كتاب الخميس (الحلقة السابعة و العشرون)/ عرض و قراءة: كمال خلادي

اسم الكتاب : “المسرح والهويات الهاربة، رقص على حد السيف” 

الكاتب: د. خالد أمين

الناشر: منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة ـ سلسلة رقم:63

*****************************

 

الكتابة بيدين: تأثيل المفاهيم في الكتابة البحثية لخالد أمين

                                

يكتب خالد أمين بيدين، نصه البحثي منكتب باستمرار، ومشروعه النقدي شارع طويل يقطعه جيئة وذهابا، مرارا وتكرارا. منذ كتابه الأول “ما بعد بريشت” Beyond Brecht [1] وحتى إصداره الأخير “المسرح والهويات الهاربة، رقص على حد السيف[2] يعود خالد أمين بشكل دؤوب لما كتب، يعود لتقليب ونبش مواضيعه الأثيرة التي لا يغادرها إلا لإعادة كتابتها من جديد، مع ما تقتضيه إعادة الكتابة من مراجعة، ورفد، وتحول، وتنبؤ. إننا نعتبر خصائص التعدد والتكرار والاستئناف مداخل أساسية وخصيبة لقراءة وفهم المشروع البحثي عند خالد أمين؛ وسنحاول من جهتنا أن نتبين في هذه القراءة كيف ينبئ رسم المفاهيم والعناية بها عن بعض من ملامح هذا التعدد المبثوث في مفاصل هذا المشروع البحثي، وسنقوم لاعتبارات تهم الاقتصاد العام لهذه الدراسة بالتركيز على مفهومي الفرجة والتناسج.

في الكتابة بيدين

عاد عبد السلام بنعبد العالي في كتاب وسمه بـ “الكتابة بيدين[3] وبالضبط في مقالة افتتاحية تحمل العنوان ذاته إلى مؤلفات حملت توقيع أسماء مشتركة ليقول بأن هذه المؤلفات التي كتبت بقلمين، ووقعت باسمين إنما هي مؤلفات كتبت بيدين؛ بطبيعة الحال لا يتوقف بنعبد العالي عند هذه المؤلفات لمجرد تذكير القارئ بها، وبأسماء مؤلفيها، وإنما ليخرج إلى طابع التعدد الذي يسمها ويسم فعل الكتابة عموما؛ على أن التعدد المقصود هنا ليس تعددا رياضيا يضاف ويجمع فيه هذا إلى ذاك، التعدد هنا ليس تعدادا؛ يفرق عبد السلام بنعبد العالي في هذا الصدد بين تعددية حسابية وتعددية هندسيةفإذا كانت التعددية الأولى تقوم على مفهوم الوحدة وتنحل إلى تعداد يجعل التعدد كثرة من الوحدات فإن الثانية تروم خلخلة مفهوم الوحدة ذاته، وتفكيك الثنائي وحدة/تعدد…”.[4]

إن ما يهمنا في مسألة الكتابة هو نمط التعدد الثاني، التعدد الحيوي الذي لا يجعل عناصره تنتظم في مواضع ومراتب لا تغادرها، وإنما يحفظ لهذه العناصر حرية الامتداد وحيوية الحركة في فضاء بيني موسع؛ يستند بنعبد العالي في هذا الترجيح على ما جاء به جيل دولوز وهو يبسط شكل اشتغاله مع فيليكس غاتاريلم يكن يهمنا أن نعمل معا، بقدر ما كان يعنينا هذا الحدث الغريب الذي هو أن نعمل بيننا. كنا نكف عن أن نكون مؤلفا. وهذا البينبين كان يحيل إلى آخرين مختلفين عن هذا الطرف أو ذاك؛[5]لا يتعلق الأمر -إذن-في تعدد فعل الكتابة بالتواجد معا فقط، ولكن -وخصوصا-بالتواجد في منطقة بينية جديدة لا تنتمي بالضرورة إلى أي من الطرفين؛ الكتابة بيدين هي كتابة متعددة لا تستدعي الانسجام إلا بالقدر الذي تستدعي الأخذ والرد “لم نكن نعمل معا، كنا نعمل بين الاثنينلم نكن نعمل، كنا نتساوم ونتفاوض“.[6]

هكذا يتأثل مفهوم الكتابة بيدين عند عبد السلام بنعبد العالي ليصبح كتابة بين يدين، وبهذا المعنى يصبح التعدد الإسمي عارضا غير مهم، وتصبح الكتابة وهي تفسح من داخلها مجالا لهذه الحيوية كتابة بيدين حتى وإن خطت ووقعت بيد واحدة “فلعل كل كتابة هي أصلا كتابة بيدين، حتى وإن كان الموقع يدا واحدة، الكتابة فضاء هويات سندبادية، فضاء البينبين الذي يخفي من ورائه أسماء متعددة حتى إن لم يظهر منها إلا اسم بعينه. كل كاتب يكتب بيدين إحداهما تقبض، والأخرى تنتزع“.[7]

وفق هذا المنطق قلنا عن الكتابة البحثية عند خالد أمين إنها كتابة بيدين يمكن أن نرصد في تكوينيتها تعددا يتردد على مستويات مختلفة؛ ومن ذلك التعدد الذي تكثفه جملة المفاهيم التي تنشغل بها هذه الكتابة.

تأثيل المفاهيم في الكتابة البحثية المسرحية عند خالد أمين

إذا كانت الفلسفة تتحدد عند جيل دولوز على أنها فن تكوين، وإبداع وصنع المفاهيم؛ فإننا لن نجازف كثيرا إذا ما قلنا بأن الكتابة البحثية في المسرح إنما تتحدد أيضا -إن لم يكن الأمر كليا فجزئيا في إبداع وصنع المفاهيم؛ نقول هذا لتقارب نلمسه بين تاريخ الفلسفة وتاريخ النظرية المسرحية، فإذا كان لوي ألتوسير يرى “أن ما يميز تاريخ الفلسفة ويجعله فريدا من نوعه هو أن كل فلسفة جديدة عندما تطغى على الفلسفة العتيقة لتحتل مركز السيادة خلال صراع طويل شديد، لا تقضي على هاته الفلسفة العتيقة التي تستمر في الوجود دون أن تبرز وتعيش إلى ما لا نهاية له. وهي غالبا ما تناط بدور ثانوي، ولكن الملابسات قد تدعوها لتتبوأ مركز الصدارة في بعض الأحيان؛[8]فإننا نرى على الجانب الآخر أن ما ندعوه مسرحا لم يسبق له أبدا أن كان مفهوما جاهزا وثابتا؛ يستلزم هذا أن ما يمكن أن ندعوه تاريخا للمسرح أو تاريخا لنظريته لا يعدو أن يكون في الحقيقة مجرد فكرة محدودة وخاصة مهما بلغ اتساعها ومداها.

يؤسس الباحث خالد أمين جزءا كبيرا وأساسيا من مجهوده البحثي حول المفاهيم ما يجعلنا نقدر أن بحثه المسرحي إنما هو بحث في المفهوم أولا وأخيرا. وإذا كان من الصعب جدا أن نحيط بجماع الثراء المعرفي الذي يصنعه خالد أمين بواسطة المفهوم ومن حوله؛ فإننا سنعمد إلى بسط مفهومين اثنين نعتبرهما أساسيين جدا في الممارسة البحثية عنده؛ وقبل هذا سنعمد إلى التفريق بين فهمين اثنين حاسمين لمسألة المفهوم. يرى الباحث المغربي عادل حدجامي في دراسته المميزة لفلسفة دولوز أن الأخير يميز بين دلالتين للمفهوم؛ تتحدد الدلالة الأولى باعتبارها دلالة ميتافزيقية “وهي التي يتقدم فيها المفهوم بحسبها كتجريد عقلي يحاول أن يحدد جملة الصفات والنعوت الثابتة التي نحملها على مجموعة من الموجودات بغرض إدراكها وتوحيدها في هوية، وهذا المعنى هو الذي يأخذ عنده تسمية المفهوم الأساس  fondement أو المفهوم الماهية Essence[9]، أماالدلالة الثانية التي تحوز اهتمام جيل دولوزفنجد أن المفهوملا يتقدم كوحدة، بل يتقدم كتعدد، أي كسلسلة تنويعات ودرجات شدة لا تتغيا أي تعميم أو إطلاق، وكمستوى من التفرد لا ينقطع عن الحركة والتحول…”.[10]

يخرج المفهوم عند دولوز من لبوسه الميتافزيقي الصوري الكلي والجاهز في الدلالة الأولى ليصبح متعددا ومتغيرا باستمرار انطلاقا من خصائص المرونة، والتحول، والاختلاف، والتوتر، والنسبية، والحيوية التي يكثفها بداخله. يعبر عادل حدجامي عن هذه الطبيعة المتحولة للمفهوم “إن المفهوم تعدد في ذاته، أي تجاور وتلاق، وليس توحيدا“.[11]

سؤالنا الآن هو: كيف يكون المفهوم في الكتابة البحثية عند خالد أمين تعددا، تجاورا خلاقا وليس توحيدا؟

1 –مفهوم الفرجة

هو واحد من أكثر المفاهيم تداولا في الكتابة البحثية عند خالد أمين، بما يجعل جزءا كبيرا من متن هذه الكتابة يكون تدويرا دؤوبا واستثمارا حيويا لممكنات هذا المفهوم. عندما نقرأ ما كتبه خالد أمين عن بداية علاقته بمفهوم الفرجة نفهم على أنه وديعة استلمها من كتابات أخرى سابقة، وهو استلام يمكن أن نرصده من خلال ثلاثة مستويات:

  • أولا، إنه استئناف للجهود البحثية التي اجترحها حسن المنيعي منذ كتابه أبحاث في المسرح المغربي “وقد بدأ التقعيد النظري لهذا الاشتغال مع الباحث الأستاذ مؤسس حقل دراسات الفرجة بالمغرب حسن المنيعي، الذي أعاد الاعتبار للفرجة في المجال البحثي منذ كتابه الأول أبحاث في المسرح المغربيمرورا بـ المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة“…ومن جانبنا سعينا بمعية ثلة من رفاقنا في المركز الدولي لدراسات الفرجة إلى المضي قدما لتنزيل موضوع الفرجة منزلة تستحقها في مجال الدراسات الجامعية بالمغرب“.[12]
  • ثانيا، هو استيعاب ورفد لحصيلة تداول الكلمة في المدونة البحثية المسرحية العربيةغالبا ما تستعمل كلمة فرجةفي المغرب بوصفها مرادفا وليس بديلا لـ العرضوالأداءوهما معا أكثر انتشارا في المشرق العربي“.[13]
  • ثالثا، هو استثمار لمسارات المعنى المخصوصة لكلمة الفرجة في المعاجم العربية، يقدم خالد أمين هنا مجموعة من المعاني مترصدا العلائق الممكنة التي يتغياها لمفهومه عن الفرجة إلى أن يخلص إلى أن الكلمة تنطوي على ما يفيد الخلوص من الشدة والهم والحال أن الاستعمال الأخير (انكشاف الغم، ومشاهدة ما يتسلى به) يتضمن في خلفيته معنى إحداث تأثير في النفس والآخرين. وبالتالي فهو الأقرب إلى اللسان العربي لوصف حركية الفرجة وارتباطها العميق بالتأثير على الجمهور“.[14]

تؤكد خريطة استلام مفهوم الفرجة عند خالد أمين على أن الكتابة البحثية لا تكون إلا استئنافا مستمرا لما سبق، وإعادة تفكير ونبش في المترسب الموجود. ننتبه أيضا إلى أن عودة خالد أمين إلى المعاني التي تقترحها المعاجم لكلمة الفرجة أسفرت عن واجهة مهمة من واجهات المعنى التي تؤسس للمفهوم وهي استلزامه بالضرورة للجمهور ليس استلزام الشيء إلى ما قد يفيض عنه ولكن استلزام الشيء لما لا يكون إلا به؛ نفهم أيضا أن المفهوم لا ينتظر أن يتشكل ليسفر عن معانيه المحتملة، إنه يحمل جينات المعنى بداخله.

تستلزم -في تقديرنا-الكتابة بيدين بما هي كتابة متعددة ترصد الودائع وإتقان فن استلامها؛ على أنها لا تكتمل إلا باستئناف البحث في هذه الودائع واستثمار ممكناتها ورفد تعددها والإبقاء عليه. بهذا الصدد، نقول إن الكتابة البحثية عند خالد أمين لجأت إلى مفهوم الفرجة بما هو وسيلة وليس غاية، أو لنقل إنه وسيلة من جنس الغاية نفسها؛ تطمح هذه الكتابة وهي تستثمر مفهوم الفرجة إلى إجراء توسيع جذري يحتاجه التفكير في المسرح وفي مسألة الفرجة؛ وإذا ما أردنا أن نرسم لمعالم هذا التوسيع فإننا نقول:

  • لا يتواجد مفهوم الفرجة عند خالد أمين إلا في تعالقه وتوالجه مع مفاهيم أخرى ترفده وتمنحه معناه وحيويته “الفرجة أشمل من الأداء ومن المسرح، ذلك لكونها تستوعب الإثنين معا، بل وتتجاوزهما لتشمل الشعائر والاحتفالات، والمراسيم، والسيرك، والجوانب الفرجوية المتمظهرة في بعض الخطابات السياسية والدينية وبعض أشكال الاحتجاج الجماهيرية، وتيفوات الملاعب، والسلوكات الفرجوية الشعبية…”،[15] وإذا كان مسار التوسيع -هنا- يبدو واضحا من خلال فتح مجال الفرجة على ما قد يكون قد سقط من المسرح وهو يحاور واقعه ويغير من أشكال وجوده؛ فلا بد وأن ننتبه إلى أن هذا التوسيع ليس استبدالا ولا محوا للآثار السابقة؛ إن مسألة تجاوز واستيعاب الفرجة للمسرح والأداء لا يمكن فهمها إلا بما هي حوارية متدفقة وسيرورة من الفصل والوصل “لقد أبان كل من المسرح وفن الأداء باستمرار عن اهتمام خاص بالتأمل في البنيات المشكلة للفرجة وصيرورات التحول المتناسجة المرتبطة بها منذ ستينيات القرن الماضي.[16]
  • في سياق يشبه السياق السابق ويزيد عنه ينتبه خالد أمين إلى المسؤولية النقدية التي ينبغي أن يتحملها المفهوم عموما عندما يمكن مفهوم الفرجة من صلاحية مراجعة الدلائل القديمة والفهوم السابقة للمترسب المسرحي “يدفعنا مفهوم الفرجة إلى إعادة النظر في السلوكات الفرجوية الخارجة عن دائرة الممارسة المسرحية الصرفة. والأهم من هذا هو إعادة تقييم مفهومنا للمسرح وباقي الفنون المجاورة“.[17] إن تمكين المفهوم من مسؤوليته النقدية يعد من صميم الحاجة إلى هذا المفهوم في الكتابة البحثية وهو -هنا-يفيد في تأول المسرح تأولا نقديا يصبح الأخير بمقتضاه تجربة متشكلة باستمرار غير قابلة للاختزال في صيغ متحفية محنطة، وغير قابلة للتجزيء بحجة الدراسة والبحث.
  • في إطار نفس استراتيجية التوسيع يربط خالد أمين مفهوم الفرجة بالحياة، فإذا كان المسرح لا يخرج عبر تاريخ وجوده الطويل عن أن يكون تدبيرا لتصورات مختلفة ومتغيرة للعلاقة مع الحياة وللوجود في العالم؛ فإن مفهوم الفرجة يمنح أفقا تأويليا مضافا عبر محاورة مفهوم آخر لا يقل أهمية وهو مفهوم التمثيل الذي أفرد له خالد أمين جينيالوجيا رحيبة في كتابه “الفن المسرحي وأسطورة الاصل“.[18] بهذا الصدد لا تكون الفرجة تالية عن الحياة ولا مجرد تمثيل لفصل أو تفصيل منها “لقد حول البحث الجامعي الاهتمام إلى الخاصية الانبعاثية للفرجة عكس ما كان يروج قبل ذلك في أن الفرجة تأتي بعد الحياة، بوصفها حضورا أي أن الفرجة مجرد شكل تمثيلي يحاكي حضورا معينا يكمن في النص الدرامي تحديدا. وشكل هذا الانتقال من الفرجة بوصفها مرآة تعكس شيئا آخر غير ذاتها إلى الفرجة بعدها كتابة منبعثة من سيرورة الممارسة الفرجوية ذاتها.[19]
  • يستتبع ما سبق أن الفرجة تتواجد بوصفها فعلا ورد فعل وعلاقة بين طرفين؛ هكذا يمكن خالد أمين مفهوم الفرجة من بعده التواصلي وهو لا يفعل هذا للتذكير بمركزية الجمهور في فعل الفرجة باعتباره حدثا بينيا استثنائيا أوحلقة مرتدة لتبادل الأثر كما تعبر عن ذلك إيريكا فيشر ليشته فقط؛ ولكن أيضا لتكريس الفرجة بما هي وسيلة للتفاعل والتعليق على التجربة الثقافية داخل مجتمع ما، وبما هي كثافة زمنية تتوالج فيها أزمنة الماضي والحاضر والمستقبل “ومن ثم تبرز الفرجة في الوقت ذاته الذي يتم فيه بناء المجتمع من لدن ممثلين اجتماعيين عن طريق إيحاءات ثقافية مصوغة تحيل على أحداث وتجارب ماضوية بطرق متأثرة باللحظة الراهنة، وذلك بوساطة عين نحو المستقبل.[20]
  • عموما ولترسيم حدود مجال الفرجة يعتمد خالد أمين الخصائص الأربعة التي حددتها إيريكا فيشر ليشته وهي:
    • توجد الفرجة جراء الوجود الجسدي للمؤدين والجمهور انطلاقا منلقائهموتفاعلهم مع بعضهم البعض.
    • ما يحدث في الفرجات هو عابر وزائل، ومع ذلك نعيش تمظهرات سيرورة الفرجة بطريقة جد مكثفة في الحاضر.
    • لا تنقل الفرجة معاني مسبقة، ولكنها تبني المعاني انطلاقا من سيرورتها.
    • تتميز الفرجات بخلقها للحدث لتتيح إمكانية تحقيق شكل ما من التجربة البينية.[21]

 

2-مفهوم التناسج

كتب خالد أمين في مقدمة ترجمته لكتاب تناسج ثقافات الفرجةجاء مشروع htungen von theaterkulturenverflec عام 2008 بريادة إيريكا فيشر ليشته بعد تلمس حياة وانحسارمصطلح مسرح المثاقفة، ليفتح أفقا جديدا للبحث والتأمل، ويقف عند مواطن الخلل والتناقض الكامن في مثاقفة المسرح الغربي، ويقترح علاجها وتعديلها بشراكة مع باحثين وفنانين منحدرين من جميع الثقافات والجغرافيات. إن استنباط مفهوم التناسج ولحظات تشكله، ومآزقه ومقوماته، لهو مغامرة حقيقية، إذ أنه من الصعب مثلا ترجمة الكلمة الألمانية verflechtungen التي تتضمن معان عدة؛ منها: الطي، والتداخل، والروابط، والتشابك، والإشكالات المفتوحة.[22]

يضعنا المقول السابق -على الأقل-أمام خصيصتين من خصائص اشتغال مفهوم التناسج في الكتابة البحثية عند خالد أمين:

  • المفهوم بما هو تفكير في حل مشكلة ما: يرى خالد أمين مثلما يرى مشروع تناسج ثقافات الفرجة أن مفهوم مسرح المثاقفة فقد طاقته التعبيرية عن سيرورات التلقي المنتج تلك التي تشهدها خشبات المسرح وميادين الفرجة عبر العالم، وأصبح يكثف بداخله مركزية غربية مسكوت عنها تعيد إنتاج مقولات تفوق الثقافة الغربية وهيمنتها والإصرار على التمييز بين ثقافة الأنا وثقافة الأخر في وقت أصبحت إمكانية عزل العناصر المكونة لبناء “الأنا” عن تلك المكونة لبناء “الآخر” غير ممكنة إلا تحت يافطة تعسف يؤبد هيمنة ومركزية ثقافة على أخرى؛ إن مسرح المثاقفة ينطوي على بنية تفكير تجمع بين رأسمال العالم الأول وتفوقه، وبين المادة الخام، وعمالة بقية العالم. ويتم في الغالباعتماد النصوص المسرحية الغربية الخالدة؛ لكن بأساليب أدائية/فرجوية شرقية، أو يتم اختزال ملاحم وأعمال خالدة وإفراغها من محتوياتها لتقديمها كوصفات جاهزة لجمهور غربي متعطش لكل ما هو غريب. تثير حالة المثاقفة إشكالات عديدة من قبيل: هيمنة النموذج الغربي على آخره، والتبعية الثقافية بين الشمال والجنوب…”.[23]

لم يأت -إذن-مفهوم التناسج ليكون مجرد إبدال لمفهوم آخر يسبقه وهو مفهوم المثاقفة؛ بقدر ما جاء لبعث عناصر مضمرة سكت عنها خطاب المثاقفة أو سقطت منه عبر رحلته الطويلة؛ لقد جاء مفهوم التناسج للتفكير في مشكلة جديدة أو بالأحرى للتفكير في الزوايا المظلمة لمشكلة موجودة؛ قد يتعلق الأمر باستبدال مشكلة بمشكلة أخرى، وقد يتعلق باستبدال حاسم لزوايا النظر. ينبئ اشتغال المفهوم هنا عن طبيعة الاستيعاب التي ينبغي أن تتميز بها المفاهيم؛ إذ لا يكون المفهوم إلا محاورة ومراجعة واستيعابا وتجاوزا لمفاهيم أخرى سابقة؛ كما ينبئ عن خاصية أساسية تحسم إبداع المفاهيم إذ لا يكون المفهوم في نسغه إلا تفكيرا في مشكلة ما، وتفاوضا حيويا معها؛ يشرح جيل دولوز هذه الخاصية كل مفهوم يحيل إلى مشكلة، وإلى مشكلات لن يكون له بدونها معنى، والتي لا يمكن أن تستخرج أو تفهم إلا مع التقدم الحاصل في حلها“.[24]

  • المفهوم بما هو تركيب لا تبسيط: يرى جيل دولوز أنلا وجود لمفهوم بسيط، وهو يقصد أن المفهوم يتركب بالضرورة من مكونات عدة “لا وجود لمفهوم بسيط. كل مفهوم يملك مكونات، ويكون محددا بها. للمفهوم إذا رقم. إنه تعددية، حتى وإن لم تكن كل تعددية مفهوميةلا وجود لمفهوم أحادي المكون“.[25]هذا هو مايفسر الصعوبة التي عبر عنها خالد أمين وهو ينقل المفهوم الألماني إلى حضن اللغة العربية، وهي الصعوبة التي ارتقت لديه لتصل إلى حجم المغامرة.يستلزم مفهوم التناسج مكونات ومعان مختلفة ما يجعله مفهوما مركبا يؤسس لنفسه انطلاقا من حركة تتم في اتجاهين مختلفين ومتفاعلين في الوقت نفسه؛ يتم الأول باتجاه المفاهيم المجاورة وهي هنا –أساسا-مفهوم المثاقفة وما يرتبط به من مفاهيم أخرى، ويتم الثاني باتجاه معاني الطي، التداخل، الروابط، التشابك، الإشكالات المفتوحة التي يكثفها المفهوم بداخله في أصله الأول في اللغة الألمانية؛ انطلاقا من هذه المراوحة المزدوجة يتأثل مفهوم التناسج ليكون حصيلة تمفصل وتقطيع وتقاطع، حصيلة حركة وتعدد مكونات لا تكف عن التفاوض والصعود والنزول فيه.

لكن كيف يمكن للباحث أن يقد مفاهيمه ويضمن وحدتها في ظل هذا التركيب ذي الطاقة القصوى، وهذه الحركة التي لا تهدأ؟ كيف يمكن شد تنافر المكونات وتعدد مناطق الجذب وسحبها إلى نقطة ارتكاز موحدة داخل مفهوم ما؟

يبسط خالد أمين سردية مفهوم التناسج فيكتب “استقينا مفردات التناسج والنسج والتنسيج من معجم سوق الغزل المغربي لتفيد معنى التشابك والتفاعلإن اختيار استعارة ترمز إلى عالم النسيج بوصفها لازمة للمنشغلين بسيرورات التناسج، توحي بازدواجية عملية التنسيج التي تعمل على مستويين: التئام العديد من الخيوط الحريرية في ضفيرة واحدة وتشابك هذه الضفائر بدورها لتنسج قطعة ثوب واحدة أو شراريب قماش.[26]

استلزم تعقيد مفهوم التناسج في أصله الألماني وفي صيغته الإنجليزية   Interweaving الاحتماء بمظلة الاستعارة على أننا لا نفهم هنا من كلمة الاستعارة معناها الذي يشدها إلى الخيال الشعري والبلاغي وإلى اللغة ونشاطها فقط؛ وإنما ما يجعل هذه الاستعارة سارية في كل شيء، بالمعنى الذي يجعل الخرائط تفهم على أنها استعارات للمدن وللجغرافيا؛ نقصد هنا تلك الاستعارات التي نعيش بها حسب جورج لا يكوف ومارك جونسون “فقد انتبهنا إلى أن الاستعارة حاضرة في كل مجالات حياتنا اليومية. إنها ليست مقتصرة على اللغة، بل توجد في تفكيرنا وفي الأعمال التي نقوم بها أيضا. إن النسق التصوري العادي الذي يسبر تفكيرنا وسلوكنا له طبيعة استعارية بالأساس.[27]

على أن رحلة خالد أمين مع مفهوم التناسج لم تنحصر في بحث سبل نقله وإيجاد معادل يحمل تعقيده وتوتره في اللغة العربية -وإن كانت مهمة اجتراح مفاهيم حيوية مثل مفهوم التناسج مهمة معقدة كما أسلفنا- بل امتدت لرفد المفهوم وتحميله رؤى جديدة قد تغيب عنه حتى في أصله الموجود؛ وهو ما أشارت إليه إيريكا فيشر ليشته صراحة”يشير مفهوم تناسج ثقافات الفرجة إلى تنظيرات استشرافية تروم تجاوز أفق تنظيرات ما بعد الاستعمار، وذلك من خلال الانفتاح على وجهات نظر أخرى بخصوص الأداء/الفرجة مع الأخذ بعين الاعتبار دائما فكرة النقد المزدوج كما طرحها الباحث المغربي خالد أمين؛ حيث انطلق من فكرة عالم الاجتماع المغربي عبد الكبير الخطيبي الذي طالب بـ سوسيولوجيا ضد الاستعمار في العالم العربي مبنية على نقد مزدوج.[28]مثلما تتقن الكتابة البحثية عند خالد أمين فن استلام الودائع فإنها تحمل نفسها مسؤولية النظر في هذه الودائع قبل تسليمها إلى الآخرين؛ إن الكتابة بيدين كتابة نقدية أولا وأخيرا فإذا كانت اليد الأولى تهتم باستلام الودائع فإن اليد الثانية تهتم بالنظر والنبش في هذه الودائع. لقد حقن خالد أمين مفهوم التناسج بمفهوم النقد المزدوج الذي استلمه عن عبد الكبير الخطيبي، وهو إذ يفعل هذا فإنه يحقن المفهوم الأصلي بعناصر تفكير لا تنتمي بالضرورة لمنظومة التفكير التي انطلق منها، يضيف عناصر لا تنتمي بالضرورة إلى الثقافة الغربية مستثمرا ومختبرا في الآن نفسه إمكانات مفهوم التناسج وفلسفته. بحسب خالد أمين وإيريكا فيشر ليشته فإن حقنة النقد المزدوج تفيد مفهوم التناسج في تفكيك الخطابات الملتبسة حول الفرجة تلك الغارقة في التمركز الأوروبي، والتأمل نقديا في “خطابات الحنين” التي يغلف بها الدارسون العرب نظرتهم لثقافاتهم الفرجوية. إن هذه الحقنة التي يجريها خالد أمين في دم مفهوم التناسج لم تأت صدفة وإنما تمت تحت ضغط فكرة أخرى أساسية لديه هي ما يسميه بموقع الناسج The Weaver  والتي تحتم أن نظرتنا إلى المفهوم لا يمكن أن تتطابق بحسب موقع وثقافة كل واحد منا وهو ما يعبر عنه أمين”ومع ذلك، يختلف مفهوم التناسج كما نتصوره من موقعنا نحن في الضفة الجنوبية للمتوسط عن تصور بعض زملائنا في الضفة الشماليةوهذا تحديدا ما يجعله أفقا رحبا للتأمل والبحث في مختلف التفاعلات بين ثقافات مسرحية مختلفة، حيث يصعب عزل عناصر من ثقافة ما عن أخرى؛ ذلك أنها تخضع لمنطق التحول التاريخي، الجمالي، وموقع الناسج“.[29]

تنبئ سردية مفهوم التناسج عند خالد أمين عن غريزة خاصة في تأثيل المفاهيم وإخراجها، أو عما يسميه جيل دولوز وفلاسفة آخرون بالحدس “وأن تكون كل فلسفة متعلقة بحدس، لا تنفك مفاهيمه عن التطور بحسب اختلافات في الشدة، فإن هذا المنطق العظيم الذي جاء به ليبنز أو برغسون، يغدو مبررا حقا إذا أخذنا بالاعتبار الحدس كتغليف للحركات اللامتناهية للفكر.[30]على أن الحدس أو الذوق الحدسي كما يسميه عادل حدجامي ليس حدسا ذاتيا أو صوفيا ولكنه الغريزة والقوة الفلسفيتين، وهو الأصل في كل تفكير، والملكة التي نلاقي بها بين عناصر الفكر.[31]هكذا يتأثل في تقديرنا مفهوم التناسج بما هو رتق يتوالج فيه التأويل بالاستعارة والمعرفة بالإبداع، وبما هو خروج من الضيق إلى الطلق.

تنشأ تعددية الكتابة البحثية عند خالد أمين في تقديرنا من أن هذه الكتابة لا تهرب من عدم اكتمالها ومن نقصها المزمن وإنما تسعى إليهما، إنها كتابة تجري دائما إلى مستقر آخر، كتابة غير مطمئنة لا يستقيم أودها إلا بإعادة الكتابة، وبالعودة بإصرار وترصد إلى ما سبق وأن كتب دون هوس بنقط النهاية ووهم الاكتمال. وقد رأينا في هذه الدراسة المتواضعة كيف تحفظ هذه الكتابة للمفاهيم تعددها، وحيويتها، وانفتاحها، بما يجعل من الكتابة البحثية عملية رتق وفتق وتنسيجلا تنشغل بالنقطة التي يمكن أن تتوقف عندها ولكن بالنقط التي يمكن أن يمتد إليها مجالها، كتابة لا تطمح إلى حد المفهوم حدا نهائيا بقدر ما تسعى إلى إعادة ترميمه كلما تجددت مشكلاته، وهي إذ تفعل هذا فإنما لأنها تدرك حاجتها المزمنة لترميم نفسها كل وقت وحين.

 

الإحـــالات:

[1]خالد أمين: ما بعد بريشت Beyond Brecht. ترجمة عبد المنعم الشنتوف، مطبعة سندي، مكناس، 1996.

[2]خالد أمين: المسرح والهويات الهاربة، رقص على حد السيف. منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، سلسلة رقم 63، ط1، 2019.

[3]عبد السلام بنعبد العالي: الكتابة بيدين، دار توبقال للنشر، ط1، 2009.

[4]عبد السلام بنعبد العالي: مرجع سابق، ص 41.

[5] – المرجع نفسه، ص 7.

[6] – المرجع نفسه، ص 8.

[7]عبد السلام بنعبد العالي: مرجع سابق، ص 8.

[8] -نقلا عن محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي. كتاب التفكير الفلسفي، سلسلة دفاتر فلسفية، دار توبقال للنشر، 2004، ص42.

[9]عادل حدجامي: فلسفة جيل دولوز عن الوجود والاختلاف. دار توبقال للنشر، ط1، 2012، ص147.

[10] – المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[11] – المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[12]خالد أمين: لماذا دراسات الفرجة؟ مجلة دراسات الفرجة، العدد 1)المسرح والذاكرة، مسرحة الأرشيف(، دجنبر 2015، ص5.

[13]خالد أمين: المسرح والهويات الهاربة، رقص على حد السيف. مرجع سابق، ص 14.

[14]خالد أمين: المسرح والهويات الهاربة.ص 16.

[15]خالد أمين: المسرح والهويات الهاربة. مرجع سابق، ص 15.

[16] – الكلام هنا لـ إيريكا فيشر ليشته نقلا عن خالد أمين، الهويات الهاربة. مرجع سابق، ص 18.

[17]خالد أمين: المسرح والهويات الهاربة. مرجع سابق، ص 19.

[18]خالد أمين: الفن المسرحي وأسطورة الأصل. مطبعة ألطوبريس، ط1، 2002.

[19]خالد أمين: لماذا دراسات الفرجة؟ مرجع سابق، ص 6.

[20]خالد أمين: المسرح والهويات الهاربة. مرجع سابق، ص 20.

[21] – المرجع نفسه، ص 23.

[22]إيريكا فيشر ليشته: من مسرح المثاقفة إلى تناسج ثقافات الفرجة. ترجمة وتقديم خالد أمين، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، سلسلة رقم42، ط1، 2016، ص 50.

[23]خالد أمين: من مقدمة ترجمة من مسرح المثاقفة إلى تناسج ثقافات الفرجة. مرجع سابق، ص 48.

[24]جيل دولوز، فليكس غاتاري:ما هي الفلسفة؟ ترجمة وتقديم مطاع صفدي، منشورات المركز الثقافي العربي، ط1، 1997، ص39.

[25]جيل دولوز، فليكس غاتاري: المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[26]إيريكا فيشر ليشته: من مسرح المثاقفة إلى تناسج ثقافات الفرجة. مرجع سابق، الصفحتان 50/51.

[27]جورج لايكوف ومارك جونسن: الاستعارات التي نحيا بها. ترجمة عبد المجيد جحفة، دار توبقال للنشر، 21.

[28]إيريكا فيشر ليشته: من مسرح المثاقفة إلى تناسج ثقافات الفرجة. مرجع سابق، ص 167.

[29]خالد أمين: مقدمة ترجمة كتاب من مسرح المثاقفة إلى تناسج ثقافة الفرجة. مرجع سابق، ص 51.

[30]جيل دولوز وفليكس غاتاري: ما هي الفلسفة؟ مرجع سابق، ص 59.

[31]عادل حدجامي: فلسفة جيل دولوز. مرجع سابق، ص 150.

 

** كمال خلادي / كاتب وباحث مغربي

 

لا يتوفر وصف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت