة على المواجهة وهذا ما يتوجّب على النساء امتلاكه.