التوجيه المبرمج للفن واثره في سلوك الفرد والمجتمع / م.م زينب لعيوس
(الاعلام والتلفزيون انموذجاً).
منذ بدء الخليقة عاش الانسان متأثرا بما يحيط به من عوامل البيئة الاجتماعية ومؤثرا فيها، فهي الحاضنة الأولى له بمختلف مجالاتها، وتشكل وسائل الاعلام بيئة اساسية تحيط بالفرد، ويحصل التأثر والتأثير بين الفن الإنسان بصور فاعلة ومتداخلة، حتى يكاد في بعض الأحيان أن نجد صعوبة في الفصل بين تأثير طرف على الآخر. فالإنسان هو صانع الفن ومنذ الرسومات التي وجدت داخل الكهوف وغيرها من آثار. ثم وعبر تطور الزمن وجدت الدراما وغيرها من الفنون الطريق وسط ما أبدعه الانسان من خلال تجاربه، وصار هو المنتج والمبدع والمتلقي، فاشتغلت أدوات النقد والتقييم التي ساهمت بتطور هذا الفن. لذا اصبح الفن مساهماً وصانعاً لثقافة الناس، وخالقاً لتوجهاتهم في شتى مجالات الحياة، وأضحى صعبا أن يتخلى إنسان العصر الحديث عن متابعة الفن بصرف النظر عن محل سكناه أو إقامته بفضل منتجات العصر الحديث ومكتسباته الالكترونية والفضائية. وفي ضوء ذلك يصح القول ان الفن يصنع شخصية الفرد ويمنحها انماطا سلوكية مختلفة، لامتلاكه القدرة على توجيه الناس واشراكهم بما يتأثرون به من فنون.
ومع تطور الحركة الصاعدة للمجتمعات الانسانية (نتيجة تطور الصناعة وتطور الفكر الانساني وتوالي المبتكرات العلمية)، والانفتاح العالمي على الحياة، تطورت طرائق الفنون ووسائله التي تقوم بنقل الأفكار والآراء والثقافات والمعلومات والبرامج والاتجاهات،وبفعلها يحصل التأثير في جمهور المتلقين سلباً أو ايجاباً، وكثيرا ما يؤدلج ذلك التأثير برامج التنشئة الاجتماعية وسلوك الفرد، وبخاصة الاطفال والشباب، بما فيها السلوكيات المنحرفة التي لا تمت لمجتمعاتهم بصلة، فهم معرضون للتأثر في سلوكيات غير سوية أكثر من غيرهم، ذلك لأن تلك الفئات العمرية ما زالت في طور استقبال التعلم، ومازال عودها طرياً ازاء استقبال الأفكار، فهي ليست قادرة على التمييز بين الجيد والرديء، لاسيما ان هذه الأعمار تتوق دائماً الى الرغبة في بناء شخصية مستقلة، غالبا ما تكون قائمة على التمرد.
وبسبب هذا التواجد الكلي لوسائل الفن (الدراما) وقدرتها على التأثير في عقول الأفراد ووجدانهم وسلوكياتهم، اشتغلت الدراسات المختصة وعلى امتداد السبعين سنة الماضية وتضمنت مجالات متنوعة كالحملات الانتخابية ونشر الاستحداثات وتصوير العنف والشبقية والعنصرية والنساء وفي مجالات الصحة والتنمية السياسية والاقتصادية وقضايا الهوية والقيم في البلدان الانتقالية في المراحل المتقدمة نسبيا وتأثير وسائل الاعلام الايجابي والسلبي على حد سواء.
ومن هنا تندرج إشكالية دراستنا التي تتمحور حول مدى أثر وسائل الفن بصورة عامة والدراما بصورة خاصة على القيم والسلوكيات لدى الفرد والمجتمع، وقبل الخوض في الدراسة لابد من تعريف السلوك، فهو حصيلة للتنشئة الاجتماعية عبر قنواتها المختلفة والتي يمر بها الطفل داخل الاسرة، فيكتسب من خلالها سلوكاً اجتماعياً يساعد على التفاعل مع افراد اسرته وأول ما يتعلمه هو وسائل الاستجابة لغيرهِ من الافراد من خلال اشباعه لحاجاته الحيوية وتتكون لديه فكرة ما ينبغي ان يكون عليه سلوكه، قبل ان يكون قادراً على الكلام.([1])
وهناك تعريف آخر للسلوك الاجتماعي أورده عالم الاجتماع ماكس فيبر وينص على ان السلوك الاجتماعي يعني اي حركة او فعالية مقصودة يقوم بها الفرد وتؤخذ بعين الاعتبار وجود افراد الاسرة الآخرين، وقد يكون سببها البيئة او الأحداث التي تقع عليها، او الاشخاص الذين يلازمون الفعل الاجتماعي Social Actor الذي يقوم بعملية الحدث او السلوك.([2])
كما ورد مصطلح السلوك ليدل على اي نشاط يقوم به الكائن الحي. او اي حركة تصدر عن الأشياء مثل قيام الحيوان بالبحث عن الطعام او انشغال الطفل باللعب او سير السفينة في المحيط.([3])
وقد ورد ايضاً مفهوم السلوك ليدل على اندفاع الشخص نحو القيام بعمل او فعالية تخدم اغراضه وتشبع حاجاته.([4])
ومن مجمل ما تقدم نستطيع ان نعرف السلوك الاجتماعي على انه جميع المهام والواجبات التي ينبغي ان يمارسها الفرد او اي نشاط هادف يؤديه الفرد من خلال الأدوار والمراكز التي يحتلها في المجتمع. ويكون مقبولاً من الأفراد في بيئته ومحيطه متأثرا في ذلك بعوامل وقنوات التنشئة الاجتماعية وأبرزها وسائل الاعلام.
وان هذه المهام والواجبات التي يمارسها الفرد والتي تعرف بالسلوك لابد لها من قناة او وسيلة لتحدث الأثر المطلوب، اي تحصل ضمن عملية تفاعلية وبذلك لابد من “اتصال” لاتمام عملية التفاعل وتعد عملية التنشئة الاجتماعية التي تحدث من خلال وسائل الاتصال احدى الوظائف المهمة التي تقوم بها تلك الوسائل. وقد وردت في قاموس لاساويل بمعنى الترابط بين افراد المجتمع في الاستجابة للبيئة Environment.([5])
وتشمل عملية التنشئة على تفسير وتحليل الأحداث في البيئة وتوجيه السلوك كرد فعل لهذه الأحداث([6]). ان أهم ما يميز الدور الايجابي لعملية الاتصال في اطر ومستويات التنشئة الاجتماعية في اي مجتمع هو قيام تلك الوسائل بارشاد الأفراد الى التعامل الذكي الواعي مع وسائل الاعلام (صحافة، اذاعة، تلفزيون) بحيث لا يقبلون ولا يعتقدون بما تقدمه لهم وسائل الدعاية دائماً. بل يتفاعلون معها بعقلية راشدة وافكار واعية. وقد اشار الى ذلك ” البرت شرام ” عندما ذكر ان لوسائل الاتصال مثل التلفزيون دوراً مهماً في تنسيق الفهم العام والادارة العامة والتحكم الاجتماعي.([7]) أما اذا اراد أحدما ان يثير معركة حول اجهزة الاتصال فما عليه الا ان يستعرض تأثيرها الاجتماعي.
ونظراً لأهمية التوجيه المبرمج للفن والتلفزيون ومدى أثره في سلوك الفرد والمجتمع فان ملايين الدولارات التي تدرها وسائل واساليب جديدة للطرح الدرامي كأرباح سنوية مستخدمة اساليب الاتصال الجماهيري لاحداث تغيير مقصود في سلوك الأفراد على مستوى التفكير والاتجاهات اضافة الى زيادة وتحسين نوعية وكمية المعلومات لدى الأفراد والجماعات([8]) وهو هدف اي عملية تأثير يقوم او تحاول ان تقوم بها وسيلة اعلامية معينة.
وتلك التأثيرات التي تحدثها وسائل الفن والاعلام تقسم الى تأثيرات كامنة وأخرى ظاهرة. كما ان هناك تأثيرات مباشرة وأخرى غير مباشرة أي (التأثير على المدى الطويل) ونعني بالنوع الأول الاعتقاد بأن لوسائل الاتصال الجماهيرية تأثيرات مباشرة وفعالة وهي شبيهة بتأثير الرصاصة السحرية. ونعني بذلك ان الأفكار والمشاعر تنتقل الينا من المرسل دون قيود، وتحدث آثارها بشكل أكيد. سلباً او ايجاباً. لكن الأبحاث العلمية اخيراً دحضت هذه النظرية اذ اتضح ان الأفراد لا يتلقون الأفكار بشكل تلقائي بل انهم ينتقدون ويرفضون او يقبلون.([9]) وهذا يعود طبقاً الى اتساع ساحة الاتصال بين الأفراد ووجود البديل الثقافي والاجتماعي وتزايد الكم المعرفي والفكري والعلمي لشرائح اجتماعية لا حصر لها.([10])
أما النوع الثاني فهو التأثير غير المباشر ويعني ان تأثير اجهزة التلفزيون في الجمهور تحتاج الى مدة طويلة كي تظهر آثاره، من خلال عملية تراكمية تقوم على أساس التغيير في الاتجاهات والمواقف.([11]) لأن الانسان يحتاج الى فترة زمنية طويلة ليتمكن من تغيير او تعديل نمط حياته. او اسلوب ونوعية تفكيره. وهذا التغيير لا يحدث الا من خلال التعرض لمصادر معلومات تختلف عن تلك التي نشأ عليها وتربى في رحلة الطفولة المبكرة. وهو ما حققه الاعلام كمصدر من مصادر المعلومات. يختلف في الكثير من الأحيان عما هو سائد في المدرسة والأسرة ومؤسسات التنشئة الاجتماعية الأخرى.([12])
لقد اصبح للفن في الوقت الحاضر دوراً مهماً في صياغة ثقافة الأفراد والمجتمعات لأنه اصبح اداة التوجيه الأولى والتي تراجع امامها دور الأسرة وتقلص دونها وبذلك فقد اصبحت كلاً من الاسرة والمدرسة في قبضة وسائل الاعلام والتلفزيون وهي منصة لبث الفن المودلج لجهة ما او نشر ثقافة ما، وهذا أدى الى التحكم فيها وتوجيهها ورسم المسار الثقافي والفكري والعقائدي لها، ولما كان التلفزيون يقوم بتقديم المادة المرئية والمسموعة والمقروءة ايضا فهو اكثر وسائل الاعلام تغييراً واعظمها تأثيراً.
وبهذا تكون وسائل الفن قد أثرت بصورة كبيرة في الأطفال والمراهقين وبناء سلوكهم فأصبحت كالأولياء الجدد لهم بدل الآباء لأنها تغري بقربها وتلبي الرغبات النفسية لهذه الفئة العمرية، حتى أمست صديق حميم لهم لا يقوون على فراقها. ومع توفر الانترنيت ازداد التأثر،فظهوره المفاجئ في بيئتنا أدى الى التفكك الأسري واكتساب سلوكيات غير صحيحة وبث السلوك العدواني سواء العدوان المادي او اللفظي أوالتمرد على الاسرة والانحراف الديني والاخلاقي.
وبغياب الرقابة والحصانة من قبل الأسرة بالمرتبة الأولى والدولة بالمرتبة الثانية انتشرت حالات وسلوكيات غير سوية منها تعاطي المخدرات والقتل والتحرش الجنسي، اذ تعمل اغلب وسائل الاعلام والتلفزيون وخصوصاً المسلسلات الى رسم صورة شخصية اسطورية خيالية لأفراد العصابات وما تمتلكه من نفوذ وقوة تحببها لدى المتلقي، وتصور العلاقات الجنسية بين الطرفين على انها ثقافة. وهو أمر دفع كثير من الناس وخصوصا الشباب الى التخلي عن اصول عقيدتهم ودينهم، واصبح الدين والانتماء الديني يمثل تقليداً قديماً في أذهانهم ولابد من التمرد عليه والتجرد منه والاقبال على كل ما هو جديد والانغماس في المحاكاة والتقليد لما هو وافد من تلك الثقافات التي يروج لها الاعلام الحديث للنيل من المجتمع والشباب لأنهم يمثلون الصرح الأساسي لبناء الأمم، فبدون وجودهم لا صلاح للمجتمع.
ان تواجد وسائل الاعلام وخاصة المرئية في المجتمع والانفتاح العالمي الجديد بوسائل الفيس بوك ومشتقاته ادى الى عزلة الفرد، وهذاما جعل التلاعب بالعقول يصبح سهلاً في ظل غياب الرقيب الأسري بالنسبة للفئات العمرية الصغيرة والمراهقين، فاصبح الشباب طريدة سهلة للمتلاعبين بالعقول عن طريق وسائل الاعلام المختلفة، والسبب عدم وجود قاعدة رصينة في شبكة العلاقات الاسرية والاجتماعية المحيطة بهم والتي تتميز بالاستقرار والقيم المتوازية، الأمر الذي أدى الى ظهور عمليات غسيل المخ لفئات المراهقين والشباب وخير مثال على ذلك ما تبثه المنظمات الارهابية (تنظيم القاعدة، تنظيم الدولة الاسلامية داعش وغيرها..) حيث عملت على بث افكارها وثقافتها عبر وسائل الاعلام والتي تعد رصاصات كلامية تخترق بعمق عقول ضحاياها من كافة الدول وخاصة النامية.
* م.م زينب لعيوس الأسدي/ جامعة البصرة (كلية الفنون الجميلة)
الهواميـش:
([1]) د. يوسف مصطفى القاضي، السلوك الاجتماعي للفرد، ط1،الرياض،شركة عكاظ للنشر والتوزيع ، 1981، ص 16.
([2]) الدكتور احسان محمد الحسن،دواء الفكر الاجتماعي، بغداد، دار الحكمة للطباعة والنشر، 1991، ص 293.
([3]) د. مصطفى فهمي ، سيكولوجية الطفولة والمراهقة، القاهرة، دار مصر للطباعة ، 1974، ص 154.
([4]) د. احمد محمد عبد الخالق ، الابعاد الاساسية للشخصية ، تقديم د.،هـ، ايزنك،ط4،الاسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1987، ص 29.
([5]) شاهيناز طلعت ، وسائل الاعلام والتنمية الاجتماعية ، القاهرة ، مكتبة الانجلو المصرية ، 1980، ص 79.
([8]) د. هادي نعمان الهيتي ، الاتصال الجماهيري في المنظور الجديد، بغداد، الموسوعة الصغيرة، تسلسل 412، ار الشؤون الثقافية، 1998، ص 65.
([9]) د. هادي نعمان الهيتي، ادب الاطفال: فلسفته، فنونه، وسائطه، بغداد، وزارة الثقافة والاعلام، 1978، ص 354.
([10]) الانترنيت، جريدة الحوادث، قضية للمناقشة، العدد 462، 2001م http:// www. Akhbarelyo.org.eq
([11]) د. اسيل عبد اللطيف السامرائي ، العنف وبرامج الاطفال التلفزيونية ، مصدر سابق ، ص 31.
([12]) محمد بن عبد الرحمن الحضيف، كيف تؤثر وسائل الاعلام ، الرياض ، مكتبة العبيكان ، 1994، ص18.