علاقات الغياب والمسكوت عنه والاثار المغيبة…مراجعة في مدارات النص المسرحي ( انسالات) للكاتبة فاتن حسين… / حيدر جبر الاسدي*

يمنح نص مابعد الحداثة نفسه في عبور المتواليات التي تحمل معنى ابستمي واحد. لتتحرك باتجاه تجاوز العتبة التداولية كي يقرا النص بمسافات جمالية متعددة، مهشما افق التوقعات وان اقتربت مضامينها، او تجاورت مسلماتها، وبهذا يصبح النص قابلا للتحولات التاؤيلية، وفاتحا اذرعه للازاحات التي تولدها اللغة المجازية، باحثا عن المعاني الغائبة او المستترة او طبيعة التواصل بينها، لفك احجية النص المتمرد على النسق التقليدي العام ،

نص “انسالات” والذي أدعي أنه ينتمي الى ما ذكرت آنفا وهو نص مابعد الحداثة، يغري قارئة حين ينسل بين ثيمة الكائنة في المتلازمات اللفظية او تلك المؤشر لها والتي تحتاج الى فحص في الكشف، او ربما نبحث عن مكاشفة فوكوية لنغور الى الجذر او باطن الفكرة على رأي بينيتو جالدوس … الانسال ؛ هذا الريبوت الالي الذي يشبه جسم الانسان في الهيئة العامة، يا ترى ما علاقته بالنص، لماذا تم استدعاءه، كيف تم توظيفه، مالاهداف الرئيسية من وجودة؟ هذا ما سنتعرف عليه لاحقا بعد. ان نفكك النص .. تفتتح الكاتبة نصها بعريسين في غرفة النوم وهما يمارسان الطقس الشرقي لهكذا مناسبة، وربما لاتتمثل الطقوس جميعها الا انها لاتخلوا من الاشارة و الاثارة معا ، وهذا يعني ان ثمة حدث قادم مهول علينا الاتفات اليه،

الزوج : قالت لي امي اذبح لها القطة حتى تخشى المواء

الزوجة : قربان، قربان

الزوج : وهل ستذبحين الليلة شيئا؟

الزوجة : خرقة بيضاء ،

وهذه الخرقة هي جزء من موروثات طقسية ليلة الدخلة، وقد اشارت لها الكاتبة ولبعض المتواليات بحياء وانضباط عالي، وما يهمنا في هذه المسافة الجمالية ان التقديم وان بدء عفويا وهو يصور ليلة حميمية، لكن فيها من المؤشرات ما تجعلنا نتوجس رعبا من القادم.. ومن بينها القربان، والذبح و المواء وهكذا وكلها علامات تدل على ان عملية الزواج ليست طبيعية، وان الزوجة ستكون قربانا ولكن لاجل من ؟! ..

في نهاية المشهد .. يتحول مسار النص الى الحبكة الثانية حين تفرض الكاتبة شخصية الريبوت وهو يجسد الشكل الاخر للزوجة، حيث يبدا من الان الحضور ليحل محل الزوجة لتبدا علاقة الحضور والغياب بين الشخصيتين، الشخصية الانسية والشخصية الآلية، ومن هنا ستتمحور العلامات ضمن انساق خاصة في ممرات المسكوت عنه، وفي المشهد الثاني اقترحت الكاتبة غرفة المطبخ لتدور فيها الاحداث الاكثر تعقيدا، وبتقديري اختيار هكذا مكان اشارة الى ان العملية ستبدا طبختها من هذا الجزء المهم في البيت، والذي يغذي الكائنات الموجودة ،فهو اشبه بغرفة عمليات او مختبر او انعاش للفرضية التي انتهجتها الكاتبة في النص،

الزوج: تعالي نمارس (تنظر الزوجة له باستغراب) نعم نمارس لعبة اي لعبة

الزوجة: لا امارس اللعب علاقتك في أشيائي ليست كعلاقتي بأشياءك،

وهذه التركيبة بتقديري اخذت بعدين الاول اشارة ايروتيكية وخزت التعاقد الاجتماعي لايهام القارىء بذاتية الفعل، والبعد الثاني بيان اختلاف حركية الشخصيتين واهدافهما، وان كل واحد منهما له مساره الخاص في التعاطي مع الاحداث، ثم يسير الحدث الصاعد في النص ليصل الى مرحلة التوهج..

الزوج: هل تنتفضين اليوم ؟ ما عاد لانتفاضك قيمة ،

الزوجة: بذوري ايقنت انك لست بمائها

وهي اشارة على الخلاف الجذري الذي لايمكن ان يحل او من الصعب حله،

الزوج: بل بذورك متيبسة لم يكن لها ان تنمو

هذا الجدل الحاصل بين الزوجين حتما سيفضي الى نهاية دراماتيكية ، بوصفه _ اي الجدل_ تقاطاعات حادة في الرؤى، وبتقديري الثيمة المركزية ما زالت لم تتحرك الى الان وما نثرته الكاتبة من علامات هي حسبما اراه تاسيس للعلامة المركزية التي ستاتي لاحقا، والعلامة البؤرية التي اجدها في نسق هذا النص هي الريبوت لا لمجرد انه شاخصا بدءا من بنية العنوان الرئيس بل لانه اخذا نسقا محايثا وجوهريا لمجرى الاحداث في المشاهد الأربعة للنص ، وقد اخذ معاني متعددة بحسب تمظهرة الآني في الزماكانية المعلنة او التركيبة السياقية او الازاحات المتمثلة في المخيال الذي يستلم اشارات الارسال المفتوحة، وفي كل الاحوال، فان الريبوت اتى مرددا لذوات الشخصية ثم متمثلا لشخصية / الزوجة كبديل ايقوني، او انه صدى انعكاسي للافعال، او انه شاهد على الاحداث، بل وصل الحال بان علاقته بالحضور والغياب تكاد تكون متماهية، وقد اوخزت الكاتبة بهذة الفرضية الذاكرة الجمعية للقارئ، بوصفه اي الر أحدث تمثلات عقلية شارحا مصير امة حين تكون مجرد ريبوت تبوق وتجتر ما يحدثة المهيمن شاءت الامة ام ابت ، وبهذا غطت الكاتبة مساحات المسكوت عنه بفعالية الريبوت لتثوير العلامات الفرعية التي كشفت النسق الدرامي للنص والاثار التي خلفها هذا النسق في مرجعيات القارئ بوصفه عرى المنظومة القيمية التي احاله المهيمن لتكون الشخصيات فاقدة لها ولا تملك لنفسها سوى ان تكون ببغاء لتستمر في جحيم الحياة لكي تتنفس ليس الا ،

الزوجة: ابواب ليس لها مفاتيح

ريبوات:  ابواب ، ابواب ، ابواب

ثم تنقلنا الكاتبة الى غرفة صغيرة لتحاكم الزوج عبر استدعاءها شخصية الاب الذي يمثل الميراث ، والتاريخ ، والنسل ، والجذر الخ ، لتصور لنا جدل الزوج المهيمن بوصفة سلطة قامعة داخلية ، وان كانت علاماته ممتدة الى ابعد.من ذلك ،

الاب: اين وريثك  ..

الزوج:  اين ثروتك ، انا وريثك

فالاب هنا ايضا يمثل القيم والاخلاق والتعقل والضمير وصوت الحق ، حيث يحاول ان يوقض الزوج من سباته وافعالة التي لم يرتضيها الاب، لكن دون جدوى، والفعل الذي قام به الاب اتجاة الزوج وهو دفعه والخروج من المكان دليل على عدم الرضا، وبالتالي ان ما يحدث من افعال هي خارجة عن جميع السياقات الفوقية والتحتية معا، ثم تجمع الكاتبة شبكات العلامات وعلائقها لتفجرها في المشهد الاخير امام القاضي وهو يستجوب الزوج لينتزع منه اعترافات بقتل زوجته، والزوج يؤكد بعدم قتلها من قبله، وان زوجته حية وهو يشير الى الريبوت دلالة على تحول جميع الشخصيات الى ريبوت وهذا واضح حينما تصدمنا الكاتبة بان القاضي نفسه هو ريبوت ولايجوز له المحاكمة اصلا، …

الزوج: هي كانت كائن بشري تحولت تدرجيا الى ريبوت آلي

القاضي:  كيف تحولت تدريجيا،؟! .

وهنا بتقديري بيت القصيد .. وهو حين يتحول الانسان الى ريبوت آلي مسلوب الهوية والسيادة ، وخاليا من القيم الانسانية وكل ذلك ياتي بفعل فاعل وان كان تدريجيا كما وصفته الكاتبة معناه ان الانسانية تذوب ولا وجود. لها وان رسالة السماء في خطر كبير ..ويمكن لنا ان نضع بعض المؤشرات في سياق النص وهي على النحو الاتي:

اولا.. غرابة الحكاية وفانتازيتها متأتية من تداخل الشخصيات الأنسية والآلية .

ثانيا.. منح التداخل أعلاه مسافة جمالية للكاتبة في أن تبث حزمة من العلامات تغلق الثيمة المركزية للنص ثم تحاول ان تبعث بالصدمة المرجعية للقارئ.

ثالثا.. كشف النص واقع أمة مزيف حينما تحوله قوى مهيمنة من انسانيتها الى مجرد آله او أن طبيعة الحياة حولت الإنسان الى تلك الآلة فسلبته كل ما فيه من قيم انسانية عظمى اوجدها الله قيه كجزء لايتجزا من سيرورته الانسانية والتكوينية .

رابعا..اسبكت الكاتبة فيرتاجية النص _ ان جاز لنا التعبير _ ولم يكن ثمة ازاحة او تهلهل خارج عن نطاق المعاني المقررة .

خامسا.. استنطقت الكاتبة الموروثات الشعبية وحافظت عالى المسافات التقليدية بينها ، كما انها جسرت العلاقات بين الحضور والغياب بتفعيل اسس التعاقد الاجتماعي. .

سادسا.. فعلت الآثار المتراكمة جراء هكذا تحول في الاحداث وما يلقية من تباعات في شتى المجالات على الانسان المعاصر.

سابعا…خرقت حدود المسكوت عنه ودفعته باتجاه الهدف ضمن نسق جمالي دون ان يخدش الآخر ..بل هي قراءة صياغية شظت بعض الترنيمات المغطاة في نسق الحياة اليومية والأمثلة في النص موجودة لكنها مغطاة بجهاز لغوي مجازي غلبة عليه الشاعرية والفلسفية لتحافظ بها الكاتبة على المسافة بين ماتطرحة وبين الآخر ..وقد اصلت لذلك الفعل وتجاوزت كافة الموانع بجمالية عالية..

ختاما كشف هاريس “بان مفهوم الخطاب فرض نفسه على اللسانيات انطلاقا من كون التحليل اللساني التقليدي قد يؤدي إلى قصور في فهم ليس النص فحسب بل حتى في فهم الجملة ومكوناتها نظرا لعلاقة الترابط القوية بين مكونات الخطاب، بما في ذلك المكوّنات الخارج ” ، لذلك فان ما قمنا به هو البحث عن تلك العلاقات لاجل تعضيد الخطاب المرسل الذي نعتقد  بانه الاساس في صياغات النص اعلاه..

ملاحظة: نص ( انسالات) فاز بجائزة وزارة الثقافة العراقية / دائرةالعلاقات خمس نصوص تبحث عن مؤلف ..

 

*حيدر جبر الاسدي / مخرج وناقد مسرحي عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت