نص مسرحي: “الهيدوف …سلالم العتمة العمياء….” / بقلم: محمد الكامل بن زيد
موندرام
النص مسجلة حقوقه
” الحياة حرب، حرب مع نفسك، حرب مع ظروفك، وحرب مع الحمقى الذين خلقوا هذه الظروف .”/ فرانز كافكا
الرؤيا:
الهيدوف : رجل في العقد الخامس من وجعه
المنظر:
غرفة عتيقة آيلة للسقوط .. في الأصل كانت مخزنا قديما من مخازن شركة مفلسة..تقع بمحاذاة ميترو الأنفاق..أثاثها بسيط جدا..سرير وطاولة ومقعد خشبي يتحول إلى سلم قصير عند الحاجة..على الطرف الأيسر للغرفة مرآة خشبية من طراز قديم مكونة من ثلاث قطع مجزأة تصاعديا حسب الحجم ..كراتين مختلفة الأشكال تحوي كتبا موزعة في أرجائها ..
ملاحظة توجيهية :
في تحريك الشخصيات التي تظهر في المرآة يمكن الاستنجاد بتقنية خيال الظل.
( يسمع صوت جهوري قادم من خارج الغرفة يبدو عليه الانفعال الشديد)..
أيها الناس..أيها الناس..أيها المشاؤون بلا أمل، بلا أفق، بلا غدٍ..احذروا أن تدوسوا الأوراق..أوراقي ..اخفضوا رؤوسكم عن السماء حتى تنتبهوا لها..لا تجعلوا خطواتكم كخطو الغربان ..لا تجعلوني ألعنكم وألعن أحذيتكم ..لا أريد أن أقول: الخشنة..لا أريد أن أقول النتنة ..الـ…الـ…الـ…
(يسمع صراخ وصياح وصوت وقع حجارة تقذف في الطرقات)
يا أنتم..نعم ..أنتم ..أنتم ..ليس أنا من تذوب صرخاته كما يذوب الملح في الماء..ليس أنا من تذهب صيحاته إلى قاع الجحيم..نعم ..ليس أنا ..هيا ..هيا ..ارفعوا أحذيتكم عن أوراقي..
(يسمع صوت ضحكات هيستيرية)
يا أنتم ..نعم ..أنتم ..أنتم ..ظننتم أنها كغيرها ..أوراق عادية ..لا ..لا ..أخطأتم الظن ..هي أوراق منبتها أصيل تفوح منه رائحة طيبة..و ليست كمثل أوراقكم ..أوراق زيف..خداع..أوراق الرهن الكاذب والغش الأبدي..أوراق سحر ودجل ..أوراق اليانصيب والبوكر..أوراق المراحيض والبالوعات ..أوراق..أوراق .. ماذا عساني أن أقول؟! ..نتنة مثلكم !!
يا أنتم ..أيها السائرون مع عبث الأقدار..أيها العابرون عبور الظلال الفانية ..إن لم تنتهوا من احتقاركم بعفسكم لها سأظل أطاردكم بالحجارة والحصى ..هي ما أملك من قوة إلا أنها ستهزمكم وتقهركم ..ستجعلني أنا الأعلى وأنتم الأذلة ..نعم أذلة..
(يسمع صوت كأنه تشابك بالأيدي مصحوبا بالكثير من اللغط والشتم والقذف )
يا أيها الناس ..يا أنتم ..ليس من حقكم أن تدوسوها..دعوها وشأنها أنا من يحملها ..أنا من يسعى خلفها ..لا أرجو مساعدة أحد منكم ولن اسمح لأي كان أن يلمسها ..فأنتم لن تعوا ما فيها من أنفاس ملتهبة وآهات متقدة ..من أوجاع قاتلة سكنت هذا الجسد المعذب بالكلمات ..هي أعز ما أملك في هذا الوجود ..
لا يا سيدي ..يا أنتَ ..لا يا سيدتي ..يا أنتِ ..ماذا دهاكم ؟!..اللعنة! ! ..ما تفعلونه ليس عنادا بل تبجحا..إنه..إنه..عمي مقيت وعدوان صارخ ..إنه ظلم وافتراء.. هيا.. هيا ..ارفعوا أقدامكم عن فؤادي ..عن أحزاني ..عن أحلامي ..عن ذكرياتي ..عن طموحاتي..
أيا عديمي الإحساس..أتعتقدون أني سأتوسل اليكم ..مستحيل ..مستحيل..شاهت الوجوه ..وعميت الأبصار..
هكذا أنتم ..إذا ما ترجاكم أحد ظننتم أنّ به ضعفا وتوسلا ..لا.. هيهات ..تلك أوهامكم وأمانيكم ..أنا أقوى منكم ..أنا أفضلكم حالا ..أنا الأعلى وأنتم الأذلة ..لا تغرنكم ثيابي ولا تسريحة شعري ولا هزال جسدي ..ولا جحوظ عيني ..أنا أملك ما لا تملكون..أنا أملك القلم والأوراق ..أملك الشمعة وبصيصها وأنتم تملكون الدهاليز المعتمة..
(تسمع خطوات سريعة غير منتظمة كأنّ صاحبها هارب من شيء ما ..يدخل بعدها الهيدوف وقد أصابه الإعياء والتذمر محملا بأوراق في يد ويتتبع في ارتعاش ما سقط منها بعد أن حملتها ريح خفيفة إلى غرفته ..)
الهيدوف : (ناظرا إلى الباب خلفه في غضب) نعم أنا أفضل حالا منكم وسأبقى أفضل حالا ..(يضرب بيده الحاملة للأوراق على صدره وفي خبث يصرخ) نعم أنا الأعلى وأنتم الأذلة (يتأمل الأوراق بين يديه ثم يتحسس جسده كمن يتأكد من سلامته) أقلها أنا أفضل منكم فكرا وجسدا (يتوقف برهة كمن تفطن إلى أمر ما) عجبا ..عجبا..هل عادت الأوراق إلى الغرفة كمثل السكير يعرف باب منزله؟!..(تنتابه نوبة ضحك)..نعم ..نعم ..لقد أدركت سيرها إلى الغرفة..ولن استبعد أن أجدها بعد لحظات قد تسلقت الطاولة حيث مسكنها.. (يصمت قليلا ثم يستطرد) نعم ..أجدني اعترف بأنه ليس من اللائق أن أنكر فضل الريح التي انتفضت تمد يدها إلي وإلى الأوراق حتى تصل إلى مستقرها الآمن..وإني أشهد رب السموات والأراضي السبع أنها كانت أفضل بكثير من تلك الوجوه البائسة الساكنة الشوارع المتسخة ..شكرا لك أيتها الريح لأنك كنت أكثر عطفا من القلوب القاسية..شكرا ألف شكر..لا بل مليون ..ترليون شكر (يقوم بحركة شكر وهمية ثم يضع أوراقه فوق الطاولة ثم يتهالك على سريره منهكا ..يحاول أن ينزع حذاءه لكن قواه تخونه فيكتفي بالتمدّد والتحديق في الفراغ زمنا متأملا السقف ).
الهيدوف: هذا السقف اللعين ..لن يتغير لونه مهما فعلت ..سيبقى داكنا ..كلما سعيت إلى تبييضه إلا وكان الفشل نصيبي..جعلني أراه غصة في حلقي..(يتحسس حلقه مخرجا لسانه عدة مرات) غصة متوحشة تسلب أفكاري صفوها، فيغشاها ما يغشاها ..من سبقني في الغرفة قبل رحيله الأبدي ترك لي قصاصة صغيرة كتبها بخط متعرج ..”أيها القادم بعدي لا تحاول طلاء السقف فيذهب عملك هباء منثورا ..”.. نعم ..هذا السقف الرابض فوقي.. يستفزني دوما كلما أبصرته.. نعم ..هذا السقف الرابض فوقي.. يجعلني أشعر كأني لست الأعلى ولا هم الأذلة ..بل إنه يتمادى فيجعلنا في كفة واحدة ..إنه يسحبني معهم إلى الأسفل ..قاع الجحيم
( تأخذه حمية فيأخذ المكنسة ثم يقوم بتحويل المقعد إلى سلم محاولا الوصول إلى السقف ..ساعيا في جهد عظيم إلى تقشيره عبر خطوط قاسية لكن لا شيء تغير ولا أثر يبدو فقد باءت محاولته بالفشل ..)
الهيدوف: (صارخا) اللعنة ..اللعنة ..محاولة أخرى فاشلة ..(يضغط بأصابعه على المكنسة آسفا ) ..لا يحق لي أن أنكر فشلي هذه المرة أيضا ولن أنكر على الرجل صدق وعده..لا زلت إلى الآن أتساءل..كيف تفقد بوصلة صبري اتزانها كلما رفعت رأسي؟!..وماهية ذاك الشيء الذي يستثيرني كي أصعد إليه مرة تلو أخرى ؟!..حاولت طويلا أن أتبينه فلم أفلح ..بل أصبح فعل الصعود بالسلم إلى السقف فعلا لا إراديا كلما تبصرته ..اللعنة عليك أيها السقف ..اللعنة عليك
(يرمي المكنسة ثم يعود إلى مكانه محاولا أن يغفو قليلا ..هاته الاغفاءة لم تدم الا هنيهات ..إذ انتفض فزعا على صوت قطرات الماء المندلقة عبر النافذة الوحيدة المطلة على الطاولة وهي تبلل الأوراق )
الهيدوف: تبا..تبا ..هل هذا أوانه..؟!
(يسرع إلى الأوراق يرفعها عن الطاولة ويوزعها على الأرض ورقة ورقة ثم يأخذ المقعد السلم ويقوم بغلق النافذة، ليعود إلى الأوراق ينشرها فوق الحبل المتدلى في الجهة اليمنى من الغرفة )
الهيدوف : هنا أضمن نشرها .. هنا أضمن أن الصراصير والجرذان ستقرأها
(يضحك طويلا ثم يخرج فتات خبز قديم من جيبه وينثره على حوافي غرفته )
الهيدوف: ربما صدق القائل ..املأ البطن قبل العقل ..(يتوقف عن نثر الفتات لحظة ثم يكمل) لكن الذين هم في الأعلى لم يملؤوا لا البطن ولا العقل ..بل أرهقونا بتناقضاتهم وهوسهم..حتى أنهم أفسدوا أفكارنا وأذواقنا ..كل شيء عندهم هالك ومحرم إذا أدركه العامة وما دون ذلك فهو الحلال ورزق عظيم
(ينظر مليا إلى الأوراق وإلى السقف وإلى النافذة نظرات أسى ..وبنوع من القهر يتحرك في المكان)
الهيدوف : يا عجبي.. يا عجب الناس لا شعور.. لا إحساس..أما كان لرجال النظافة أن يحترموا خصوصيات الغرف الكهفية ..أما كان بمقدورهم أن يتجاهلوا هاته القطعة من هذا العالم فيتركوها دون تنظيف..قلت لهم محيطي انظفه أنا وحدي وعلى مسؤوليتي لكن هيهات..لا حياة لمن تنادي..( يمسك بأوراقه المنشورة مستدركا) أكيد..الذنب ليس ذنبهم فماهم إلا أناس بسطاء يؤمرون فيطيعون..(يهز رأسه هزا خفيفا متسائـــلا)..ربما هم أيضا مثلي أحلامهم مملوكـة من قبل القادميــــن بعد ساعة أو ساعتين..(في انفعال)..أجزم أن مسؤولا كبيرا أو سيدا من أسياد هاته المدينة الملعونة سيمر من هنا، وسترهقنا أبواق سيارات الشرطة..الدرك وسأسمع كالعادة شتائم العامة لأن مصالحهم تعطلت ..فمن أجل خمس دقائق تتوقف حركتهم اليومية..ومن أجل خمس دقائق أغرق أنا ..وتغرق أوراقي.. أحلامي (يصرخ عاليا) يا سادة..يا أنتم ..يا كرام ..ارحموا من في الجحور ..القبور.. يرحمكم من في السماء ..(يحاول أن يكرر جملته لكن صوته يضيع فلا يسمع ..إذ يتقاطع صراخه مع صوت ميترو الأنفاق فيستشاط غضبا)
الهيدوف: (بعد أن يتلاشى صوت الميترو) هذا ما كان ينقصنا ..
(أبواق سيارات الشرطة والدرك تقترب شيئا فشيئا فيدرك الهيدوف أن المسؤول أو السيد قد اقترب من المنطقة )
الهيدوف :(يضحك في خبث) أكيد ..صاحبنا وصل ..
(يتحرك الهيدوف خلف الأوراق المعلقة بالحبل ..وقد تقمص دور صحفي جاعلا الأوراق كأنها حشد بشري من العامة، الصحفيين وأعوان الشرطة..)
الهيدوف: (يتنهد في تشاؤم وتذمر)..أووووف..كيف لي أن أراه وهذا الساتر البشري يقف حاجزا بيني وبينه..(ينادي بأعلى صوته)..يا سيدي .يا سيدي .. (يجاهد في رفع صوته لكنه لم يكن كافيا ..يتساءل في نرفزة) سحقا ..أنّ له أن يسمعني وسط هذه الجلبة..؟!
(يحاول أن يخترق الشريط البشري فلا يقدر، فيستعين بالمقعد السلم حتى يستطيع رؤية المركب السامي، الذي ما إن يتوقف حتى يبادر الهيدوف المسؤول أو السيد بالأسئلة ..)
الهيدوف: سيدي.. سيدي.. أسئلتي مختصرة ومباشرة ..نحن الصحافة لا نريد إلا الحقيقة التي تشفي الغليل وتسد الجوع وتطمئن النظرة التائهة ..سيدي لكم كل الحرية فأنت مع السلطة الرابعة..هي يدكم الراعية ويد العامة الواعية.. سيدي هاكم أسئلتي ..عفوا ..أسئلة العامة الواعية ..هي فيض من خاطر قلق متعطش..
( دون تردد يبدأ في قراءة الأسئلة من القصاصات)
لماذا كل شيء في هذه المدينة أصابه الوجع؟ !
لماذا كل شيء في هذه المدينة هالك ؟ !
لماذا كل شيء في هذه المدينة بائس ؟ !
لماذا الأطفال في هذه المدينة حين تأتـــون أول مرة يسدون الفرح وإذا ما رحلتم يسدون الفجيعة ؟ !
لماذا النساء في هذه المدينـة يحبون الزغــاريد نهارا وتحبون زغاريدهم ليلا ؟ !
لماذا كل الأوراق في هذه المديــنة لا عنــوان لها ومبعثرة في كل مكان ؟ !
سيدي ..سيدي
(الهيدوف يتحسس قفاه إثر صفعة مدوية وصوت خشن يرن في أذنه :
لقد تجاوزت حـــدودك..ألم تتعلم من أوراقك أن الأسئلة الكثيـــرة ترسل أصحابها خلف الشمس ..؟
(الهيدوف لم يفقه شيئا..يشعر بدوار عظيم ويحس بأن كرامته قد ذلت وعرفت الحضيض فيحاول أن يمسك بالسلم حتى لا يقع ..
(الصوت الخشن يرفع صوته عاليا :
أم أنك نسيت ..إن كنت مصرا ..نذكرك؟
الهيدوف : (في ارتعاش) لا..لا أريد أن أتذكر شيئا ..(في تلعثم ) أنا..أنا فقط أردت أن أنوّر فكر العامة بما يقومه به السادة ..
(يعم المكان ظلام دامس إلا من بقعة ضوء تتبع خطو الهيدوف الذي بدا كأن على رأسه الطير..يقترب من المرآة الموضوعة في الطرف الأيسر للغرفة ثم بصوت بائس كأنه يحدث صبيا يظهر داخل الجزء الأيمن من المرآة ..)
الهيدوف : ألست أنت من قال لي احلم ..احلم ؟!
صوت الصبي: احلم ..احلم
الهيدوف: ألست أنت من قال تخيّل ..أبدع؟!
صوت الصبي: تخيل ..أبدع
الهيدوف : ألم تقل اكتب ..اكتب؟!
صوت الصبي : اكتب ..اكتب
الهديوف : ألم تصر بأن من يكتب يبدع يتخيل فهو حي يرزق ؟!
صوت الطفل : حي يرزق ..حي يرزق
الهيدوف 🙁مرددا الجملة عدة مرات) نعم أنا أكتب.. أنا أبدع.. أنا أتخيل
(الهيدوف تتلبسه هالة صوفية مع تناغم ما يقوله بصوت شجي فيأخذ بالرقص الصوفي “رقصة الدراويش المولية” زمنا ثم يتوقف ويقترب من المرآة ليضع يده عليها كأنه يلاطف الصبي )
الهيدوف: لكني يا صديقي ..يا أنا..حلمك اعتبروه دروشة ..جنون ..(يضحك طويلا) ..والحمد لله أنهم اعتبروني مجنونا..درويشا..وإلا كنت منفيا خلف الشمس ..(ثم في انكسار ممزوج بابتسامة مصطنعة)..أتدري يا صديقي أنا لا أخاف أحدا؟ ..لكني ما جبرته في هذه الحياة ..يجعلني أومن بأني سأجدني وحيدا لو واجهت الطواحين ..فالمقولة الشهيرة “قلوبهم معك ..سيوفهم عليك” لا تزال راسخة في ذهني..(يصمت قليلا متأملا المرآة ثم ينتفض كمن تنتبه إلى حاله فيرفع يده عنها ويتراجع خطوة إلى الخلف) يا صديقي ..شئت أم أبيت فليس مجبر عليك أن تصدقني لكنها الحقيقة ..أقسم لك ولهم (يشير إلى الأوراق) ولكم أنتم أيضا (يشير إلى الجمهور) هو الهدوء الذي يسبق العاصفة ..(يعدّل من ثيابه ويمسح شعر رأسه) أنا لا زلت أعلنها باصرار أنا الأعلى وهم الأذلة ..أنا الأعلى وهو الأذلة..
(يشعر بألم يخز قدميه من أثر الحذاء فيسرع إلى السرير محاولا نزعه لكن الحذاء يستعصي عليه فيغضب غضبا شديدا ..)
الهيدوف : (يتأفف كثيرا) كم سئمت هذا الحذاء اللعين..”سيرتي العطرة في أوحال هذه المدينة العفنة”..
(ثم يقترب أكثر من الجزء الأوسط والأكبر شكلا للمرآة ..متخيلا شيخا عجوزا وهو يحرك فنجانا)
الهيدوف: (متأوها) تبا !!..اللعنة!!.. صدقا أنا إلى حد هذه الساعة لا أدرك ماهية ما حدث لي؟! ..هل غابت فطرة الذكاء عني ساعتها وتملكني الغباء..هل كان لي أن أكون كمثل التائه الملعون في بحر الظلام فانساق خلف سراب واهٍ؟! .. ما زلت غير مصدق ..كيف لأقدامي أن تساق إلى عتبة ذاك الشيخ العجوز ؟!..كان الشيخ وحيدا في هذا الشارع الطويل ..وكنت وحيدا أيضا..لا أحد يعرف الآخر وبيننا مسافات الاحتراق..لم يسلم ولم يرد السلام..نظرة واحدة منه ألقت قميص دم يوسف في الجب..
صدى الصوت الخشن يتردد مرة أخرى:لا ليس سرابا واه..كنت أنت الذئب وكنت أنت قميص يوسف…وإذا كنت تدعي فقدان الذاكرة جئناك بـ….
(ينتاب الهيدوف خوف شديد فيتراجع خطوات حتى كاد يسقط )
الهيدوف :(مقاطعا في تلعثم) لا..لا .. أرجوك لا ..لا أريد (يتحسس رقبته) هذا حلم ..هو حلم (ثم يدور حول المرآة في اضطراب ثلاث دورات كأنه يبحث عن شيء ما ثم يضرب رأسه بكفه عدة ضربات ) هو حلم ليس إلا ..فلا أحد غيري هنا ولا وجود للعفاريت فليس لعاقل مثلي أن يؤمن بها..فقط هذا الصوت اللعين يأبى أن يغادرني منذ ..منذ (يتلعثم أكثر فأكثر.. يسمع ضحكات طويلة لصبي تغضب الهيدوف بشدة فيصرخ ) يا أنت..يا أنا..لا بد أن تعرف ما معنى الهدوء الذي يسبق العاصفة..لا بد أن تفهم أن كل ما أفعله هو خطة انتهجها عمدا
(يقف لحظات يأخذ فيها أنفاسه ثم يقترب من المرآة بحذر شديد هذه المرة متأملا ظهور الشيخ العجوز بشكل جلي وهو يحرك الفنجان بحركة مريبة )
الهيدوف: (في قلق) أنت لم تسلم ..والصوت ليس صوتك ..وأنا فقط أحلم
(الشيخ العجوز لا يزال يحرك الفنجان مرسلا نظرات فيها حدة مريبة.. )
الهيدوف: (يحاول أن يمده إلى المرآة متبينا ملامح الشيخ العجوز ثم يمدها فوق تقاسيم وجهه..ثم يصرخ) غير معقول ..مستحيل
الشيخ العجوز: الحياة متاهة عمياء ..
الهيدوف: ليس لأنك ترى ما لا أراه .. تأخذ سبيلي إلى متاهة عمياء
الشيخ العجوز: (في صوت مضطرب) فنجانك مقعر ولا مناص من أن تجمع أوزارك من أعماقه حتى لا تسقط أكثر فأكثر ..
الهيدوف : (مندهشا ) فنجان مقعر ..أوزار ..هل أنا في ساعة الحساب أم ماذا ؟!
الشيخ العجوز : (غير مبال) على رقبتك علقت أوراق حبرها يدمي ولونها الناصع يعمي..
الهيدوف: (يتحسس رقبته موافقا) صدقت ..صدقت
الشيخ العجوز: (مكملا ) ولن تدرك ما تأمل إليه إن تخذل حذاءك
الهيدوف: (يتفرس في حذاءه مستهزءا) حذائي ؟!..عجبا ..أنا الإنسان البشري بكل لحمه وشحمه..بكل فكره وتصوراته..تتعلق آماله وأمنياته في عقب حذاء رث
الشيخ العجوز: (محذرا) أصدق الحذاء يصدقك
الهيدوف :(غير مصدق) أيها الشيخ تبصّر في الفنجان ..عساك تجد أشياء تبهج القلب ..
الشيخ العجوز: (في حزم) لا تخشى شيئا ..سيوصلك الحذاء إلى ما تشتهي نفسك
الهيدوف: (في استياء) يا أنت.. الحذاء لم يوصلني إلى شيء
الشيخ العجوز: اصبر ..طريقك طويل جدا
الهيدوف: لقد مشيت أكثر من خمسين سنة ولم أصل
الشيخ العجوز:(غير مبال ) اصبر ..طريقك طويل جدا ..جدا ..
الهيدوف: طريقي طويل..طريقي طويل..أهذا كلما تقدر عليه؟..أرى أن شياطين فنجانك مسّهم الخرف ..أريد الوصول يا رجل!!..
الشيخ العجوز: لا تستعجل عتبات الوصول..فالحذاء فيه كرامات
الهيدوف: (يضحك حتى يقع على الأرض) أين هي هاته الكرامات؟!..شاب شعري ولم يشب الحذاء اللعين ..!!
الشيخ العجوز: لا تسبق الريح ..فقد تلعنك
الهيدوف: الريح..الريح..خمسون عاما وتريدني ألا أسبقها.. بالله عليك كفاك مزاحا وكفاني هلوسة
الشيخ العجوز: (في خبث) أيها العابر ..لا تحتقر الحذاء ..فهو ملاذك
الهيدوف :(يتأفف) ملاذي ..ملاذي وأنا أسكن الجحر البائس وأنشر الأوراق فوق حبل الغسيل ..
الشيخ العجوز: (متجاهلا) ليس بيدي ..
الهيدوف : ولا بيدي أنا أيضا..فلم تصر على أنه شاق وطويل ؟!
الشيخ العجوز: الفنجان قال كل شيء والحذاء يدرك المسافات المتوارية خلف السراب
الهيدوف: وأنا أسجن بين حرفي الفاء والحاء ..
الشيخ العجوز: (بعد أن يريق ما في الفنجان يخرج من معطفه دفا صغيرا ثم يغيب داخل المرآة عازفا موسيقى شعبية دون أن يرد)
الهيدوف: (يسرع نحو المرآة مناديا) إلى أين أيها الرجل ..أيها الشيخ ؟..حديثنا لم ينته ..
(يمضي الهيدوف ناحية الحبل كي يجمع أوراقه ويضعها تحت إبطه بانفعال شديد ..يتحرك في المكان كأنه يبحث عن شيء ما ..جسمه يتصبب منه العرق كأنه مطر منيب)
الهيدوف: (يمسح عرقه) كان يوما شاقا ..جبت المدينة شارعا شارعا ..زقاقا ..زقاقا ..لم أترك دارا للنشر إلا ودخلتها ..
(يسمع صوت أبواب خشبية وحديدية تصفق في عنف..ومع كل تصفيقة يسقط أرضا كأن أحدهم ركل مؤخرته بعنف قاس)
الهيدوف: (يتحسس مؤخرته) ضريبة النجاح أن تصبر..هكذا دونتها سيّر العظماء..أليس كذلك ؟ (ينظر إلى الأوراق في إشفاق)
( يتحرك في فضاء الركح ثم يقف أمام الطرف الأيسر والأكبر شكلا من المرآة كأنه يحدث أحدهم..صورته غير جلية المعالم )
الهيدوف : سيدي ..هذه آخر ابداعاتي
صاحب الدار: (في تعال) لا تلزمني
الهيدوف: (متوسلا) اقرأها
صاحب دار النشر: قلت لا تلزمني
الهيدوف: مجردة نظرة
صاحب دار النشر: سبق أن قلت لك أنا لا أريد مثل هاته الكتابات ..
الهيدوف :(معترضا) سيدي أنا حروفي من ذهب مستحيل أن أوسخها بحبر شاذ
صاحب دار النشر:(متضايقا) وماذا تفعل هنا ؟!
الهيدوف: أريد أن أنشر إبداعي
صاحب دار النشر: (في حدة) قلت لك لا يلزمني
الهيدوف: وماذا تريد ؟
صاحب دار النشر: أنت تدرك تماما ما أريد..
الهيدوف: نعم ..نعم.. أدرك ..أدرك
صاحب دار النشر: فلم لم تكتب..لم تشأ أن تكشف لي عورة المرأة.. أن تلعن الذات الإلهية.. أن تحنط الرجل
الهيدوف: (يبتسم في خبث ثم في غضب) هل تريد أن أحنطك سيدي؟
صاحب دار النشر: (قاطبا حاجيه منفعلا انفعالا شديدا) أيها الخبيث..عليك اللعنة..إنك تدفعني إلى تذكيرك بما..
الهيدوف: (في صوت منخفض مقاطعا) لا تكمل
صاحب دار النشر: لم لا أكمل ؟!
الهيدوف : (بعصبية ) قلت لك لا تكمل
صاحب دار النشر: (شامتا ومستفزا) إن عاندت أكملت
الهيدوف :(يتأمل صاحب دار النشر ثم ينتفض) خير الخطائين التوابين
صاحب دار النشر: فعلتك لا ولن تغتفر
الهيدوف: بل تغتفر ..
صاحب دار النشر: ما يكتبه القلم لا تمحه السنون
الهيدوف: (في قلق وتوتر عظيم) إن هي إلا زلة قدم شاب في مقتبل العمر
صاحب دار النشر: وقد قبضت ثمنه
الهديف :كان ثمنا بخسا اشتريت به حذاء لعينا ..
صاحب دار النشر: ليس ذنبي
الهيدوف : وهل ذنبي أني وثقت في حضرتكم ؟..آمنت برجل كل همه عورة المرأة وكأس من نبيذ يسب به الذات الإلهية
صاحب دار النشر: (منتفضا) ماذا قلت أيها المعتوه؟ ..اغرب عن وجهي ..لا مكان لك في عالمنا ..أنت لا ولن تفهم ماذا يريد القارئ في يومنا هذا؟
الهيدوف: (في حنق) لا يمكن أن تكون صاحب رسالة ..أنت يهمك جمع المال وكفى..لست وحدك ولن تكون الأخير..
صاحب دار النشر: هيا اغرب عن وجهي ..لا أريد موعظة ..أريد كتابات تدر نقودا كحبات المطر وليس خزعبلات لا تسمن ولا تغني من جوع ..أيها الملعون
الهيدوف: (يرفع يده كمن يريد أن يصفعه) ..بلا للعنة عليكم جميعا ..اللعنة على سيوفكم
“يلتفت للجمهور ..يرسل نظراته الحانقة في كل اتجاه”
الهيدوف: مالكم تنظرون نحوي بهذه الطريقة هل ينتابكم الفضول أم الشفقة؟‼…أنا على يقين أن قلوبكم معي لكني ما زلت أخشى سيوفكم (يصمت قليلا ..ثم يدور حول المرآة ثلاث دورات ثم يشير بأصبعه إلى الأقسام الثلاث المشكلة للمرآة تتابعا ثم يشير إلى الجمهور مبتسما في خبث) وإن كان ولا بد ..إن كان في هذا خلاصي من الصوت.. من المرايا ..منكم.. سأفعلها وأمري لله ..ستكون أول مرة والأخيرة..(يأخذ نفسا عميقة)..حسن..حسن..سأرضي فضولكم …
( الهيدوف يقترب نحو مقدمة المسرح ..تردد قليلا ثم يبدأ بالاعتراف لكن اعترافه تزامن مع مرور قطار الأنفاق فلم يسمع ..)
الهيدوف : (يقهقه عاليا ثم يدور حول نفسه ثم في تهكم)..هل سمعتم ؟
(ثم لا شعوريا ينزع حذاءه بسهولة ويقذفه نحو المرآة فتتحطم ..مطلقا قهقهة أخرى طويلة)
الهيدوف: يا الله..ماذا حدث؟..لا أكاد أصدق!!..الحذاء..الحذاء..هل نزعت الحــذاء بسهولــة؟..كيف؟!..كيف؟!..هل كنت مسكونـــا بلعنــــــة المرايا ؟!..هل صدق الشيخ العجوز وعده ؟!..هل هي بركة من بركات الحذاء ؟!..يا واسع الرحمات أنا الآن حر طليق..حر طليق (يجري في فضاء الركح فاتحا ذراعيه كجناحي طائر) نعم..أنا الآن حر.. لا قيود..لا مرايا..لا كرسي..لا مقعد..أخيرا سأنام بدون حذاء ( يتوقف زمنا يحرك رأسه في حيرة ) إن كان صدق الشيخ العجوز فهل أشرفت على الوصول؟! لقد ظل يصر أن طريقي طويل جدا..جدا وأنا الآن نزعت الحذاء!!..هل..هل؟! (يتردد ويتلعثم يعاود فتح ذراعيه كجناحي طائر ويجري في المكان) لا..لا أريد أن أشوش أفكاري..لا أريد أن أفسد نشوة فرحي..أن أزلزل…(يشعر بالتعب وتتقطع أنفاسه) جسدي مرهق جدا..سأنام قليلا واستمتع بأول ليلة دون حذاء..(ينظر إلى أقدامه ويتحسسها) أيتها الأقدام..يا رفيقتي في هذا الوجود لك أن تنعمي بالراحة ..(يدعكها بحنان فياض) ..كم اشتقت إليك حقا (يحاول أن يقبلها فتعصف به رائحة كريهة)..أوووف (يشمئز ثم يبتسم) أووه ..أووه..رائحتك كريهة لكني أحبك..أحبك..وإني أحمد الله أنك في صحة وعافيـة (يشد أنفه ويقبله ) لا أريد أن أسال..لا أريد أن أغوص في متاهة أخرى..أريد أن أغوص في فراشي وكفى..
(يسرع إلى سريره فرحا ليرتمي فوقه كالعاشق الولهان ..صمت عجيب يخيّم على المكان ..الهيدوف يتَجَافَى جُنُبُهُ في مضجعه ..)
الهيدوف: (منزعجا) أوووووف لا يمكنني أن أخلد إلى النوم..اعتدت النوم بحذائي..يا رب السموات والأراضي السبع..أبعد أن وجدت حريتي يزداد شوقي إلى حذائي..(يحمل وسادته ويضربها عرض الحائط) لم أقدر أن أنام بدونه ..(ينظر في المكان كأنه يبحث عن حل لمعضلته..يتبصر يمنى ويسرى وخلفه ثم يرمي نظره إلى السقف..استولى عليه ذهول عظيم ..)
الهيدوف: (مذهولا) ماذا أرى؟..ما ذاك الظاهر أقصى يسار السقف؟ ..كيف لم انتبه من قبل؟..(يضرب رأسه بكفه) أيخيّل إلي أني لمحت شقا في السقف..لا..لا يخيّل بل هو فعلا شق في السقف..(يأخذ المقعد/ السلم ويصعد حاملا المكنسة..يتفقد الشق فيعثر على ورقة متدلية في وسطه)
الهيدوف: (مصدوما يقرأ الورقة) هذه ورقة من أوراقي.. من الذي جاء بها إلى هنا؟!..لا يمكن أن تصعد الأوراق إلى هنا ..ربما أن تتسلل إلى فوق الطاولة شيء ربما أتقبله على مضض أما أن تصعد إلى السقف فهذه أحجية وأحجية غريبة..(يتأمل الشق مرة أخرى ثم يصرخ).. غير معقول ..غير معقول ..إنه باب صغيرة يؤدي إلى الأعلى ..وماذا في الأعلى ..إنها الطريق الطويلة جدا ..؟!
(يسمع أصوات وضحكات تأتي من وراء السقف)
الهيدوف: (كأن صاعقة أصابته) هل أصدق ما يجول في خاطري؟!..هل أكذب ما تراه عيني ؟!..لكن كيف ومتى ؟!..من هؤلاء؟! ..أكيد ليسوا بعفاريت ..من سولت لهم أنفسهم فعل ذلك ؟! من أين لهم كل هاته الجرأة؟!هؤلاء شياطين الأنس ..(الأصوات تتعالى والضحكات تزداد ارتفاعا فيشعر كأن نارا تتأجج في جسده) يا أنتم ..من سمح لكم بالتسلل إلى غرفتي..يا أنتم ما ذاك الذي بأيديكم (يتبصر مليا) اللعنة..اللعنة..إنها أوراقي..أنتم تسرقون أوراقي ..أحلامي ..طموحاتي..
(الهيدوف ينزل درجات من المقعد/ السلم في انفعال حتى أنه كاد يسقط..لا يتفطن إلى نفسه وهو يعاود ارتداء الحذاء.. يحمل المكنسة ثم يخرج مسرعا معربدا والزبد يتطاير من فمه)
الهيدوف: اللعنة على الطواحين ..اللعنة عليك أيتها الغربان النتنة ..ما عدت أهابكم ..أهاب سيوفكم ..نعم ..نعم ..خلقت أكتاف الرجال لحمل البنادق، فإما عظماء فوق الأرض أوعظاما في جوفها.*
(يسمع صوت اصطدام قوي لقطار الأنفاق فتحدث هزة قوية تزلزل الركح.. تعقبها صراخ وعويل وبكاء وصوت سيارات الإسعاف والشرطة والدرك ).
*غسان كنفاني
بسكرة يوم الثلاثاء 15 ديسمبر 2020
تصحيح نهائي يوم 22 يناير 2022