جيفارا يستيقظ متأخرا / سعاد خليل
من البديهي والمعروف لدينا في حالات المسرح وكيف يستنبط احداثه ومواضيعه من الواقع والمجتمع وكيف المسرح يمثل الجانب المهم في الحياة الاجتماعية ..
فالمسرح عادة نجده يدافع عن الفرد او الانسانية بشكل عام ويؤكد ذاتية الإنسان على مدي العصور.
هذا تعريف يعرفه الجميع من يهتم ويتابع الحركة المسرحية الابداعية في كل مراحلها ..
وأنا اقرأ نصا مسرحيا للكاتب والمخرج منير راضي وللمرة الثالثة حتي أحاول الغوص في عمق الفكرة، نصا بعنوان: “جيفارا يستيقظ متأخرا” وجدت نفسي أمام حالة جديدة من حالات الإبداع في تقديم شيء لإعادة تشكيل الواقع وبنائه وكيف يستعرض بشكل رمزي ومباشر للحياة ومعانيها وتضاداها ومعادلاتها الصعبة التي نحتاج إلي محاولات للغور في مراحلها المختلفة المليئة بالأحداث الموجعة والأليمة التي يعيشها واقعنا في زمن الحروب وزمن العولمة والتكنولوجيا المختلفة في أدوات الحرب المسلطة علي الشعوب البسيطة واستباحة كل شيء.
فأحداث المسرحية تشكلت ملامحها لتقدم شكلا من الرفض والاحتجاج ضد من اغتال حرية وحقوق الانسان فلنبدأ بعنوان النص “جيفارا يستيقظ متأخرا” فالنص فيه تجاوز ثقافة الاستهلال التي تجذب القارئ، وتستفزه ليطالع مضامين ومعاني النص وفي مستهل المسرحية التي استخدم فيها شاشات العرض وكل شاشة لها مدلولها واسقاطها وكيف وظف شخص إلى ( وهو من يبادر بالحوار وربما يعني به الكاتب العولمة او التكنولوجيا الحديثة الساخطة علي الانسانية) .
الكاتب والمخرج منير راضي في هذا النص المختلف في فكرته ورؤيته الاخراجية له وكيف يتحول من شخص لآخر من خلال شخوص المسرحية ليصورهم ويبين من خلالهم فكرة الواقع واحداثه وشخصيات هذه المسرحية والتي تتمثل في بدايتها علي ( هو – هي ) وهم من تدور حولهم احداث العمل وكيف يوظف توهج هذه الشاشات وتقنياتها علي الخشبة في الحوار المسرحي ويبين ويربط بين النفس الممزقة لواقع اكثر تمزقا وكيف خطرت فكرة استيقاظ المناضل جيفارا وسط هذه الفوضى من خلال الحوار .
لنستعرض بعض السطور :
جيفارا: ان المشكلة تكمن بعدم خلق توازن بين الانسان والآلة، بين الذكاء الطبيعي والذكاء الاصطناعي ، عدم التوازن يزيد من قوة الانسان بسبب استعماله لتلك العوامل المساعدة التي من شأنها ان تنقلب ضده وتغير من سلوكه ونمطه الطبيعي فأصبحنا آلات مهنية عبثية, الا انني حررت ذاتي من هذا الاستعباد والاستلاب
هي: أني اسمع طنين يلف عقلي, من انت, من أنتم, اني عاشرت كل شياطين الارض فوجدت ان صورهم لا تختلف عن البهيمة والآلات
هو: رأسك محشوة بالرذيلة وانفاس قبتك النتنه تعج بالمكان, المشكلة اني لا اعرف كيف وجدت نفسي هنا وسط هذا الهواء الفاسد, من انت ومن انتم كنت اتصور انه هذيان وهلوسة عابرة بفعل الأبالسة
الرجل الآلي: ( يجمع الصور مع بعضها وهذا يتم من خلال المونتاج, فينبهر كل منهم بالآخر) ما انتم الا كاريكاتير يقال عنه فن الاختزال العميق و السخرية المرة الفاضحة , أنتم كالحن والبن في اقدم المخلوقات اطلاقا, افسدتم ملح هذا الكوكب لقد صبرنا عليكم كثيرا
هو: من انت ايها المسخ الوجودي حتى تتكلم عن علامات الخلق ويوم الحشر والنشر، أأنت من تحدد مصير البشرية ونوازع النفس الأمارة بالسوء ايها اللعين.
هذا جزء من حوار في بداية النص. ولو تعمقنا اكثر لنجد ونكتشف كيف ( هو – هي ) عبر الزمان وعصر العولمة وما فيه من قوي وعلاقات براغتمنية فاتحة وحيث المرأة تمثل القوة الاضعف في سباق قوة الرجل. وهنا ربما تكون المرأة هي الوطن المستباح. عدة تساؤلات تطرح في هذا النص وعدة استنتاجات وتأويلات الكل يفسرها حسب فهمه وتحليله للنص.
اتكأ الكاتب علي تقنية الداتاشو في طرح فكرته المسرحية مما حاول ان يبين مكنون الشخصية المجسدة لهذه الفكرة وما تبعها من احداث مستخدما التقنيات البصرية التي حاول ان يضمنها ضمن ديكور المسرحية وشكلها التشكيلي.
تداخل يتجاوز الازمان في رحلة العرض وكيف يستدعي جيفارا ليكون طرفا في احداث العرض فهو يمثل الثورة والحدث الملحمي. ورغم هذا فهو جريح ولا يستطيع الوقوف. فموقف الماضي في مجريات الحاضر رغم تعامله وفق تواجد منحي لا يتفاعل بجدية مع صيرورة الاحداث فكانت غرفته تتعرض للرصاص وصوته متقطع وجعا. هذا جيفارا
وتتواصل احداث المسرحية بالسرد الدرامي الجميل عبر خيال وصور يجسدها الممثلون عن طريق تواجدهم علي الخشبة وايضا من خلال شاشات العرض .
لنطالع هذا الحوار بين هو – هي :
هو : (وهو مغمض العينين ويدور في ارجاء الغرفة ) غفرانك فأنت الغفور
هي : من الذي جعل منك داعيا وظهيرا للحق المزعوم
هو : ( وهو يدور في مكانه) اللعنة عليك يا امرأة
هي : من وكلك على رقاب الناس
هو : يا رب ,ان لسان هذه المرأة معول ينبش في نار جهنم
هي : من منحك الوصايا المطلقة على بني جنسك من البشر
هو : لا خبز لكم في مائدة الرب ولا شراب فأحزموا امتعتكم للهشيم
هي : بل وصل بكم الحال تحكمون حتى على عورة الحيوان بالعهر المفضوح
هو : انها تفتض بكارة الاديان كلها بكلامها الفاسق هذا
هي : انتم من اوجد للديك بيضة
هو :انها ترقص بنشوة المعاصي ووجها الغاصب للحياء لا رادع له
هي : انتم من صنع التهمه وتفاعلتم معها بحجة الشرع والبينة والحجة فوق رقاب المساكين
هو :(يجهش بالبكاء) قد قيل ايتها السماء اقلعي ويا ارضي ابلعي, لسان هذه المرأة طوفان تفتك بشرائع الرب
هي : الدين كله للرب
هو : يا رب, انها صوت غراب ينشد لعلوا غبار الموت
هي : والارض متسع لخطايا البشر, يصعد منها ما صعد ويفنى منها ما نزل
هو : انها تتقول زورا وبهتانا
هي : السماء تذرف الدمع بالمطر لتحرث في الارض طهرا
هو : انها تحنث بملكوت الرب
هي : ويحط معها عناوين الرحمة والمغفرة, ( صمت ) هذا ما تعلمته.
هذه بعض السطور وهناك الكثير الذي يبين استعمال واستغلال الدين في مارب خاطئة .. سنرجع اليها بعد ان نطالع كيف الرجل وابنه استباحوا الفتاة وكيف يرد الراجل علي ابنه عندما يعلم انه انتهك شرفها
الرجل: ( ينظر الى وجه الابن الذي شاح بوجه الى الجانب الاخر, صمت مريب) أقول, لا مزاح مع القدريات فأن شاءت ستكون لا محال, ولكن انتم ترون في كلامي فيه بعض الغرابة, يا ولدي نحن نعيش في زمن الهجنة, قضيتنا تسقط فيها كل شرف النواميس, فلا عليك ان كان احد الولدين ابنك او اخوك وعليك ان تتجرع الامرين معا, ولكن حسب لوائحنا, لا اشكال في هذا الامر
(الشاب يبتسم ثم ينهض الاب ويتحرك نحو الابن ويتعانقان بحرارة )
يا لقذارة الموقف، فهنا نجد النص يلقي بظلال ازمة علي حال المجتمع بصورة عامة ، طبعا لا اريد ان اسرد حوار المسرحية واحداثها التي تعتمد علي الصورة التقنية في توظيفها في تلخيص الاحداث لتجسد المأساة وتنمي الرغبة في اللحاق في تطورات حركة النص .
نص مسرحية ( جيفارا يستيقظ متأخرا ) يتجلى فيه الصراع بعناصره النفسية التي تألفت كي تصنع انهاء الحلم.
اقول رغم اني لست بناقدة متخصصة، ان هذا النص بفكرته ورؤيته الاخراجية في التنفيذ وسينوغرافيا الفضاء المسرحي التي لم تغب عن ذهن الكاتب حيث صور بيئتين لجغرافية المكان الاولي تعتمد علي شاشات العرض، والثانية تعتمد علي فضاء تشكيلي حسب رؤيته الاخراجية. وهذا يوضح مهارة الكاتب والمخرج منير راضي وهي تمثل عنصرا مهما من نجاح العمل وتحليله. كما نلاحظ ان هذا الكاتب اتخذ منحي جديدا في الكتابة المسرحية تفرد فيه لوحده من خلال اسلوبه وفكرة استحضاره لشخصيات من الماضي ومن الميثولوجيا. ليصنع نصوصا مسرحية متطورة في طرحها وما يتلاءم مع البني التقنية الجديدة.