(بـدور العبــد الله) ايقونة المسرح البصري الجديدة/ أ.د مجيد حميد الجبوري
مبدعات بصريات (الجزء الثالث)
بعد أيقونات الفن والمسرح البصري السابقات : الكبيرة (سليمة خضير) والرائدة (سميرة الكعبي) والقديرة (عواطف السلمان) والمغنية الرقيقة (سيتا هاكوبيان) وغيرهن من الفنانات المؤثرات؛ ظهرت الفنانة المتألقة (بدور العبد الله) التي غدت قاسما مشتركا في أكثر الأعمال والعروض المسرحية أهمية في محافظة البصرة حاليا؛ والفنانة (بدور) التي عادت الى مقاعد الدراسة في إكاديمية الفنون الجميلة/جامعة البصرة؛ بعد أن تركتها لسنوات طويلة بسبب ظروف عائلية قاهرة؛ فأنها عادت بقوة وثقة عاليتين وأثبتت في السنوات الثلاث الماضية بأنها رقم صعب في المعادلة المسرحية العراقية؛ بخاصة بعد حصولها على جائزة أفضل ممثلة دور أول في (مهرجان العراق الوطني للمسرح – الدورة الأولى) التي انعقدت ببغداد للفترة 1 – 7 آب عام 2021 ؛ بعد منافسة شديدة مع الممثلة القديرة صاحبة التجربة الطويلة التي تقارب الأربعين عاما الفنانة الكبيرة (هناء محمد) ؛
وقد نالت الفنانة (بدور العبد الله) الجائزة أعلاه عن جدارة واستحقاق؛ بعد أدت أداءً استثنائياً وجريئاً في عرض مسرحية (حدث في كل مرة) تقديم فرقة البصرة للتمثيل ومن تأليف الكاتب السومري (عمار نعمة جابر) وإخراج الفنان البصري الجاد (علي عصام) ؛ إذ أدت (بدور) في هذه المسرحية : شخصية مركبة وصعبة ذات أبعاد نفسية معقدة ؛ وهي شخصية المرأة المتسلطة الشرهة السادية والعنيفة في كل أفعالها وتصرفاتها؛ امرأة لا ترتدع ولا تتواني عن فعل أي شيء؛ بما في ذلك حتى اغتصاب زوجها عنوة وإجباره على مواقعتها بالقوة ؛ وذلك لمجرد رغبتها بإنجاب طفل جديد يضاف الى جيش الأطفال غير الصالحين الذين أنجبتهم سابقا؛ بعدما رفض الزوج مجاراتها في ذلك لأن البيت ما عاد يحتمل مزيدا من الأطفال الشريرين. وفي هذا الأمر دلالات رمزية تلمح – بشكل خفي–عن وقائع عراقية معاصرة؛ لا يتسع المجال لذكرها؛ وربما نفرد لها دراسة منفصلة عند الحديث عن نصوص الكاتب السومري المبدع (عمار نعمة جابر) في قادم الأيام إن شاء الله.
في عرض المسرحية – أعلاه – قدمت الممثلة (بدور العبدالله) أداءً جريئا ومبهراً تفوقت فيه على نفسها وعلى موهبتها ؛ فقد هيمنت –بإدائها– على فضاء المسرح بالكامل وقدمت الشخصية أعلاه بكل أبعادها وخصائصها الجسدية والنفسية؛ وبأدق التفاصيل ، فأظهرت على المسرح امرأة متنمرة خطرة في كل أفعالها وتصرفاتها وحتى في وضعيات جلوسها وسيرها على خشبة المسرح ؛ إذ أشعرت الممثلة (بدور) جميع من هم حولها – وبما في ذلك حتى متلقي العرض – بالخوف من هذه الشخصية ؛ وأشعرتهم –أيضا – بالخطر الذي يمكن أن يداهم الجميع في حالة عدم تحقيق ما تصبو إليه؛ لذا فقد جاء أداءها التمثيلي متماسكا ومتوازنا بعيدا عن الافتعال والصراخ غير المجديين؛ فجاء أداءً صادقا مقنعا ؛ وذلك لأنه كان أداءً تمثيليا بأسلوب طبيعي ينسجم مع أبعاد وخصائص الشخصية التي تؤديها.
إن الانطباعات أعلاه؛ هي نموذج من الآراء الإيجابية التي استحقتها هذه المبدعة البصرية المثابرة عن أداءاتها المميزة خلال مسيرتها الفنية والتي قدمت فيها ما يزيد عن خمسة عشرة عرضا مسرحيا؛ أتسمت جميعها بالنجاح اللافت؛ ولاقت ردود أفعال حسنة من الجمهور المسرحي بشكل عام ؛ ومن النقاد بشكل خاص؛ ومنها عرضين مسرحيين للأطفال هما (السور المنيع) و(شجرة التفاح) حصلت عن أحدهما (جائزة أفضل ممثلة واعدة) في (مهرجان مسرح الطفل الخامس) عام 2009 وعرض مسرحي أعتمد لغة الجسد فقط هو العرض الموسوم (الروح والجسد) الذي حصلت فيه على جائزة (أفضل ممثلة جسد) في (مهرجان فاس الجامعي الخامس) المنعقد في المغرب عام 2009 أيضا؛ وهي ممثلة حرصت على التنويع في أداءاتها التمثيلية؛ ومثال ذلك تقديمها شخصية رئيسية في الأوبريت الغنائي (أولاد العم).
المبدعة البصرية (بدور العبد الله) تطمح الى أن تكون فنانة شاملة؛ بخاصة بعد خوضها لتجربة التأليف الدرامي والإخراج المسرحي من خلال تقديمها لمسرحية (حقنة) في (مهرجان نظران المسرحي – الدورة الأولى)(*)وتقديم (فرقة نقابة الفنانين/فرع البصرة) الذي أنعقد في البصرة للفترة ا2- 25 آذار 2022 وحصدت المسرحية جائزتي أفضل ممثل وأفضل ممثلة ؛ وكان لنا هذه الورقة النقدية الموسومة (حقنة الحقيقة) عن المسرحية ؛ والتي تمت قراءتها بعد العرض مباشرة :
- في زمن الأصنام .. تعددت الأرباب؛ ولم تعد هناك وسيلة لخنق الحقيقة إلا (الحقنة).
ضمن فعاليات مهرجان نظران المسرحي – الدورة الأولى: دورة الفنان المرحوم نزار كاسب؛ قدمت فرقة نقابة الفنانين/فرع البصرة؛ في ختام عروض المهرجان؛ عرضا مسرحيا بعنوان (حقنة) تأليف وإخراج (بدور العبدالله)؛ وإذا كان الجمهور المسرحي؛ قد عرف الفنانة (بدور العبدالله) ممثلة مجتهدة؛ فإنه يتعرف عليها أول مرة مؤلفة ومخرجة؛ وهو ما بعد اجتهادا جديدا للفنانة المذكورة.
نص مسرحية (حقنة) نص جريء يخترق التابو المقدس؛ ويعمد الى فضح الأصنام التي حولتها أحلام السذج والحمقى والأذلاء الى أربابٍ تقدم لها فروض الطاعة والتعبد، وهؤلاء الأرباب الذين خلقتهم سذاجة الساذجين وحماقة الحمقى تسيدوا المشهد وأخضعوا الجميع للظلم والقهر من خلال ممارستهم لأشد أنواع الأقصاء والتعذيب والتغييب؛ وبذلك فإن النص يعمد الى توجيه سهام نقدٍ نافذةٍ لما يشهده الحاضر الماثل من إقصاء وتهميش للصوت الآخر؛ ومحاولات لغلق كثيرٍ من منافذ الحرية والمجاهرة بالرأي الاخر.
وليس دفاعا عن النص؛ فإن من يقرأ النص قراءة عمودية متعمقة سيجد إن الأرباب الذين يشير لهم النص: هم الأصنام التي تحكمت بمصائر الشعوب وأخضعتها ظلماً وتعسفاً وديكتاتورية؛ إنها الأصنام التي تحولت – بفعل الأذلاء والأتباع – الى أرباب تعيث في الأرض فسادا وطغيانا؛ وأصبحوا يرون أنفسهم بديلا عن رب الرحمة والغفران… أنهم أربابٌ بلا رحمة ؛ أربابٌ لا يعرفون معنىً للإنسانية، وعندما يكون الأرباب على هذه الشاكلة؛ فإن البشر العابدون لهم يتخلون عن صفاتهم الإنسانية ويستبدلوها بصفات الوحشية والبربرية ؛ فلا الرجل يبقى رجلا؛ ولا المرأة تبقى امرأة ؛ بل يتحولان الى أدوات للتعذيب والإقصاء وإجبار الآخر على الخضوع من خلال إذلاله والكشف عن عوراته بطريقة لا أخلاقية ؛ وغير إنسانية بالمرة، لينتهي نص مسرحية (حقنة) بطرقٍ شديد على الأبواب؛ في إشارة لقرب اقتحام المقهورين والمضطهدين لأبواب السجون وإخراج من هم بداخلها ؛ وقد صاحب ذلك الطرق نداء تحريضي؛ تصرح به المرأة قائلة: ((هذا ما أستحصلناه من الرب وأتباعه ، كلنا محقونون .. كلنا محقونون .. إيها المجانين .. كلكم محقونون))(**)، وهو نداء يحرض جميع المضطهدين للثورة ضد من (حقن) حقيقتهم وإنسانيتهم وتعمد (حقنهم) بالوعود تلو الوعود؛ دون أن يحقق أي وعد منها.
هذا ما قالته مدونة النص؛ فهل استطاعت المخرجة وهي المؤلفة للنص نفسه أن تحول مدونتها النصية الى ثيمات مرئية تفصح عما أرادت مدونتها إيصاله؟
للأسف فأن مشاهدة العرض أحدثت قطيعة بين الفهم الواعي الذي قدمه النص وبين سطحية وسكونية الصور المرئية التي أنشغل بها فضاء العرض؛ فقد بدأ العرض – على خلاف البداية المتوترة للنص – بإيقاع مترهل؛ ولم ينهض ايقاع العرض إلا في وسطه؛ وتحديدا عندما خاطب الرجل المرأة معترضاً: ))عن أي ربٍ تتحدثين؟)) ( ***)؛ فبدى وكأن ما سبق هذا الخطاب فائضاً عن الحاجة. ومع أن خطاب العرض حاول أن يرسل بعض العلامات التي تومئ أو تشير الى فكرة النص الأساسية مثل : قزمية الشخصيات؛ والتأكيد على أن بعض الشعوب تحولت الى مجرد (خيال المآته) ؛ والإشارة الى عدم معرفة هوية الشخصيات وأصالتها؛ غير أن تلك العلامات لم تنجح في إيصال الرسالة التي حاول النص إيصالها ؛ ولربما تعد أفضل لحظات العرض جمالية وإيحائية وأقربها الى ما أستهدفه النص هي اللحظة الأخيرة في العرض التي تكشف عن شخصيتين في الخلفية لا نرى وجوههما؛ ولم يكن لهما أي حضور قبل تلك اللحظة؛ إذ كشفت تلك الصورة عن دلالة تعبيرية توحي بالآخر الذي تحكم بمصير الشخصيات وعمل على ضبط أيقاع حركتها وفعاليتها ؛ وتسبب في كل المآسي التي حلت عليها ؛ والذي كان يفترض بالعرض أن يقوم بتفعيله منذ البداية؛ غير أن المخرجة لم تتمكن من تفعيل هذا الآخر سوى في اللحظة الأخيرة؛ ما جعل عرض المسرحية يبدو وكأنه يتعكز على ساقٍ واحدة.
أما من ناحية مؤدي العرض فقد كشف العرض عن موهبة نسائية جديدة تخوض تجربتها الأولى على خشبة المسرح وهي الفنانة (انتظار حسن) التي تعد بالكثير من العطاء والتي ننتظر منها مزيدا من الإبداع؛ وكان أداء الممثل (علي الأحمد) اجتهادامتقنا لممثل يعرف كيف يوظف أدواته ليقدم شخصية مقنعة؛ وهو اجتهاد لا يختلف عما شاهدناه من إداء متقن وملفت للنظر في مسرحية أخرى عرضت في المهرجان؛ تولى هو إخراجها والتمثيل فيها؛ في الوقت نفسه.
ومع كل ما تقدم من ملاحظات كان القصد من وراءها تقويم العرض؛ فأننا نحيي صناع هذا العرض وكادره الفني؛ ونبارك للمهرجان وللبصرة ظهور موهبتين جديدتين كشف عنهما هذا العرض هما مؤلفة النص (بدور العبدالله) وممثلة العرض الرئيسية (انتظار حسن)؛ وننتظر من هذا الفريق ما هو أكثر أبداعا وألقا في قادم الأيام.
الإحـــالات:
*مهرجان نظران المسرحي: هو مهرجان مسرحي محلي أقامته نقابة الفنانين/فرع البصرة وعقدت دورته الأولى التي أطلقت عليها تسمية (دورة الفنان الراحل نزار كاسب) للفترة من 21-25/3/2022؛ و(نظران) هو حي شعبي من أحياء مدينة البصرة القديمة؛ لا زالت معمارية أبنيته تنطبع بطابع التراث البصري القديم.
**هذا المقتبس من نص المسرحية.
***هذا المقتبس من نص المسرحية أيضا.