الافتراضية في الواقع حقيقة غير فعلية رؤية في مسرحية (منطقة حرجة) للكاتب علي العبادي / حيدر جبر الاسدي
نحت المفكر الفرنسي (جيل دولوز) مصطلح الافتراضية ضمن الاصطلاحات الفلسفية ليعبر عن طبيعة الحقيقة ومدياتها وثناياها ومقتضياتها، وان كانت غير فعلية من الناحية الانطلوجية، او انها تقترب الى المثالية ولكنها غير مجرده؛ بمعنى انها تؤسس لقراءة واقع متخيل يمكن من خلاله صياغة الرؤية الخالصة، التي تمظهر لنا الحركة التداولية للوجود الجواني دون النظر الى فاعلية المطلق في تثوير هذه الحركة وتحديد مجساتها،من هنا شرع المؤلف علي العبادي _ بتقديري _ الى قراءة الواقع، ولكن هذه المرة بقالب افتراضي فيه المتلازمات الظاهرية والمخفية لعلامات تاصيلية تجذر الحقيقة التي يروم كشفها في المتن العام للنص، فمنذ الوهلة الاولى وهو يقذفك في اتون الافتراض حين يحدد مسارات النص، زوجان في كرفان وهما يعيشان حالة التية، اذ ليس ثمة حياة تعتريهما وهما يصارعان الم الغربة، واعني الغربة عن كل شيء، حيث ينتظران الموت في وقت حدده المؤلف لايتجاوز خمسة عشر دقيقة، وطيلة حركة هذا الزمن ستجد الهذيانات حاضرة وهي تصور حجم الوجع الانساني المتسربل بالظيم والحرمان، لهكذا شخصيات تعاني من القهر المجتمعي والاستلاب الانساني، ولقد مثل المؤلف في ظل هذه الترنيمة المؤلمة ملامح واقعية لحياة يعيشها أولئك الذين يعانون الغربة في كل شيء، حتى وصل بهم الحال انهم غرباء في حبهم وزواجهم وعلاقاتهم الاجتماعية، بل حتى في موتهم وموعد رحيلهم وفي احلامهم التي باتت مقبرة واسعة للخلاص من مهيمنات الواقع الممتلىء بالترهات والفساد والمواجع.
الزوج: ( لم يتبقى من الوقت الا خمسة دقائق )
الزوجة: ( يوميا نقول لم يتبقى من الوقت الا القليل) ،
اسس المؤلف بتقديري ثلاث مهيمنات رئيسية في النص عبر الزمكانية الواضحة والحوار، الاولى تحديد المكان ورمزيته، فالكرفان كما ارى له علامات متعددة فهو ربما يمثل رحلة العمر كونه جزء من القطار الذي يمثل الرحيل، او انه يمثل حالة من اللاستقرار الحياتي وان الشخصيات على سفر ، او انه يمثل التية او يمثل السجن او البيت ..الخ بمجملها تمثل الحياة والوطن الذي بات اهله فيه مسافرون وغرباء، والمهيمن الاخر هو الزمن بوصفه علامة استطاع ان يفرض نفسه على النسق العام للاحداث عبر ربط مصير الشخصيتين بالوقت الذي سيتغرق لبقائهما احياءا ، اما المهيمن الثالث هي اللغة التي اتصفت بالاجتزاء و العبثية حيث جاءت لتغور في عمق الفكرة الرئيسية التي يسعى المؤلف لتحقيقها، ومن الملاحظة الاخرى التي يعج بها النص هي: الاستفهامات المتنوعة والتي تعبر عن ابعاد الشخصيتين ومايحيط بهما من ملابسات تمثل النسق الفلسفي للمتن ،حيث يطرح المؤلف الاستفهامات الاحتجاجية _ ان جاز لنا التعبير _ وهو يقودنا الى ثيم فرعية اراد طرحها لكشف العلامات المتوارية بين الجمل والتراكيب اللغوية للحوارات..
الزوج : وهو مخاطبا زوجته ( البلابل حين تغرد يكون تغريدها خارج السرب، وانت لم تغرد يوما خارج اسوار الروح ،
الزوجة: ( اي بلابل تتحدث عنها واي تغريدة، وهل من هو مثلي يجرؤ على ان يغرد حتى ولو خارج السرب ) ،
والاحالات هنا واضحة لضرب بعض من السلوكيات العامة التي ينتهجها الاخر للجم البوح في اطار حرية التعبير وابداء الراي بالشكل الذي يضع الامور في نصابها الحقيقي،ثم يستطرد المؤلف وهو يثور قضايا مهمة عبر وخز الذاكرة الجمعية للقارئ لفتح انساق علاماتية لتعزيز مهيمنات الخطاب المركزي،
الزوجة: ( حينما نحرث الأسئلة المتيبسة على الشفاه تنقطع عن اداءه فروض الحب ..الزوج / الحب .. الزوجة / اجل …الزوج / وهل ثمة حب هنا ) ،
فالحب بحسب نظر الفلاسفة هو الشيء،الذي لايمكن ادراكه بالعقل، الا ان المؤلف هنا وبتقديري سيق به كمفهوم لايضاح طبيعة العلاقة التي تربط الزوجان من جهة والمحيط الخارجي لهما من جهة اخرى، وهو علامة متفردة مضمرة، تمترست على قمة الذاكرة لتثير فينا الشجون والاضطراب والقلق والحيرة، كونه قد انتزع منا اجمل شيء وضعه الإله في قلوبنا ..لاسباب لسنا الان بصدد بيانها، من جانب اخر حدد المؤلف شخصياته في البدء ب ( رجل ، امرأة ) لكنه عاد في نسق المتن ليصفهما بزوج وزوجة ، فان كانت القضية مقصودة فاعزوها الى ان المراد ايصاله هو شمولية الخطاب في الاول وتخصصية في الثاني على المرتكزين الأساسيين في نواة المجتمع، كما انه ممكن في الاول لم يظهر العلاقة الخاصة الا من ناحية الجنس اعني الرجل والمراة وفي الثانية عزز العلاقة واعطاها بعدا اجتماعيا وحميميا وتكوينيا الخ، ليستطيع من خلاله ان يسقط افكارة المعاصرة، اما ان لم يقصد في ذلك فاعتقد. ثمة مغايرة مفاهمية في الحالتين يترتب عليهما انساق جديدة في القراءة العامة للنص، اعني الرؤية تحددها المرتكزات الاساسية للنص سواء على مستوى الشخصيات والاحداث من جهة او على المستوى الزمكانية واللغة من جهة اخرى، وفي كلا الحالتين ثمة رؤية خاص بهما، تقرا بحسب المفاهيم المتدلية من سقف النص، او الخارجة من جدارة على شكل نتوءات تحتاج الى بيان وايضاح، كما نشير ايضا الى بنية العنوان الرئيسي (منطقة حرجة)، ميز (رولان بارت) في قراءته للذة النص بين بنية النص وتخلق النص، فالاول يقصد به المتن الظاهر والثاني يقصد به العلاقات والاشتباكات وما يخرج منها، فالمنطقة الحرجة، مكانيا اشبه بمنطقة الحرام ، او منطقة السيادة او منطقة منزوعة السلاح او انها محرمة الخ لكنها في المعنى الاخر بحسب بارت ربما تشير الى المساحة التي لايمكن الخوض فيها، او انها ليس بالمجال المباح او التي تسبب لك الكثير من الاشكاليات، وبهذا استطاع المؤلف ان يخلق نسقا تواصليا حيث وضع القارئ بدءا من العنوان الرئيسي في المنطقة الحرجة، بمعنى خلق له بيئة مناسبة لاستلام المبثوثات المضمرة في النص، حين استعارة هذه التسمية، فوضع لك شيء،منطقة حرجة، فالوقت والحلم والكرفان والشيخوخة والحب والقبر والعلاقات والمكان والزمان والحدث والجحيم والموت الخ كلها حرجة بالمعنى الثاني الذي اشرنا له عند بارت وبهذا ختم المؤلف رحلته بصدمة كبيرة وهي : إن افتراضه لم يتحقق حين انتهى الوقت ولم ياتيهما الموت كما كانوا يظنون، وبهذا انتهت اللعبة المفترضة باللاجدوى، كونهما بقيا يئنان تحت نير افكارهما التي يعيشانها يوميا ..
ويمكن ان نبين اهم المؤشرات الخاصة بالنص على النحو الاتي :
اولا / بني النص على اساس فرضية لقراءة واقع متردي معاصر وواضح مهيمناته عبر الانساق التواصلية المتناثرة في عموم النص.
ثانيا/ قرأ النص مخلفات شعب كامل عبر الاستفهامات الاحتجاجية، التي كانت تبحث عن اجابات عقلية وحقيقية .
ثالثا/ شخصياته عامة ارتبطت بعلاقات إنسانية، وان كانت متصله ظاهريا الا ان الواقع جعلها منفصلة من الجوهر .
رابعا/ تغريب الحكاية مفادها تأصيل الفكرة، لرفع موانع الاقتحام ليتسنى للمؤلف حرية الحركة في الارسال.
خامسا/ ثمة عبثية واضحة في عناصر النص وقيمه الدراماتيكية، وبتقديري الامر مقصود لان ذلك مدعاة للاحتجاج وبقوة على المتمثل العقلي للاحداث بحسب تعبير كاسيرر ، في قراءته لمعنى التمثل فلسفيا .
سادسا/صراعه خفي وشديد الا ان المعلن منه اثارات هدفها انبجاس العلامة وتشظيها لاسناد المعنى الكامن خلف الخطاب المركزي..
سابعا/ نهايات بلاجدوى عائمة فيها العديد من الاحتمالات بمعنى مفتوحة ..دلالة على بقاء، الاشياء،في محلها ، وليس،ثمة امل في الانفراج..
ثامنا / ناقش النص فلسفة الانتظار، ولكنه هذه المرة باحثا عن انفراج من نوع اخر ولا يبغي ان يتحقق في هذا العالم، بدليل انتظاره الموت بوصفه مخلصا، ولم ينتظر املا اخر، وبالتاكيد فان تجسيد. هكذا ثيمة هذا يعني انقطاع السبل بالشخصيتين ولايوجد بارقة امل من بعيد..
اخيرا اقول كما يقول (بتراند راسل) احد مؤسسي الفلسفة التحليلية: هل يستطيع البشر معرفة اي شيء؟ ذلك هو السؤال الجوهري الفلسفي الذي يبحث الجميع للاجابة علية ..
ملاحظة : نص ( منطقة حرجة فائز بجائزة وزارة الثقافة العراقية / دائرة العلاقات ، مسابقة خمسة نصوص تبحث عن مؤلف بعد ان وصل الى القائمة القصيرة من بين 60 نصا مسرحيا)…
* حيدر جبر الاسدي/ فنان وناقد مسرحي عراقي