ضوء على تجربة فرقة المسرح الحي الامريكية / حيدر علي الاسدي
شهد القرن العشرين ظهور العديد من الأفكار والنظريات والتيارات المعنية بالمجالات الأدبية والفنية، ولاسيما في مجال المسرح اذ تم خلال هذا القرن وبالتحديد ابتداء من فترة الستينات إعادة النظر والرؤية والتشكيل اتجاه الفن المسرحي، وفي ظل تحلل النظريات التقليدية في المسرح وخروج رؤى وفلسفة جديدة تتخطى كل ما هو تقليدي وتسعى لإيجاد مسرح بديل طليعي تقدمي يغاير من الفكر التقليدي للمسرح المتعارف عليه، بخاصة في ظل بحث الانسان عن وجوده والعلاقة الجديدة مع المجتمع، فكانت فرقة المسرح الحي احد أهم التجمعات التي تأثرت بمقولات العمل الجماعي والمواجهة والتحرر من الكليشهات التقليدية التي كانت سائدة قبل ذلك، ويمكن القول ثمة مرجعيات فلسفية وفكرية كانت السبق الذي أسس للمسارح في القرن العشرين، ومنها ما يتصل بالجانب التنظيري والفلسفي، ولعل ابرزها النظريات التجديدية التي برزت في تلك الحقبة ومنها رؤية رونالد ديفيد لايانغوهو طبيب نفسي اسكتلندي، الذي سعى الى تصحيح فكر عالم النفس النمساوي سيجموندفرويد، عبر دعوته الى ما يسمى التحليل النفسي الوجودي، استنادا على ان الاثارة الجنسية ماهي الا جزئية بسيطة من مشكلات الانسان، وان العلاج الأنجع يكمن في الرعاية والاهتمام بالسياق الاجتماعي للإنسان المريض ووجوده، وهو يرى ان ما يسمى ((موقف في العملية المسرحية والذي يتظاهر فيه الممثل بانه شخص اخر غيره، هو الذي يمنع الشخص عن صنع القرارات فاذا ما تظاهر بأنه هو نفسه فإنما يعكس الواقع وبالتالي يكون امينا على نقل الواقع حتى ولم يكن مؤمنا به فعلياً))([i]) وهو ضمن المناخ الفكري والفلسفي الذي كان رائجاً آنذاك واعني التيار الفكري المسمى باليسار الجديد الذي دعا لعدة إصلاحات فكرية منتصف القرن العشرين، مما اسهم واثر على المجالات التطبيقية في الآداب والفنون سواء أكان ذلك في الشعر والقصة أو حتى في المسرح مما اسهم بتوليد رؤى جديدة في التعامل مع المسرح بحيث تعيد تشكيل المسرح من جديد وفق هذه الرؤية الابتكارية القائمة على تجاوز التقليدي والتقرب اكثر من روح العصر، وليس اليسار الجديد وحسب هو اسهم بإعادة تشكل وصياغة الفن المسرحي خلال تلك الحقبة وبخاصة بعد الستينات، فقد جاء علم النفس بما يسمى بـ (دربة الحساسية) وهي محاولات لكسر الحواجز بين الكائنات البشرية عبر محاولات تعزيز الثقة وتأكيد التعاطف والتفاهم في محاولة لتقوية الوعي بالآخرين، وذلك عبر تمارين ((التحسس واللمس الاستكشافي والفحص البصري المكثف والاصغاء المركز))([ii]) وفيما بعد تحولت كل تلك المفردات من المستوى التنظيري الى مستواها التطبيقي عبر مفردات مسرحية تتعلق بالمباشرة واللمس وكسر الجدار الرابع وعلاقة الممثل بالمتفرج ومشاركة الجمهور بنية العرض المسرحي.
رغم انه تم استخدام تمارين دربة الحساسية لأغراض العلاج، الا انه ذلك لم يمنع استخدامها من قبل الفرق المسرحية في محاولة منها لبناء الإحساس بالثقة لدى ممثليها، وأيضا في مجاولة لخلق التفاهم والانسجام بين أعضاء الفرقة المسرحية من الممثلين، فضلاً عن بروز العديد من الأفكار وهيمنتها مع مسارح منتصف القرن العشرين ومنها حالة العودة الى الطقوس ومحاكاة الذات الإنسانية المسحوقة في هذا الوجود المرير، وإعادة تشكل رؤية الفنان الى منظومة العلاقات الاجتماعية وعلاقة الممثل ذاته مع المتفرج، وعلى هذا الأساس قد أشار ايرفنغهوفمان في كتابه (كشف النفس من الحياة اليومية) الى تبادل الأفعال ( الأدوار) اجتماعيا وان العلاقات الاجتماعي ما هي الا مشاركات طقسية حسب هوفمان، وهذا ما يؤكد ان الشخصية الدرامية مركبة من أدوار عديدة تمثل كلا منها حسب الموقف الذي تمر به، وتلعب الشخصية أدوارها عبر تحولات تدريجية([iii])
وعلى المستوى المسرحي فان مرجعهم في الأداء (واعني هنا أصحاب المسرح الحي) انتونان ارتو وبخاصة في كتابة (المسرح وقرينه)، وان نظرية ارتو في المسرح تقوم على رفض الواقعية، سواء اكانت على مستوى الأداء او حتى البناء السيكولوجية للشخصية المسرحية وهو يعد ان ((الأسطورة والسحر هما أساس العرض المسرحي، ويعتقد ارتو ان وظيفة المسرح هو تحرير النوازع الموجودة في عقل الجمهور الباطن بان يعبر تعبيرا مباشرا في احلامهم والعقد النفسية التي تتحكم فيها…ان مهمة الدراما عند ارتو هي التعبير عما لا يمكن التعبير عنه من خلال اللغة اما دور اللغة “الحوار” في المسرح فلابد ان يقتصر على مجرد الايحاء))([iv]) كل تلك الرؤى الفلسفية كانت قد حددت المرجعيات التي انطلق منها المسرح الحي (الأمريكي) كاحد المسارح الذي عمل بفكرة إعادة تشكيل المسرح بصياغات جديدة وتشكلات جديدة ورؤى جديدة تنبع من احتياجات انسان ذلك الوقت والى الخروج عن المألوف والتعبير عن ما بداخله، بعد ان أسهمت الثورة الصناعية وغيرها بتصدير الالة وتشيؤ الانسان، وسنتحدث عن احدى اهم الفرق المسرح الامريكية التي برزت خلال تلك الحقبة، وفي البداية لابد ان نتحدث عن عتبة العنوان لماذا المسرح الحي لقد اختارا لفرقتهما هذا الاسم لانهما ارادا ان يقدما كلمة ((نابعة من اللحظة التي يعيشانها ومعبرة عنها ولهذا فقد اختارا اعمالهم الادبية بوجه عام من النصوص المعاصرة، وسرعان ما استطاعت الفرقة استيعاب الجمهور في العرض واشراكه في الحكم على القضايا المطروحة واتخاذ موقف بصددها))([v]) فهم يعدون ان كل ما مضى من المسرح التقليدي المتعارف عليه وبنائه هو ميت بالنسبة لهم، فهم سعوا لتجاوزه وتخطي حدوده وقوانينه، لذا يجب ان يكون كل شيء حيا على الخشبة وذا طابع وملمح انساني، في عالم يتجرد من كل ما هو انساني، وكذلك السعي لخلق جمهور حي مشارك متفاعل ومشارك، بهدف ايقاظه واشراكه في مسألة طرح القضايا والأفكار واتخاذ موقف بصددها وهذا ملمح بريختي، كما انهم كانوا يعرضون الحقيقة عارية للمتفرجين دون أي تزويق او محاولة الالتفاف على الحقيقة، وعلى وفق ما تقدم جاءت تسمية مسرحهم الجديد باسم المسرح الحي، وفرقة المسرح الحي الامريكية هي اكثر الفرق التزاما بمبدأ ((تغير المجتمع وتغير المسرح، تأسست هذه الفرقة عام 1946 من قبل جوديت ميلينا 1926 احدى تلامذة بسكاتور وزوجها جوليان بيك 1924 وكان هدفها الأول كما عبرت عنه في كلماتها هو تشجيع الشاعر المعاصر على الكتابة للمسرح وتحفيز الوسط الفني للتحرك ونبذ المراوحة والتكرار في الصيغ والتطلع الى الابتكار))([vi]) أي ان المسرح جاء كردة فعل جمالية وفكرية على المسرح التقليدي التجاري الذي كان سائداً آنذاك، وفي اول انتاج لها قدمت الفرقة مجموعة من مسرحيات الفصل الواحد لبريخت ولوركا وشتاين وغودمان قدمت هذه العروض جميعا في ((غرفة الاستقبال في بيتها في نيويورك وفي عام 1951 انتقلت الى مسرح جيري لين وهو مسرح صغير في قرية كرينتيج ليقدما فيه مسرحيات لاليوت وبيكاسو وجاري وشتاين ولاخرين غيرهم ثم اغلق المسرح من قبل سلطة مطافئ الحريق عام 1952 وفي عام 1954 وجدا مكانا اخر لعروضهما وهو مكان فارغ لخزن الامتعة في احد المنازل وقدما هناك اعمالا لبيراندلووسترندبرجوكوكتو وراسين وغيرهم))([vii]) ويلاحظ ان العروض الأولى لفرقة المسرح الحي كلها غايرت من مستوى اختيار بيئة العرض المسرحي، احياناً اضطراراً وأخرى للبحث عن بيئات مختلفة ومغايرة عن بيئات العرض التقليدية، ذلك بسبب مضايقة الضرائب لهم والاحتكارية واقتصار الاعمال على مسرح برودواي التجأت بعض الفرق المسرحية في امريكا الى تقديم عروضها في اماكن متفرقة وبيئات مختلفة ومنها المقاهي والمنازل القديمة والكنائس متوجهين للجمهور لخلق علاقة حميمة والفة بين الممثل والمتفرجين، متأثرين بذلك بمسرح بسكاتور وبريخت، ومحاولة اشراك المشاهد عن طريق اشعاره ان المسرح ليس مكانا مطمئنا بل لابد من استفزاز المشاهد وسلب راحته باستمرار، وكان من بينها بالتأكيد المسرح الحي، الذي كان يقدم عروضه في المنازل والكنائس والمدارس المهجورة وغيرها من بيئات عرض مختلفة ومغايرة عن البيئات التقليدية او مسارح العلبة المغلقة([viii]) كما حاولت الفرقة بعروضها ((اشراك الجمهور في العرض إضافة الى التجريب مع المستويات المختلفة للدوافع واستكشاف توجهات ارتو والاهتمام بنظرياته))([ix]) بالتركيز على طاقة الممثل وتفاعل الجمهور، والابتعاد عن أي مؤثرات أخرى قد تجعل الممثل يتعاطف معها ويبتعد عن ثيمة العرض الأساسية التي غالباً ما ترنو لأيقاظ المتفرج، وجعله وجهاً لوجه مع الامه ومعاناته. وسعت الفرقة لتقديم مشاهد طقسية تدعو للتحرر الكامل ومواجهة الشرور، وكان ممثلو الفرقة رجالا ونساءً وفي العروض الداخلية والخارجي التي تجري في الشوارع يظهرون عراة في اغلب أعمالهم، او نصف عراة لا تغطي أجسادهم سوى خرق بالية، ولم تكن هناك سوى جمل ومفردات بسيطة وأيضا ((حركات اكروباتيكية وارتعاشية تتخللها لحظات صمت وجمود في الحركة ومواقف روحية هادئة، التأثير المهيمن هو الهجوم على الجمهور من الطبقة البرجوازية وبلغت الفرقة الذروة في عملها عامي 1968-1969 عندما قدمت الجنة الان بهدف تحريض الطلبة ومساندة انتفاضة مايس في باريس))([x]) اذ نجحوا في استنهاض الجماهير من طبقة الطلبة من اجل دعمهم للانتفاضة والتي التحق بها العمل كذلك وهي الشريحة التي يسعى المسرح الحي لاستنهاضها ضد الطبقة البرجوازية وقتذاك. وخلال الستينات بدء المسرح الحي يهتم ((بالارتجال والصدفة إضافة الى اهتمامه بالدراما الشعرية، وتحقق الارتجال في العروض المزدوجة والتي تكونت من ما يقارب الخمسمائة فعل، صممت عن طريق الصدفة بيد ان الجزء الرئيس بقي على حاله في جميع العروص مع تنوع في التأثير الكلي، وفي عام 1963 قدمت الفرقة مسرحية كينيث براون السجن تقع احداثها في سجن للبحرية الامريكية متابعة نشاطات المساجين خلال يوم واحد بدءا من الاستيقاظ صباحا حتى الخلود للنوم ليلا))([xi]) فالعرض اشتمل على استعراض يومي لتقديم الطقوس المضجرة والروتين الممل للسجناء، في محاولة لبيان كم قاسية تلك الحياة، اذ عاش الممثلون حياتهم في ذلك بصورة مرتجلة وكأنهم سجناء من الصباح وحتى المساء، وتصرفوا كيفما أرادوا ارتجالاً، مع بعض الجمل الادائية المتفق عليها بصورة مسبقاً لايصال رسالتهم الى السجانين والسجناء الحقيقيين ذاتهم.
بعد ذلك تخلت الفرقة عن الاطار الخداع الذي استخدمته في عرضهم المسرحي المعروف والموسوم بـ (الموحد) في محاولة ((لاقناع المتفرجين بان الممثلين مدمنون وبعد عام 1963 اخذت الفرقة تعتمد على نصوص كتبها مؤلفون من خارج الفرقة أمثال جينيه وبريخت))([xii]) أي انه خلال هذه العقبة قدموا مبادرتين اثارتا انتباه الجماهير، أولها العرض (الموحد) الذي جعل الناس تقتنع بان هؤلاء الممثلين هم من المدمنين، وبالتالي حدثت المشاكسات والتداخلات ما بينهم وبين الجماهير مما جعل الحدث بارزاً آنذاك على مستوى تقديم فكرة لعرض مغايرة تماما، يختلط فيه مفهومي الحياة والفن، والامر الاخر ان الفرقة بدأت تعتمد على كتابات جديدة من خارج الفرقة وتقدمها ضمن منظومتها الادائية وفلسفتها في المسرح الحي.
وفي جولات الفرقة خارج أمريكا تحديدا في عام 1964 ((سافر ستة وعشرين عضوا فقط حيث عاش الجميع عيشة تعاونية وعملوا بمبدأ الابداع الجماعي، وكان أسلوب الفرقة في العيش والعمل قد اجتذب العديد من المسرحيين الشباب في العالم))([xiii]) وهذا احد الظواهر الفريدة التي ميزت المسرح الحي الذي كان يعيش طاقمه المسرحي حياة واحدة وكأنهم عائلة واحدة، يعملون ويتدربون ويتناولون الطعام ويخرجون ويعيشون سوية، وبالتالي محاولة خلق حالة من التعاون والانسجام والتفاهم، حتى على مستوى تقديم الأداء وبخاصة الارتجالي منه في ظل التفاهم الكبير بين افراد وطاقم عمل الفرقة، فهذه الفرقة عكس هذا الانسجام باهتمامها بمشاكل الناس ومعاناتهم والظروف التي تؤدي بهم الى هذا الحال ولاسيما الظروف السياسية والاقتصادية التي سحقت كرمة الانسان آنذاك فقد تناولت فرقة المسرح الحي كل هذه المشكلات عن طريق عروضهم المسرحية الجديدة بحالة من التمرد على هذه الهيمنات البرجوازية ومحاولة الإطاحة بها عن طريق الاحتجاج اللا عنفي، رغم ان ((العروض الجديدة التي ابتدعها المسرح الحي عروض ملتزمة في أساسها، ولكن الالتزام هنا لا يعني الالتزام بمبادئ سياسية او اقتصادية كالتزام الكاتب مثلا وانما التزام بشيء اعم من ذلك هو ازمة الانسان المعاصر عموما، وأزمة الانسان الأمريكي خصوصا))([xiv])
هذا الشكل الجديد من المسرح الحي يمثل تفاعلا كبيرا مع الجمهور فمشهد الموت الجماعي في احد عروضهم ومشهد تلوي ((الممثلين الما تحت اقدام الجمهور كانما انتابهم جميعا وباء الطاعون يحدث تاثيراً غريبا في الجمهور، فاذا كنت حاضرا احدى الحفلات التي يقدم فيها المسرح الحي هذا العرض واستطعت ان تحتفظ لنفسك ببعض الهدوء الاكاديمي ولم تشارك فيما يحدث امامك لرأيت بنفسك كيف ان افراد الجمهور في هذا المشهد يهبون واقفين من مقاعدهم وتنتابهم حالة من الهستيريا فيضحكون ويبكون ويصرخون ويلمسون أجساد الممثلين الذين يتمرغون امامهم على الأرض وفي بعض الأحيان يضربونهم كأنما يجدون فيهم صدى لكل العذاب الذي يكبتونه في انفسهم ولا تمكنهم نثرية الحياة اليومية من التعبير عنه))([xv]) فكل متفرج سيرى صورة من صوره الداخلية القابعة في ذاته تتجلى امامه، والصرخة المخنوقة داخله، تطلق امامه من الممثلين وبحرية مطلقة، مما يفضي لمشاركة قسرية من قبل العديد من المتفرجين لهذه العروض المسرحية.وجرى خلال شهر شباط من عام 1970 حدثاً مهماً اذ اعلن عن حل الفرقة والدعوة الى هجرة الفن وتحطيمه ورفض المسرح والاستعانة عنه بافعال مباشرة بالواقع مع الناس في محاولة منهم للتعبير بطريقة علاجية لنقل افكارهم وافعالهم الى الجمهور وتطبيقا لنموذج التمثيل المقوض لذاته الذي استخلص من تجربتهم كما يذكر كريستوفر اينز([xvi]) أي الاكتفاء بالافعال الادائية المباشرة التي ترتكز على تثوير المتفرج إزاء قضايا مجتمعية وسياسية سلبية يريد أصحاب المسرح الحي اثارتها واشراك الناس فيها. وترى جوديث (مالينا) إن على الممثل أن يهتم بالطقوس البدائية والصوفية وكأنه كاهنا، حتى أنها في أعمالها الأخيرة طلبت من الممثلين أن يظهروا عراة أو نصف عراة. وفي بعض عروضها كانت حركات الممثلين اكروباتيكية أو ارتعاشية او صرخات تتخللها لحظات صمت وجمود ومواقف روحية، فضلا عن حركات اليوجا والرياضة وانفجارات الغضب والأنين والعواء بصوت عال مستفز للجمهور في الشارع، والعرق يغمر أجسادهم العارية واللعاب يتحدر من أفواههم، وهم يدعون الجمهور إلى المضاجعة بدل الحرب وتظل الأغاني المترددة كإغراءات كامنة، ضاجعوا بدل أن تحاربوا – حرروا السود – اقضوا على البوليس – اقضوا على الدولة – تحيا الفوضوية([xvii]) ان مشاهدتك لاجساد ممثلي المسرح الحي وهي تتلوى وكأنك تشاهد معراج صوفي يحاول ان يخلق لنفسه تشكيلات جسدية تقربه من أداء الطقوس البدائية والكشف عن ذاتية هذا الفرد وصرخاته ووجعه الداخلي إزاء ما يجري في هذا العالم من قهر على حساب الفرد. ان جسد الممثل هو العنصر الابرز والمميز الذي يعتمد عليه العرض المسرحي في ابراز المعاني والدلالات للمتلقي من خلال قدرته التعبيرية واستغلال الوسائل البصرية والسمعية على حد سواء فهو المسؤول الاول عن توصيل ما يدور في ذهن صاحب الفكرة المسرحية من معان الى المتلقي([xviii]) فالجسد لدى ممثل المسرحي الحي فاعل من الأنظمة الصوتية حتى الايماءات والدلالات وصولاً الى وصلات الرقص الصوفية التي يقدمها وصرخات الاحتجاج، فكل الجسد فاعل كايقونة واحدة لتقديم فكرة العرض المسرحي أولا ولتحريض وتثوير المتلقي ثانياً. وتقصى الكاتب عروض فرقة المسرح الحي المؤرشفة في موقعهم الرسمي، واطلع على الية التبرع المالي من جميع الدول لدعم هذه الفرقة التي اثقل كاهلها (ايجار) مبنى يكون مقراً لهم ولمسرحهم، فهم فتحوا التبرع المالي من اجل مد مشروعهم بالجانب المالي للاستمرار، بعد ان تعرضوا لمضايقات كثيرة في سنوات متفرقة بسبب افلاسهم المالي ومطاردهم بسبب الضرائب، وحتى ان المسرح اصبح في الوقت الحالي يسمى (شركة المسرح الحي)، وقد كتبت جوديث مالينا على واجهة موقعها الالكتروني: ((منذ 65 عامًا، وجدت أنا وجوليان بيك مسرح Living Theatre ، وما زال يلعب دورًا تلو الآخر. The Living Theatre عبارة عن شركة من الممثلين الذين يريدون إحداث الثورة اللاسلطوية اللاعنفية الجميلة. أردنا العثور على مسرح من شأنه أن ينمو مع التاريخ والتاريخ، لهذا أطلقنا عليه اسم مسرح L I V I N G، لأننا أردنا أن يتغير بمرور الوقت. يقول الناس “نعم – العالم في حالة سيئة، وهناك حروب وأهوال مستمرة طوال الوقت. لكن ماذا سأفعل؟ من أنا؟ ماذا افعل؟’ ولإعطاء الناس الإحساس بأن هناك شيئًا ما يمكنهم القيام به، وأنهم يتمتعون بالتمكين، يبدأ ذلك في المسرح))([xix]) وعن مسرحهم وفلسفته فقد طرح أصحابه بعض التساؤلات كديباجة واضحة للتعرف بمسرحهم، ((من نحن لبعضنا البعض في البيئة الاجتماعية من المسرح، لحل العقدة التي تؤدي إلى البؤس، لنشر أنفسنا، عبر طاولة الجمهور، مثل الأطباق في مأدبة، لتحريك أنفسنا، مثل الدوامة التي تجذب المتفرج، خلال الحدث، لأبكي “ليس باسمي!”في ساعة التنفيذ ، للانتقال من المسرح الى الشارع، هذا ما يفعله The Living Theatre ،هذا ما كان يفعله دائما))([xx]).ومن معطف المسرح الحي خرجت العديد من المسارح والتيارات والاتجاهات التي اشتغلت على هذه الثيمات، بالارتكاز على المتغيرات الكبيرة خلال القرن العشرين وما احدثه الوعي الجديد ورسم صورة مغايرة لعلاقة الفنان مع الجمهور عبر المسرح. بقي ان نقول ان كل أرشيف المسرح الحي ووثائقه متوافرة في الموقع الالكتروني لشركة المسرح الحي، وهو بالواجهة المزينة بصورة الزوجين جوديث مالينا، وجوليان بيك، والشركة تقدم عروضها الان في انحاء العالم، وتشارك في المظاهرات والاحتجاجات المجتمعية السلمية، وتندد بالحروب واي قرارات تعسفية في واقع البلدان، ومالينا هي من تقود الفرقة حاليا بعد وفاة زوجها جوليان بيك.
الإحـالات:
[i] سامي عبدالحميد ، ابتكارات المسرحيين في القرن العشرين، (بغداد:د:دار الهنا للعمارة والفنون ،2009)، ص290.
[ii] المصدر نفسه ، ص192.
[iii] ينظر:المصدر نفسه، ص292.
[iv] د.سمير سرحان ، تجارب جديدة في الفن المسرحي،(بيروت: المركز العربي للثقافة والعلوم،ب ت)، ص100.
[v] سعد اردش ، المخرج في المسرح المعاصر، (الكويت: سلسة عالم المعرفة ، 1979)، ص218.
[vi] سامي عبد الحميد، ابتكارات المسرحيين في القرن العشرين، مصدر سابق، ص294.
[vii] سامي عبد الحميد، ابتكارات المسرحيين في القرن العشرين، (بغداد:د:دار الهنا للعمارة والفنون ،2009)، ص294-295.
[viii] ينظر: ابي صعب بيار، موت الفوضوي التائه جوليان باك، مجلة اليوم السابع الاسبوعية، العدد 74 ، تشرين الاول، 1985، ص36-37.
[ix] سامي عبد الحميد ، ابتكارات المسرحيين في القرن العشرين،مصدر سابق، ص295.
[x] المصدر نفسه، ص297.
[xi] المصدر نفسه، ص295.
[xii] سامي عبد الحميد، ابتكارات المسرحيين في القرن العشرين، مصدر سابق، ص296.
[xiii] المصدر نفسه ، ص296.
[xiv] د.سمير سرحان ، تجارب جديدة في الفن المسرحي،(بيروت: المركز العربي للثقافة والعلوم،ب ت)، ص99.
[xv] د.سمير سرحان ، تجارب جديدة في الفن المسرحي ،مصدر سابق،ص207-208.
[xvi] ينظر: كريستوفر اينز ، المسرح الطليعي ، ترجمة : سامح فكري،(القاهرة : اكاديمية الفنون ، 1994)،ص363.
[xvii] جيمس روس ايفانز، المسرح التجريدي من ستانسلافسكي الى اليوم، ترجمة: فاروق عبد القادر (القاهرة :دار الفكر المعاصر ، 1979)، ص 118.
[xviii] المر رايس، المسرح الحي، ترجمة: داود حلمي السيد ،(القاهرة : دار نهضة مصر للطباعة والنشر، 1965)،ص311.
[xix] الموقع الرسمي لجوديث مالينا وجوليان بيكhttps://www.livingtheatre.org/about
[xx] الموقع الرسمي لجوديث مالينا وجوليان بيكhttps://www.livingtheatre.org/about
** حيدر علي الاسدي / ناقد واكاديمي