قليل على الحارثي .. كثير على المسرح .. / بقلم : يوسف الحمدان
فهد رده الحارثي .. حرث إبداعي متواصل في بستان الإبداع منذ أخذت جمعية الطائف للفنون والثقافة على عاتقها اختبار كل مفردات وعناصر ورؤى المسرح في ورشتها المسرحية التي كان يرأسها والتي أصبحت مختبرا حيويا خلاقا لإنتاج المسرح النوعي المغاير في المملكة العربية السعودية ..
عبر هذه الورشة ( الحرثية ) ، انطلقت وتشكلت رؤى المبدع الحارثي المسرحية ، والتي معها تشكل النص الفعل ، النص الوامض ، النص الذي يشي ويلمح ، النص الذي يختبر رؤاه وفق معطيات التخلق التجريبي في العرض ، النص الذي يختزل الأحداث في حدث والشخصيات في شخصية ، والشخصية في أحداث وأفعال ، النص الذي يجذي شرارات جمر المعاني والدلالات في اشتباكات الأمكنة والأزمنة والرؤى البعيدة التوقع والتصور ، النص الذي لا يكف عن المباغتة في كل شظية تتوارى خلف كلماته وأفعاله ودلالاته ، النص الذي لا يعلن موقفه من الصراعات التي تحتدم في شرايين وأوردة كل تفاصيل وتضاعيف أنسجة تكونه واشتباكاته ، بقدر ما يدفعك كمتلقي لاكتشاف كل هذه الحالات في ذاتك ، النص الذي يختبر مخيلتك ويدعوك لمحاورتها بوصفها جزءا قارا وجدليا ومريبا ومواربا في العرض .
المبدع الحارثي ، الساكن المتحرك ، الهاديء المعتمل ، الصاخب المتأمل ، عراب النص الذي تكسوه هيبة الخلق حتى إبداع آخر ، وحتى اكتشاف هو ورطة من يتصدى لقيادته ومن يحلله ويقرؤه ومن يتلقاه ويلتبس في مدى تماسه وتعالقه مع رؤاه وأحداثه ومراميه ، العراب الذي تحفز كلمات نصوصه الفعل على محاورة الفراغات التي ترصف سكك الحراك والتخلق لمن سيتصدى لها ، وتتحدى إمكانية أن تكونها فعلا بديلا لكل كلمة تصدر منها ، وتطل في نهاية كل خلق من خلال نافذة ضبابية تتماهى مع الحارثي بوصفه القريب البعيد الرائي في النص والفعل والصورة والرؤية والرؤيا .
تبدو نصوص الحارثي في أغلبها أشبه باللعبة ، إن لم تكن اللعبة ذاتها ، وللعبة في المسرح مقام ومنزلة الفعل ، ومستحث التخلق والتجسد والاكتشاف ، إذ تبدو هذه اللعبة في مستهل العرض واضحة سافرة ، إلى أن تمضي بنا إلى لعبة أخرى ظننا أننا عرفناها ، ولكننا في نهاية الأمر وقعنا في حبائل ريبتها منذ ابتدأت ، وهنا ينبغي على من سيتصدى لها أن يكون لاعبا ماهرا في فك وتفكيك رموز ودلالات اللامرئي في هذه اللعبة ، قبل الاستسلام لما تبدى واضحا فيها وهو خلاف ذلك تماما .
وللعبة في مسرح الحارثي مقتضيات ، حيث الخفة والرشاقة والتفلت المخاتل ، حيث الكلمة لديه تتحول إلى طائر بحجم نسمة الهواء وخفة رفيف الفراشة وارتعافات همسها .. تتراقص الحروف من بين ضفتي نهره المنساب كما روح لهفى لشوق يتمسرح على إيقاع أنفاسها ..
الحارثي كان يرى المسرح ، كما يبدو ، منذ انتمائه له في أوائل ثمانينيات القرن الماضي ، يراه مستقبلا يتجاوز زمنه ، لذا كانت أغلب نصوصه المسرحية ، كتابة وتقنية ورؤية ، تشكل وهجا مسرحيا مستقبليا في مسرحنا الخليجي ، وأزعم أنها تتملك الريادة فيه ، لأنها جاءت منذ تكونت مكتنزة بهذه الروح الرؤيوية المستقبلية المعاصرة المغايرة ، وراكمت عبر اعتمال الحارثي في مختبرها الاشتباكي ، رؤى جديدة حداثوية الانتماء والاتجاه ، استوقفت الكثير من المخرجين والدارسين نظرا لأهميتها الإبداعية ، ولعل من أهم نصوصه ، وهي كثيرة ، البروفة الأخيرة ، يوشك أن ينفجر ، تشابك ، بعيدا عن السيطرة .
مبدعنا فهد رده الحارثي ، لم يكن مؤلفا مسرحيا فحسب ، إنما هو في رأيي ، أكاديمية مسرحية إبداعية متميزة واستثنائية في خليجنا العربي ، بل في وطننا العربي ، خاصة وأن تجربته نهلت من معين الثقافة المسرحية الخلاقة ، تأليفا وإخراجا وتدريبا وفكرا ، وكان هو في كلها عصارة إبداعية فريدة ألغت بظل بستانها الوارف على التجربة المسرحية السعودية ، وخاصة في الطائف ، كما استحقت بفضل تميزها جوائز وأوسمة التقدير والتكريم في فسحنا الثقافي الخليجي والعربي .
الحارثي ، قد أخطيء إن وصفته بالمتفرغ للكتابة المسرحية ، ذلك أنه غارق حتى أقصى أقاصي الخلق والإبداع في تلابيب المسرح كله بمختلف عناصره وتشكلاته ، فهو بحد ذاته مسرح يمضي في أروقة المسرح بثقة وحب وجدارة ، محاورا ومشاكسا ومكتشفا ومتأملا ومتخلقا ومتجسدا ومشتبكا ومتقاطعا ومحتجا ومضيئا ، ليكون المسرح موازيا لهذه التحولات والمنعطفات التي تضج بها روح الحارثي التي تأبى إلا وأن تكون مسرحا وإن توقف المسرح نفسه في الفضاء الذي اختاره لأن يكونه .
إن مسرح الحارثي مستمرا وفاعلا ، ليس في مؤلفاته المسرحية فحسب ، أو أعماله المسرحية التي أخرجها ، أو الورش المسرحية التي تصدى للتدريب فيها أو إدارتها ، أو في كتاباته التنظيرية في المسرح ، أو في رؤاه الجدلية في ملتقيات الفكر المسرحية ، وإنما في كل كلمة وامضة تصدر في أصبوحاته وأمسياته التي يرسلها عبر الوسائط والوسائل الإعلامية والاجتماعية ، وخاصة في الفيس بوك ، وكما لو أن الحياة رسمت قدره كله بالمسرح ليكون المسرح والمسرح يكونه ..
فمن يكرم الآخر ياترى ؟ وهذا ليس عيبا !!!