ما المخرج؟…./ محمد الروبي
حين تسأل: ما المخرج؟ يخبرونك أنه قائد العمل، وهو كذلك، ويقولون إنه مؤلف العرض، وهو كذلك أيضا، لكننى إلى جانب هذا وذاك – وربما قبلهما – أراه حامل رسالة، مهموما بموقف من العالم، فكيف سيقود إذ لم يكن يحمل همًّا؟! وكيف سيؤلف إذ لم يكن يمتلك رؤية؟! وربما لذلك كانت تستفزنى- وما زالت وستظل – تلك العبارة التى يضعها بعضهم بجوار اسمه “رؤية وإخراج فلان”، وكنت وما زلت أسأل مستنكرا: وهل هناك إخراج بلا رؤية؟
أوصاف زماننا هذا باتت تثير العجب، لكن ما علينا، فلنعد إلى السؤال: ما المخرج؟
برأيى، هناك نوعان من المخرجين، الأول هو “المنفذ” الذى تستدعيه مؤسسة إنتاجية ما، ليُخرج لهم نصا بعينه، لم يختره هو، هنا هم يختارونه لحرفيته الهائلة ولثقتهم فى أنه سيمنح عرضهم (نَصهم) ألقا يستهدفونه، وفى التاريخ علامات عديدة على هذا الاستدعاء، بل لعلنا سنفاجأ لو عرفنا أن ذلك حدث – ويحدث – فى السينما، نعم فى السينما، والسينما الأمريكية الهوليودية تحديدا! بل لعلنا سنندهش إن عرفنا أن إحدى علامات السينما الأمريكية (والذى ما زلنا نشاهده بشغف) أعلن مخرجه فى أكثر من لقاء أنه لم يحبه فى البداية، وأنه اضطر لقبول إخراجه لأسباب شخصية، ولرغبته فى الوجود، ولحرصه على أن يبقى فى الساحة، إذ أنه لو رفض لن يجد فرصة أخرى على حد تعبيره، إنه “العراب” يا سادة، إنه فرانسيس فورد كوبولا! هل تصدق؟ نعم، هو.
لكن هذا “المنفذ” إذا لم يكن موهوبا، محترفا يعرف كيف يصنع من الفسيخ شرباتا، لن يفلح، وهنا لا بد من التوقف قليلا، أمام أول عنصر من عناصر المهنة، وهو الحرفية، عليك أولا أن تتعلم أساسيات الحرفة، تتعلم كيف تخلق من الكلمات حياة، وكيف تصنع مشهدا موزونا لا يشتت عين المشاهد، تتعلم كيف يتداخل المؤثر الصوتى مع حركة الأجساد، وكيف تصنع من اللون حياة، ومن الضوء نغمة، وهكذا، فمن دون هذه الأساسيات لن تفلح الموهبة، ولا الهم، ولا حتى الرؤية والإحساس، فالموهبة تتحول إلى رغبة ملحة فى ظهورها، والرغبة تحتاج إلى قدرة حتى تتجسد واقعًا، والقدرة يلزمها علم ومعرفة ليكون التجسيد فنيًّا رائعًا.
فى المقابل، لا بد من التأكيد على أن معرفتك الجيدة بهذه الأساسيات لا تعنى مطلقا أن تسير عليها وفقا لكتاب قواعد لا تحيد عنه، لكن بمعرفتك لهذه الأسس ستعرف كيف تضيف إليها أن أردت، بل وكيف تحيلها إلى عجيب لم يره أحد من قبل، اعرفها أولا، ثم افعل بها ما شئت.
والآن، قبل أن ننتقل إلى النوع الثانى، وهو المهموم، يهمنا أن نؤكد أن النوع الأول من المخرجين (المنفذين) لن تجد فى تاريخهم الإبداعى خطا فكريا يجمع بين أعمالهم جميعها، بمعنى أنك ستجد الواحد منهم يصنع عرضا جميلا، أخاذا مبهرا، يحمل فكرة ما (اجتماعية أو سياسية أو فلسفية)، لكن عرضه التالى مباشرة – وقد يكون أيضا جميلا وأخاذا ومبهرا – يناقض فكريا ما طرحه العرض الأول، وهكذا، لأن “المنفذ” – ببساطة – موهوب، محترف، لكنه غير مهموم.
أما النوع الثاني، (المهموم) فهو من يمتلك من الموهبة والحرفة والعلم ما يمتلكه النوع الأول، لكنه يتفوق عليه بامتلاكه همًّا اجتماعيًا فلسفيًّا سياسيًّا، ومذهبا إخراجيًّا يحرص على نشره بين الناس، ولتتأكد من ذلك الفصل بين النوعين، اسأل نفسك سؤالا: لماذا توقف تاريخ المسرح فى العالم عند أسماء بعينها من المخرجين فى كل فترة تاريخية؟ أو لم يكن يعاصر بيتر بروك – مثلا – فى بلده وربما فى المسرح نفسه، عشرات المخرجين الجيدين الصانعين لعروض مبهرة؟ إذن لماذا بقى من بينهم هذا الاسم تحديدا؟ وكذلك آرتو، وجروتوفسكى، وبريخت وغيرهم؟ الإجابة ببساطة يا صديقى هى أن أصحاب هذه الأسماء يحملون هما ما، فنيا وفكريا، منطلقا من هم اجتماعى سياسى.
امتلاكك للهم أو الرؤية الشاملة أو الموقف من العالم، أو سمه ما شئت، لا يعنى أبدا أبدا أنه الأصح والأصلح، لكنه يعنى أن ذلك ما أؤمن به بصدق، وأعمل من أجله باخلاص، لذلك ستجد عروض أصحاب الهم (الجميلة الجذابة) يربط بينها خيط فكرى خفى، وإن اختلفت موضوعاتها وأشكالها، وإذا اردنا اختصار ما قلناه، فلنستعر التشبيه اللغوى، الأسلوب هو الرجل، فكذلك الإخراج، هو الرجل أيضًا.
وللحديث بقية
عن: النشرة اليومية للمهرجان القومي للمسرح المصري (العدد السابع)