أوكسجين ومسرحيات أخر / نقد وتحليل : د. طالب هاشم بدن .

عمواس القديم المتجدد .

 

ضمن النتاجات الادبية التي تعد من النتاج المعرفي المهم والحداثي يطل علينا الكاتب والمؤلف الجزائري (محمد الكامل بن زيد) بنتاج جديد ومغاير يطرق باب الصمت ويبحر في لجج البحار من أجل التميز .

عمواس : قرية تقع قرب بيت المقدس أصيب أهلها بالطاعون في عهد الخليفة عمر بن الخطاب سنة 18 هـ ( 639م) بعد فتح بيت المقدس ، وعلى اثرها سميت هذه السنة بعام الرماد نتيجة لما حدث من  مجاعة في المدينة ، إذ قال الزمخشري عن عمواس (هي كورة من فلسطين بالقرب من بيت المقدس وبياجه ) استهل كاتبنا بعمواس مجموعة اوكسجين التي وضعها كاتبنا على شكل تمهيد لحدث شاخص يريد أن يخبرنا من خلاله ان ما تحمله تلك المجموعة المكونة من ثلاث مسرحيات أشبه بما حدث في عمواس وغيره من حوادث جرت على مر التاريخ وربما جاءت متوافقة ومتتالية الاحدث على بلداننا العربية وهو بمثابة ترميز لقضايا عالقة حاول الزج بشفراتها وما على المتلقي إلا البحث من أجل حل تلك الشفرات وتراكيبها .

ان بوهيمية الصور وتجليات الحوادث المتداخلة اعطت للنص الدرامي شكلا دياليكتيكيا في بناءه المتصاعد وتشابك حوادثه بوصفه نصاً تناول حوادث مختلفة دار بها الزمان وعادت متشحة بوشاح أخفى جزءاً من معالمها لكنها بقيت شاخصة بوجه الظروف ومقاومة الازمات المتلاحقة .

أوكسجين معادلة بسيطة دلالتها العدم إذا انقطع الاوكسجين كمركب كيميائي وبالتالي حصول الفناء ولا حياة بلا أوكسجين بخاصة ان الاوكسجين اصبح ملوثاً بعد رحيل البعض .

 

الفكرة العامة .

يسلط كاتبنا الدرامي الاضواء على قضية مهمة ومثار جدل بين الاوساط العلمية وباقي الاوساط الانسانية ألا وهي الوجود والحياة التي يقابلها الموت البطيء الذي يستل البشر واحداً تلو الاخر بطرائق عدة، إذ يختار المؤلف المكان المتكون من غرفة في مشفى مع مجموعة من المرضى الذين ضاقت بهم السبل وتعسر عليهم المكان ليكونوا ضمن ثلة يكاد الاوكسجين ينقطع عنهم وتضيق بهم الحياة وهو صورة للموت البطيء الذي يعانيه المريض بعد دخوله المشفى وتجسيد حي للمعاناة التي تتأطر في أروقة تلك الامكنة على الرغم من إنها _ من المفترض – مكاناً للشفاء والتعافي لقاطنيها حتى خروجهم بيد إن تصوير تلك الامكنة جاء على وفق البناء الدرامي وبناء الحوادث التي صاغها المؤلف بأسلوب دراماتيكي منمق؛ وعلى وفق الموت البطيء تتساقط الارواح شيئاً فشيئا معلنة هزيمتها أما نقص الاوكسجين وانعدامه وهي إحالة واضحة ومهمة لما جاء في مقدمة النص المسرحي ربطاً بعمواس والحادثة التاريخية التي فتكت ببني البشر دون وجود منقذ لتلك الفاجعة .

شخصيات المسرحية .

النص المسرحي لا يمكن بناءه دون شخصيات ناطقة بالحوادث سواء أكان صامتاً أو صائتاً وهي الاداة المهمة والحيوية في تجسيد ما يمكن تجسيده على وفق البناء المتصاعد ووتيرة سير حركة الحبكة، لذا يمكن تناول شخصيات النص المسرحي على ما خضعت له من اختبارات متكررة تعالج حالة نفاد الاوكسجين سر الحياة والموت البطيء الذي تجلى فيها، إذ كان ( الممرض، سائق سيارة الاسعاف، مريض 1، مريض 2، طبيب ) اللاعب الاساس في سير الاحداث والمكمل للبناء الهرمي في توصيل الافكار ولو تطرقنا إلى دور الممرض وشخصيته في التعبير عن تتبع خارطة الحوادث بوصفها المهيمن على التركيب الديموغرافي للمكان والزمان المنشودين، ولو صنفنا تلك الشخصية من الجانب الانساني لوجدنا إنها زخرت بكم هائل من الاحساس بالوجود والتعبير عنه من خلال مرابطتها  ومتابعتها للحالات المرضية ومحاولة إنقاذهم بشتى الطرق على الرغم من محدودية عملها واقتصاره على الاسعاف البسيط والذي تجلى في قوله ” هنا سيموت الجميع ” غير ان السائق يرد قائلا ” لكنهم أمروني أن آتي به هنا ” ويسترسل الممرض في ردوده المقتضبة على سائق الاسعاف قائلا ” أين ؟ أين .. كل الاسرة ملأى .. حتى الارض ضاقت بما رحبت ”

وعند الرجوع إلى النصوص التاريخية والاطلاع على ما ورد من الذكر الحكيم نرى إن كاتبنا يذهب للتناص والاقتباس في احالة مباشرة عنها، وان تراكم وتكدس الموتى لم يعد للارض متسع في استيعابه وهي تناص واضح ومباشر عما حدث في عمواس والطاعون الذي راح ضحيته (25) ألف وربما أكثر حسب ما ذكره المؤرخ من احصائية بمدة وجيزة .

ولو تطرقنا الى باقي الشخصيات التي تناولها كاتبنا في نصه الدرامي لوجدنا ان سائق الاسعاف والمرضى والطبيب شخصيات مكملة لحركة حبكة المسرحية وجاءت مواكبة لتطور الحدث وتجسيدها والتعبير عن حركة الحوار وحبكته، بوصف إن المرضى وما يعانوه من آلام واختناق ما هو إلا تراكمات زمن ولى واندثر وقد حمل المريض 2 حواره قائلاً ( لا يمكنني التنفس .. أنا أختنق ) أما مريض 1 فينطق بمغايرة وصورة اكثر إيلاما تجلت من خلال قوله ( انا لا أسمعك ) فلو تصورنا الموت البطيء الذي يداهم تلك الشخصيات لوجدنا إنها بدأت تفقد حواسها وقدراتها تباعاً وهي ترميز واضح ومهم بما حل بمجتمعنا العربي وويلاته المتتابعة وعلاقة الحضور والغياب وما لا يمكن ادراكه حسب نظرية لالاند في تناوله للترميز بين الدال المادي وما يستحضره من قيم غائبة، وهو ما اخفي من كلام وطيه عن الناس وما على المتلقي إلا اكتشافه. إّ ان مراحل الموت وفقدان الحواس وتلاشي القدرة على الكلام والسمع هي موت الجسد تدريجياً لكن أي جسد هل هنا جسد المريض أم الجسد الذي تداعى وتفكك .

ان نفاد الاوكسجين موت محقق وما وضعه المؤلف بين أيدينا هو تلاشي وضياع من خلال محاولته – بشكل أو بآخر – اقحام الافكار وتجلياتها والبحث عن مخرج لضيق الافق الذي نحن عليه بعد تلك الرحلة الشاقة من الحياة، وما اقحام آيات من الذكر الحكيم إلا دلالة واضحة على ما يصبو إليه كاتبنا إضافة الى السعي في اعطاء النص الدرامي قوة ومتانة من خلال التراكيب والجمل القرآنية على الرغم من وضوح المعنى المراد شرحه وربما لتأكيد الفكرة التي يريد توصيلها ووضوح فحواها والهدف الذي جاءت من أجله وهو الفناء واللامبالاة مع تزاحم الاموات، وتبقى الشخصيات بتتابع حوادث النص على وتيرة واحدة من أجل توضيح ذلك الهدف حتى خاتمة المسرحية .

اللغة .

ان عوالم اللغة وتراكيبها المتنوعة وبحورها المتلاطمة وتعابيرها الفنية على تنوع خصائصها هي طريقة جزلة يستخدمها الكاتب من اجل نقل فكرة بطرائق جمالية الهدف منها جذب الانتباه والتشويق اعتماداً على البنية والمحتوى والتي تعد نشاطاً إبداعياً يتميز به ومن خلاله الاديب وكاتب النص الدرامي ، ومن هنا يمكن تناول لغة نص أوكسجين على وفق الانسجام والتناغم المعرفي وما حضي به كاتبنا من خلفية أدبية جعلت منه يتلاعب بالمفردة ويقتنص أجملها ويعيد صياغتها بما يتلاءم مع بناء الافكار وبالتالي تراكيب الجمل بطريقة ايقاعية حركية جزلة المعاني التي حالو من خلالها فك شفرات النص والنزول إلى مستوى القاريء البسيط تاركاً مجموعة من الحوارات بلغتها العادية التي من منطوقها يمكن ان يعرف معاني ما يريد طرحه وهي مهمة يسيرة على المتلقي الذي حلل وفكك النص على وفق قراءات ادراكية متنوعة وتأويلات قادرة على فهم النص من أول وهلة ، ولا يمكن ان ننكر ان القاريء العليم وجد ان لغة النص العميقة  ذات دلالات رمزية اراد كاتبنا من خلالها لعنة الزمن والموت وازدواجية التعامل والتلاعب بالانسانية ككل التي فقدت وغيبها الطامع بطمعه وتعاون الزمن على تلاشيها وصارت شخصيات تعتاش على الموت والفناء وخير دال على ذلك ما تناوله سائق الاسعاف قائلاً ( يمكنك أن تمضي على هاته الاوراق كي اخلي ذمتي ) وكأن الانسان عبارة عن ورقة تعلق مصيره بها أما الانسانية والمبادئ فلا قيمة لها  ، بيد ان المريض حكم عليه مسبقاً بالموت حتى تجلى ذلك في قول مريض 2( قيل لي ان انفي ممنوع من الحلم ) ومثل تلك الغايات بررت وسيلة الوجود وهي لغة عالية بليغة اجتمعت فيها محاسن اللغة ومزاياها ، وهي واضحة جليا في النص الدرامي كتبها المؤلف على وفق الايقاع المنتظم المقرون بالصياغة اللفظية المتنامة مع التراكيب الجمالية للجمل .

الصراع والحبكة .

ان الاحداث المترابطة فيما بينها في حركة الصراع الذي تناوله النص الدرامي تذهب بنا إلى عوالم مهمة وعميقة على الرغم من ان تعارض الرغبات معدوم لكن وجد النص الدرامي ضالته في صراع المريض من أجل الحصول على الاوكسجين وهنا صراع مغاير لا يعبر عن ارادة الاطاحة بشخص واحتلال مكانة والحيلولة دون وصول حاكم الى حكم او الاستيلاء على ملك ما ، هنا الصراع وحبكة النص الدرامي مختلفة بتفاصيلها ومجريات حوادثها كونها تعبر عن حقيقة لا يمكن نكرانها تجلت في الموت بالمرض ، وما الصمت عن الموت إلا تركيب معقد غاب من خلاله تصاعد وتيرة الحدث المنطقي بوصفه تدرج في بناء الصراع وحواره متوقعاً للقارئ ، إلا ان الحكم المسبق ونقص الاوكسجين هو ديمومة العمل الفني ومركز ثقل الصراع الذي بنيت على وفقه حركة حبكة الصراع . وقد انساب على حادثة جرت في مشفى وهو مكان طبيعي لمرضى يعانون وغالباً ما يشفون لكن هنا نظرية الشفاء وحتميتها غائبة وما على المريض إلا ان ينتظر مصيره ووجوده المهدد بالفناء ، عبر ملء الهوة السردية بقلم محارب قديم يعبر عن الفراغ في حركة حبكة الصراع المراد بناءه ببساطة وعفوية بالمعنى الدقيق للكلمة وبطريقة دراماتيكية محبوكة الصياغة . بوصف ان الصراع وجدناه سار تصاعدياً عن تزاحم الغرفة وتكاثر الاختناقات وبلوغ الحالات شأواً بعيدا في التعبير عن حالة الغثيان والقهر الذي تعرضت له ولربما جاء ذلك ليرمز عن معنى كلمة اوكسجين التيعنونت النص الدرامي بكل تفاصيله .

الزمان والمكان .

لا يذكر الزمان إلا وتلاصق مع المكان وهما يمثلان بديهية لدى المتلقي واذا اردنا ان نقرن النص الدرامي بالمكان فنجد ان المشفى هو المكان الطبيعي لسير الاحداث ولم يخرج من كونه المكان الذي اختاره كاتبنا في تناول نصه لكن دلالة المشفى واختلاط الشفاء بألم الراقدين والموت وصراعهم من أجل الظفر بأرواحهم المعذبة ما هي إلا تعبير واضح عن البناء الهرمي للاحداث . اما الزمان فهو زمن هلامي لم يذكره كاتبنا لكن المتتبع يمكن ان يستشف من خلال التعالق النصي ان الزمن حاضر بكل تفاصيله وحيثياته وهو زمن ايقوني يمكن ان يكون في كل الاوقات تحدثه المتغيرات والطفرات التي وضعها كاتبنا بشكلها المفتوح واللامعنون بدلالاته التي تعرفنا بأن الحوادث مستمرة بلا توقف ولا تقيد مع الزمن ..

ختاما .

ان آلة الزمن وما تحدثه من شرخ في الحياة ما هي إلا موت وفناء كتبت على سور من فولاذ عنوان لها بأطار فضي وخط متعرج ( الصحة في اجتماع القوم وتكاتفهم وهم بنيان مرصوص فيه عودة الحياة والشفاء من كل داء ) .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت