لمياء هاشم الخرسان …. صريعة الإبداع / أ.د مجيد حميد الجبوري
مبدعات بصريات (الجزء الثاني)
بعد أن عرّفنا في الجزء الأول من دراستنا الموسومة (مبدعات بصريات) بأول كاتبة مسرحية بصرية في العصر الحديث وهي المبدعة (نهاوند الكندي)؛ نلقي الضوء في هذا الجزء عن أهم مخرجة مسرحية بصرية مميزة في العصر الحديث؛ ودعت الحياة مبكرة؛وهي في قمة أبداعها، وفي عنفوان شبابها؛ تلك هي المخرجة المسرحية: لمياء هاشم الخرسان.
إن الحديث عن الفنانة المرحومة (لمياء هاشم بدن) – وهذا أسمها الثلاثي -بالنسبة لكاتب هذه السطور؛ يعد حديث أبٍ فجع بموت أحد أبنائه… حديث أبٍ تعتمل في قلبة حرارة ألمٍ وحزن تتجدد كلما ذكر أسم أبنه أمامه؛ ففقدان الأب لأبنه أشد وطأة، من فقدان الأبن لأبيه؛ فالأبن بعد أن يفقد والده فد يلهى عنه بأولاده؛ ولكن فقدان الأب لأبنه فأن لهوه بأبنائه يتحول كمدا وحزنا عليه؛ فكلما لهى أو أجتمع أو تحدث مع أي من ابنائه فأنه لا يستطيع أن ينسى أو يتجاوز من فجع به .. أعذرني– سيدي القارئ وسيدتي القارئة – ففي القلب غصة لا يبرؤها الزمن مهما تقادم.
مرة أخرى فإن الحديث عن الفنانة المبدعة (لمياء هاشم الخرسان)– وهذا هو الاسم الذي اشتهرت به كفنانة – بالنسبةلكاتب هذه السطور يأخذ منحى آخر؛ إذ أن تجربة المبدعة (لمياء) لا يمكن اختزالها بتجربة مسرحية (مصرع الإبداع) فحسب؛ التي كانت بحق من أفضل أعمالها وأنضجها؛ ولكن هذه الورقة فيها قراءة لأهم أعمال ونشاطات هذه المبدعة التي تشكلت عبرها؛ شخصيتها الفنية وميزت تجربتها الإبداعية.
(لمياء هاشم) هكذا عُرفت أول مرة؛ عندما جاءت الى بغداد مشاركة في مهرجان لمسرح الشباب أقامته وزارة الشباب في ربيع عام 1991؛ وكنت حينها تدريسيا بجامعة بغداد/كلية الفنون الجميلة؛ واختارتني– إدارة المهرجان – عضوا في لجنة التحكيم التي كان يرأسها – طيب الذكر – الدكتور ميمون الخالدي ؛ وفي هذا المهرجان قدمت الفنانة المرحومة عملا من إخراجها ؛ بعنوان (الهوة) وهو من تأليف مثنى صبري. وكانت فكرة العمل مستوحاةٍ من عمليات النهب والسلب – التي عرفت شعبيا باسم (الفرهود) – والتي حدثت بعد أيام من اجتياح النظام السابق لدولة الكويت ؛ إذ تقوم مجموعة بضمنها أمرأتين باقتحام سايلو للحبوب ؛ وبعد أن يخرج أغلب المقتحمين ؛ تبقى المرأتين– داخل خزان السايلو أطول مدة ممكنة – في مسعى منهما لنهب أكبر كمية من الحبوب ؛ وفجأة تهب ريح قوية تغلق باب خزان السايلو عليهما ؛ فتسجنان في داخل الخزان لأن الباب لا يفتح إلا من الخارج ؛ وبالرغم من كثرة صراخهما طلبا للنجدة ؛ لا يسمع استغاثتهما أحد، فتموتان داخل خزان السايلو ؛ والذي لفت أنتباه لجنة التحكيم آنذاك هو جرأة ووعي المخرجة الشابة التي أقدمت على إخراج مثل هذا العمل ذي الفكرة التي تميزت – حينها – بالغرابة والفرادة والجرأة ؛ بخاصة وان المخرجة كانت – لا تزال – طالبة في معهد الفنون الجميلة ؛ والأمر الأخر الذي لفت أنتباه اللجنة هو تلك البيئة التي صنعتها المخرجة الشابة في فضاء المسرح ؛ إذ كان المنظر الوحيد في العرض هو خزان السايلو الشاهق الارتفاع الذي تجري الأحداث داخله ؛ ولكي تظهر المخرجة ما يجري داخل ذلك الخزان ؛ فقد أنزلت من سقف المسرح الى أرضيته قطعة نايلون شفافة عملاقة ؛ صممت على شكل أسطوانة ؛ تشف عما يجري داخلها من أحداث؛ وعلى وفق المعطيات أعلاه فقد منحت لجنة التحكيم جائزة أفضل إخراج للمخرجة البصرية الشابة (لمياء هاشم بدن).
في أواخر شهر آب من عام 1992 تم افتتاح كلية الفنون الجميلة بجامعة البصرة؛ وتصادف انتقالي الى جامعة البصرة في بداية العام الدراسي الأول للكلية المذكورة؛ وقد تشرفت بأن أكون أول رئيس قسم للفنون المسرحية فيها؛ وعليه فقد ترأست لجنة الطلبة المرشحين للقبول في قسم الفنون المسرحية؛ وكان من بين الفتيات المتقدمات (لمياء هاشم بدن) التي ما أن ذكرت أسمها كاملا؛ حتى تذكرتها وتذكرت اجتهادها الإخراجي الذي شاهدته سابقا في بغداد؛ فقلت لها فوراً: انت مقبولة بلا اختبار؛ منوها عن تميزها في المهرجان المذكور.
وخلال سنوات دراستها الأربع الأولية ؛ التي تتلمذت بها على يدي وعلى أيدي زملائي الأساتذة الأخرين ؛ كنت أراقب هذه الطالبة المتميزة عن كثب ؛ وكنت أتوقع لها مستقبلا باهرا ؛ ولم تخيب تلك الطالبة ظنوني ؛ وتوجت تألقها ؛ عندما قدمت أطروحتها الإخراجية– في السنة الأخيرة من الدراسة الأولية – في بيئة مغايرة ؛ حين قدمت عرضا لمسرحية (لغة الجبل) للكاتب الإنكليزي (هارولد بنتر) في بيئة غير مألوفة ؛ إذ قدمت العرض – بجرأة وإصرار – في ملجأ تحت الأرض ؛ كان موجوداً في الساحة الأمامية لكلية الإدارة والاقتصاد بجامعة البصرة ؛ إذ أنزلتالمخرجة المتلقين – بسلم حجري – شبه مظلم الى قاع الملجأ الذي كان يتوزع فيه الممثلون في الزوايا المظلمة لذلك الملجأ ؛ وكانوا يتحركون حول الجمهور ؛ إذ أنهم حاصروا الجمهور بدلا من أن يحاصرهم الجمهور – وفي هذا إشارة جريئة الى الحصار الذي كان يضرب العراقآنذاك– من كل جانب – وحينها شاهد المتلقون عرضا تميز بالمهارة والإدهاش ؛ تفوق فيه أحد أبطال العرض على نفسه وقدم تمثيلا متميزا؛ ذلك هو الطالب آنذاك والتدريسي الآن الدكتور حازم عبد المجيد.
وفي دراستها للماجستير؛ وفقني الله أن أكون مشرفا على رسالتها العلمية التي كانت تتعلق بجماليات الإخراج في المسرح العراقي المعاصر؛ وفي حينها لن أنسى إهدائها المميز الذي قالت فيه: (أهدي بحثي هذا؛ الى المسرح الذي عشقته؛ والى كل العاملين فيه)؛ وأني لأشهد بكل موضوعية وتجرد أن بحثها ذاك كان من بين أفضل ثلاث رسائل ماجستير نوقشت في كلية الفنون الجميلة لغاية يومنا هذا.
أخيرا فأن عرض مسرحية (مصرع الإبداع) الذي يعد من أنضج أعمال المخرجة المرحومة المبدعة (لمياء هاشم الخرسان)؛ بوصفه أكثرها وعيا وجمالا؛ وأوسعها فضاءً وخيالا؛ ومصدر ذلك الوعي يعود الى أن المخرجة – طيبة الذكر – وبعد نيلها شهادة الماجستير أصبحت تدريسية في الكلية التي كانت طالبة بها؛ وهي كلية الفنون الجميلة/ جامعة البصرة، فجاء عرض (مصرع الإبداع) وكأنه نيران ملتهبة تملأ فضاء المسرح …شمس ساطعة تشرف خلف غيوم بيضاء…. قطرات ماء تتساقط من السماء… مارد جليدي يتعملق أمام أنظار المتلقين؛ فالعرض كان أنشادا كنائسيا رومانسيا يجتاح الأسماع؛وقرعات طبول تنذر بخطر قائم…فبهذه المؤثرات البصرية والسمعية أثثت المخرجة فضاء العرض…وأثناء العرض شاهد المتلقون؛ فراشات تطير في فضاء المسرح … أقمشة هفهافة تغطي سماء المسرح.. أصواتُ تحدٍ بشرية تعكس قوة الشخصيات وصلابتها…العرض كان طقسا جماليا بلا (لطميات) ولا بكائيات أعتاد المتلقون على مشاهدتها في عروض تقدم واقعة الطف .. موكب عزاء بلا مظاهر عزاء كاذبة أو خادعة؛ بل موكب عزاءٍ يسكن الوجدان ويثري القلوب بالحب الحسيني بلا رتوش…بكاء دون دموع… حزن هادئ واعٍ لعظم المصيبة والرزية؛ بلا صراخ أو ندب أو عويل….وتمثل كل ذلك بمجموعة نساءٍ رشيقات كن يعبرن المسرح محلقات في فضاء المسرح ؛ ويعّبرن عن المأساة برشاقة رومانسية تثير الشجون… وتخاطب الوجدان والمشاعر؛ اضف الى ذلك: سيدة تتطاول على المسرح لتملأ فضاءه جسداً وروحاً وصوتاً ومشاعر… تألق متوهج للشخصية الرئيسية في هذا العرض وهي السيدة زينب شقيقة الإمام الحسين (ع) ؛ الذي أدت دورها باقتدار وتفوق الممثلة (علياء عبد الجبار) ؛ وعلى الجهة المضادة (يزيد) بكل عنجهيته وصلفه وغروره وجبروته وهدير صوته وسوطه ؛ فقد برع – الطالب آنذاك والتدريسي بمعهد الفنون الجميلة حاليا ؛ الفنان (ماهر عبد الأمير)بتقديم شخصية (يزيد) بأداءٍ يحُسد عليه .. وكذا الحال بالنسبة للممثلين الشباب الآخرين (زياد طارق؛ نور الدين ضياء؛ علي عبد الله، وحسين محمد)؛ أما مجموعة الفراشات اللواتي شكلن مجموعة السيدات المرافقات للسيدة زينب؛ فكن بحق فراشات رقيقات طرن برشاقة على المسرح (أسل، سارة، أفراح، سجى، سالي، حصة، هاجر، وجدان، هند والزينبيتان كريم وعلي) قدمن أداءً جمالياً مدهشا؛ إذ قمن بأداء أدوارهن بحبٍ وتفانٍ وتعاملن بجدية مع عرض متحرك حيوي؛ لا يهدأ، ولا يفتر للحظة واحدة.
نص المسرحية – في الأصل – كان مجموعة خواطر ومقاطع من قصائد ونصوص نثرية متفرقة اختارتها ونظمتها بسيناريو متقن مخرجة العرض نفسها؛ وفي العرض فإن المخرجة (لمياء هاشم الخرسان) أكدت – مرة أخرى – على المهيمنتين الأساسيتين اللتين– باعتقاد الدارس– تشكلانشخصيتها الإخراجية وهما:اختيار الفكرة وفرادتها؛ والبيئة المغايرة للعرض؛ وتجسدت المهيمنة الثانية تنفيذياً على خشبة المسرح: حين جعلت المخرجة أحداث العرض تجري على مدرجات جلوس المتفرجين؛ في حين جعلت المتفرجين يجلسون على خشبة المسرح.
وبعد؛ فلو قيض لهذه الفنانة المبدعة أن تعيش عمرا آخر، ولو أنها قدمت أعمالا أخراجية أخرى؛ لكان لها شأن كبير في فضاء الإخراج المسرحي العراقي ولربما العربي؛ ولربما أبعد من ذلك…. لكنها ولحكمة الباري عز وجل وأرادته وشأنه تسربت من بين أيدينا وأصابعنا كماء بارد زلال ينعش القلوب ويروي الظمأ؛ فعاجلها الموت وأختطفها من بيننا على حين غرة…وبذلك خسرنا؛ بل – وبدون أي مبالغة أو انحياز – خسر العراق أبداعا تنبأت هي بخسارته قبلنا؛ عندما أخرجت آخر عرض مسرحي لها بعنوان: (مصرع الإبداع) وهذا هو شأن المبدعين الكبار حين يتنبأون بنهاية مشوارهم قبل أن تأتي …….إنا لله وإنا اليه راجعون.
ملاحظة: الفنانة المرحومة (لمياء هاشم الخرسان) كانت قد أكملت كتابة أطروحتها في الدكتوراه باختصاص: الإخراج المسرحي؛ قبل وفاتها بإيام معدودات؛ وقد عاجلتها المنية قبل أن تتمكن من مناقشتها؛ وتكريما لها ولجهودها الإبداعية منحت (شهادة دكتوراه فخرية).