رسائل من قطط / أ.د مجيد حميد الجبوري

                      

      قراءة في مجموعة (بزازين) للكاتب جاسم المنصوري / الجزء الأول

                                                       

إن الكتابة للمسرح تُعد من أصعب فنون الكتابة الإبداعية؛ ذلك لأنها تتطلب تركيزاً ذهنياً عالياً، واحساساً عاطفياً متدفقاً، وتعاملاً دقيقاً مع إيقاعاتِ التوتر الدرامي وتقلباته؛ كما تتطلب قدرة خلاقة على إنشاءِ وخلقِ شخوص يُفترض أن يكونوا مختلفي الطبائع والسلوك؛ إضافة الى قدراتٍ تواصليةٍ على تصويرِ الأفعالِ الدراميةِ المرئيةِ والمسموعة؛ فضلاً عن درايةٍ وافيةٍ بتفصيلات عمليةٍ تتعلق بالعناصرِ والمستلزماتِ الفنيةِ والتقنية الخاصة بفن المسرح؛ مثل: السينوغرافيا والديكور والإضاءة والأزياء والمكياج وغيرها؛ على أن يتمَ التفكيرُ بجميعِ تلكَ العناصرِ والوسائلِ دفعة واحدة وفي آنٍ واحدٍ أثناء لحظةِ الكتابة؛ وهذه تُعد مهمة عسيرة ومعقدة على كلِ من يغامر بالكتابة الدرامية. فالمسرح ليس خطاباً يقرأ؛ أو سرداٍ يُروى؛ أو شعراً يُنظم ؛ أنه أدبٌ يمشي– كما يصفه لايوس آجري – بل هو أدبٌ يحيا وينمو بالأفعال والشخوص والصراع والأفكار؛ أنه فن ال(هنا) و(الآن) ؛ انه الفن الحاضر الماثل بيننا،الذي يتنفسُ كما نتنفسُ ، ويرى كما نرى ، ويفكر كما نفكر ؛ ويفعلُ كما نفعلُ.

لا يُراد من هذه المقدمة التنظيرية المطولة التعريف بالكتابة الدرامية؛ بقدر ما يُراد منها: أيضاحُ الكم الهائل من الجهود المضنية التي يبذلها الكاتب الدرامي عند صياغته لمشاهِدِ مسرحياته؛ لذا فلا بد في البدء من الإشادة بالجهود المضنية والمحمودة للكاتب (جاسم المنصوري) وهو يقدم لقرائه (أثنتي عشرة مسرحية) دفعة واحدة؛ في مجموعته المسرحية (بزازين .. رسائل من قطط). والكاتب (المنصوري) هو شاعر شعبي وأعلامي حاصل على شهادة الدبلوم في علوم الحاسبات؛ قدمت له الفرق المحلية في البصرة عدة مسرحيات؛ وحصدت مسرحياته على أربعة جوائز متقدمة في مسابقات ومهرجانات عراقية مختلفة.  وللتنويه للقارئ العربي فإن مفردة (بزازين) التي جاءت عنوانا رئيسا للمجموعة؛ هي مفردة عامية باللهجة العراقية المحلية؛ تقابلها مفردة (قطط) بالعربية الفصحى. وقد أقام (ملتقى جيكورالثقافي) في يوم الثلاثاء الموافق 6/9/ 2022 أمسية أحتفاءً وحفل توقيع لمجموعته المسرحية الأولى؛ وألقيت فيها ثلاث قراءات نقدية لنصوص المجموعة من بينها قرائتنا هذه؛ إذ بعد أن أتيحت لنا  قراءة هذه المجموعة قراءة متأنية ومتفحصة ؛ خرجنا بالأنطباعات الآتية:

لا يتوفر وصف.

  1. المغايرة والجدة: حاول الكاتب (جاسم المنصوري) طرق باب المغايرة والجدة في مجموعته المسرجية بثلاث حالات؛ أولاها تتعلق بعتبات النصوص؛ وثانيتها تتعلق بأستخدامه لمصطلح (شخوص المسرحية) بدلا من مصطلح (شخصيات المسرحية)؛ وثالثتها أستخدامه لمصطلح (بيئة العرض) بدلا من مصطلحي (الديكور) أو (السينوغرافيا) ؛ وأحسب أن الكاتب أبتغى – فضلا  عن نشدانه المغايرة– أهدافا أخرى؛ ففي الحالة الأولى التي تتعلق بعتبات النصوص وأقصد بها  عنوانات مسرحيات المجموعة؛ التي جاء بعضها موسومة بمفردات عامية مثل: بز..زازين، جوزدان، حاويه، نرماده؛ فنحسب أن الكاتب أراد منها؛ التأكيد على محلية موضوعات مسرحياته من خلال أستخدام مفردات متداولة في اللهجة العراقية المحلية؛ كما عمل على توظيف ما توحيه تلك الألفاظ من دلالات جاعلا منها ثيماتٍ فكريةٍ تستفز الذاكرة ؛ وتحمل المتلقي على التفاعل معها؛ والتفكير بها؛ والمبرر الثاني المذكور؛ يمكن أن يُقال عن عنواناتِ المسرحيات الأخرى: ذات ليلة زرقاء، لاصق ، قبل الآن بساعة، أنا… الآخر، إغتسال،وسواها، بما يحقق لنصوص المجموعة أستجابة محمودةلدىجمهور القراء ؛ ومن ثم جمهور المشاهدين في حالة عرض تلك النصوص على المسرح؛ أما يتعلق بالحالة الثانية التي أستخدم فيها الكاتب مصطلح (شخوص المسرحية) بدلا من (شخصيات المسرحية)؛ فقد وجدت عند مراجعتي لقواميس اللغة الأنكليزية أن مصطلح (شخوص) هو الترجمة الأكثر دقة لكلمة (Characters) الإنكليزية من ترجمة (شخصيات) المتداولة في النصوص المسرحية العربية؛ وهذه ألتفاتة تنبيهية ذكية للمؤلف؛ وهي دعوة للكتاب المسرحيين ليستخدموا مصطلح (شخوص) بدلا من (شخصيات) في كتباتهم المسرحية اللاحقة ؛ وبمناسبة الحديث عن شخوص مسرحيات هذه المجموعة؛ فقد تم ملاحظة أن الكاتب يتجنب أستخدام أسماء صريحة لشخوص مسرحياته ما عدا في مسرحية واحدة؛ ونرى أن الكاتب أراد بذلك الأشارة الى أن هؤلاء (الشخوص) لا يمثلون شخوصا محددين؛ بل هم يمثلون أناسا من عامة المجتمع؛ وحتى في مسرحيته الوحيدة التي ذكر فيها أسماء صريحة وهي مسرحية (ذات ليلة زرقاء) التي وردت فيها أسماء: (أحمد؛ جوهر؛ ورود)؛ فأن الكاتب لم يعمد الى تحديد أسماءٍ معينة؛ بقدر أشتغاله على المعاني الدلاليةلتلك الأسماء؛ فشخصية (أحمد) كما تظهره المسرحية هو شخص مفكر حميد في فعاله وخصاله؛ لكنه طُورد وتغرب من وطنهبسبب ملاحقة الأنظمة التعسفية له؛ وبالتالي فأن دلالة الأسم – هنا – تشير الى أن كل من  كان أحمداً في فكره وأفعاله وخصاله؛ فإنه يكون عرضة للمطاردة والملاحقة ؛ ودلالة أسم (جوهر) جاءت معبرة عن جوهر ذلك الأنسان العراقيالأصيل الذي يتذكر أصدقائه الطيبين المهجرين من بلده ؛ وهذا ما أظهره نص المسرحية في سلوكيات (جوهر) وتصرفاته؛ أما (ورود) الصبية الصغيرة العمياء؛ فيكفي أنها تمثل صورة ورود عمياء وهي صورة شعرية تحمل مستويات دلالية عديدة ربما يأتي في مقدمتها : أن الورود في بلدي أصبحت عمياء أو فقدت بصرها لكثرة ما بكت على  يجري من مآسٍ وكوارث فيه؛ أما بالنسبة للحالة الثالثة المتعلقة بـ(بيئة العرض) فقد أستعار الكاتب هذا المصطلح مما يسمى (المسرح البيئي) الذي تتم عروضه في البيئات الحقيقية التي تجري فيها أحداث المسرحيات أو في بيئات وفضاءات مشابهة للبيئات الحقيقية؛ فهل حقق الكاتب ذلك؛ فعلا في نصوصه؟  أزعم أن الكاتب في وصفه لإماكن وفضاءات نصوصه؛ قد حقق بيئات ملائمة في نصين مسرحيين ومشهد واحد فقط؛ والنصين هما: (قبل الآن بساعة) – ينظر:ص104؛ و(مسرحية حارس)- ينظر: ص 114؛ وكذلك في المشهد الثاني من المسرحية الأولى الموسومة (ذاتليلة زرقاء) ينظر:ص14 ؛ أما في باقي المسرحيات فأن وصف الفضاءات التي تجري فيها أحداث تلك المسرحيات ؛ هو وصف أما لديكورات مسرحية مصنوعة ؛ أو وصفا لسينوغرفيا فضاء العرض؛ ولا يعد وصفا لبيئة العرض.
  2. اللغة الشعرية العالية: توفرت نصوص هذه المجموعة المسرحية على لغة شعرية عالية المستوى؛ بل إن مفاطع من خطاب هذه النصوص يشير الى قصائد شعرية صريحة؛ والأمثال على ذلك كثيرة،معظمها تم أستعارتها من شعراء أخرين؛ وقليل منها يعود للشاعر نفسه؛ ونزعم أن عددا غير قليل منها لم يتم توظيفه دراميا بشكل يخدم خطاب النص؛ علما بأن هذه اللغة الشعرية العالية؛ يمكن ملاحظتها في جميع نصوص المجموعة.
  3. المستوى الواحد للغة الحوار: إن لغة الخطاب الشعرية التي ضمنها الكاتب مسرحياته مع ما لها من ميزات الذائقة الجمالية ؛ غير أنها أفضت الى جعل حوار الشخوص ذا مستوىً متعالٍ واحد ؛ فجميع شخوص المسرحيات سواء كانت مثقفة أو مفكرة تتماثل في لغتها مع شخوص متسولة أو باعة متجولين أو عحوز فقيرة أو حارس مقبرة أو لص؛ وهذا ما يفضي الى أن شخوص هذه المسرحيات لم تتكلم بلسانها وبحدود مستوياتها الثقافية؛ بل تكلمت بلسان المؤلف ومستواه الثقافي ؛ وبالتالي فأن هذه اللعة ذات المستوى الواحد أضعفت من مصداقية الحوار المسرحي وأضعفت من قدرته على أقناع المتلقي.
  4. الخلط بين العامية والفصحى: يخلط الكاتب في جميع نصوص مجموعته بين اللغة الفصحى واللهجة العراقية المحلية؛ ومثل هذا الخلط يفترض أن يأتي لضرورات قصوى يتطلبها الموقف الدرامي؛وأن يأتي أستخدام الألفاظ العاميةمبرراً ومستساغا ؛ إلا أن الكاتب أكثر من هذا الخلط وجعله يشكل بنية لغوية دائمة الظهور بمناسبة وغير مناسبة؛ وبمبرر وبلا مبرر؛ مما أربك من تدفق لغة الخطاب المسرحي وأستمراريتها؛ والأمثلة على ذلك كثيرة وتكررت في جميعنصوص المجموعة. ومثال صارخ للإرباك غير المبرر ما ظهر في مسرحية (حارس) على الصفحة 117؛ إذ يقول الحارس مخاطبا نفسه: (( دع عنك الميوعة وكن حارس مهاب والأصح لغة (كن حارسا مهابا)… حتى  اتصير سبع اضرب أكثر واحد يحجي، هكذا يقول عنترة العبسي (هل من المعقول أن عنترة العبسي كان يتحدث باللهجة العراقية!!!) عنتر جان خوش زلمة، الحراسة فن (فصحى) مو ياهو الجان صار حارس (عامية) .
  5. دراميات أم حواريات: يلاحظ أن أغلب مسرحيات المجموعة تبدأ بدايات متوترة؛ لكن تلك البدايات لا تعدو أن تكون أما تمهيدا لأفعال لا تكنمل؛ أو ردودا لأفعال جرت في الماضي وشخوص المسرحيات تسترجع ذكرياتها عنها؛ فنصوص عدد من المسرحيات قدمت تهيئات وأستعدادت جيدة لأفعال محتملة الحدوث؛ غير أنها لم تُحدث تلك الأفعال وأكتفت بمرحلة الأعداد لها فقط ، ونصوص عدد أخر من المسرحيات قدمت ردود أفعال متنوعة وكثيرة ؛ غير أن ردود الأفعال تلك؛ لم تزد عن سردٍ لذكريات أفعالٍ جرت في الماضي، ولم تحدث على المسرح أيضا؛ والدراما كما أسلفنا هي فن ال(هنا) و(الآن) أي أنها فن الأفعال التي تحدث أمام المتلقي في أثناء لحظات التلقي؛ لذا فأن نصوص المسرحيات أنشغلت بالأستذكارات والنقاشات وطرح وجهات النظر المختلفة؛ أكثر من أنشغالها بتقديم حركة الأفعال الدرامية التي تشد أنتباه المتلقي بحيويتها وتدفقها؛ وعليه فأن نصوص المجموعة مالت الى أن تكون (نصوصا حوارية) أكثر من ميلها الى أن تكون (نصوصا درامية).
  6. علامات مهيمنة: هيمن في جميع نصوص المسرحية العلامات الأتية:

1/ اللوحات الجدارية:وهي لوحات مرسومة تكرر ظهورها في عدة مسرحيات؛ وهذا ما ساعد على أبراز أهمية فن الجدرايات؛ والأفادة منه في فضاءات العروض المسرحية؛ ليمنحها سمات جمالية مضافة.

2/ الألوان : إذ لا يخلو أي نص من نصوص المجموعة من ظهور الألوان المختلفة مع تركيز متكرر على ألوان معينة: أولها الأسود وهو اللون الأكثر هيمنة وتكررا في نصوص المجموعة؛ ما يمنح النصوص؛ جوا نفسيا عاما مثيرا للحزن وموحيا بالظلمة الحالكة التي تسود مشاهد تلك النصوص؛ ويأتي بالدرجة الثانية من الهيمنة اللون الأزرق، الذي أقترن بالعتمة والكآبة في المشاهد التي يسود بها هذا اللون؛ ثم يأتي بالدرجة الثالثة اللون الأحمر؛الذي يشير الى الأجواء الدموية والقتل والحرائق التي تسود في المشاهد التي يظهر فيها ؛ وأضعف الألوان ظهوراً هو اللون الأبيض الذي يلاحظ ظهوره في مشاهد قليلة أرتبطت بصور الأكفان والدخان. فضلا عن لونين آخرين هما الأخضر والوردي؛ أذ يظهر كل واحد منهما مرة واحدة فقط. وهذا الأهتمام بالجداريات والألوان يدلل على أهتمام الكاتب بالفن النشكيلي ودرايته بعددٍ من جمالياته.

3/ الرسام: بالنظر لهيمنة اللوحات التشكيلية الجدارية والتوظيف المتكرر للألوان المختلفة فيها وفي غيرها من المكونات؛ لذا فأن ذلك تطلب ضرورة حضور شخص (الرسام) في العديد من مسرحيات المجموعة ؛ كان في بعضها شخصية رئيسية ، وفي بعضها شخصية مكملة؛ وأحيانا يقوم أحد شخوص المسرحية بلعب دور (الرسام) مثل شخصية المرأة حاملة الأخشاب التي ظهرت في مستهل مسرحية (انا .. الآخر) ينظر: ص 30.

4/ الأغاني: وبخاصة الأغاني العراقية الشعبية؛ وربما جاء أختيارها لأن الكاتب – في الأصل – هو شاعر شعبي أو رغبة من المؤلف؛ التأكيد على محلية موضوعاته وأفكاره؛ وهذه الأغاني تظهر في أغلب نصوص المجموعة.

5/تكرار مفردة (العهر) في جميع نصوص المسرحية؛ وظهور مثل هذه المفردة ووجودها المتكرر في أغلب مشاهد المسرحيات؛ يشير الى نقمة الكاتب من العصر الذي يعيشه؛ وموقفه الرافض لهذا العصر وما يجري فيه.

6/ تكرار المفردة العامية (أثول)؛ في جميع نصوص المجموعة ؛ ولربما جاء بعضها القليل مبررا أو مقنعا؛ ولكن العديد منها لم يكن مبررا أو مقنعا وحتى لم يكن مستساغاً.

7/ الأخطاء اللغوية: للأسف الشديد وردت في جميع نصوص المجموعة أخطاء لغوية بمعدل لا يقل عن ثلاثة أخطاء في النص الواحد، وقد توزعت تلك الأخطاء بين أخطاء أملائية وطباعية؛ وأخرى نحوية. ويبدو أن هذه النصوص بعد طبعها لم تتم مراجعتها لغويا ؛ أو لم يتم عرضها على خبير لغوي.

 

** أ.د مجيد حميد الجبوري/ البصرة 6/9/2022

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت