رسائل من قطط/ أ.د مجيد حميد الجبوري

قراءة في مجموعة (بزازين) للكاتب جاسم المنصوري / الجزء الثاني

                                                        

 للدلالة الى ما ذهبنا إليه – في الجزء الأول – من أنطباعات عن نصوص المجموعة؛ فإن الباحث اختار نموذجا تطبيقيا واحدا من بين مسرحيات المجموعة وهو نص مسرحية (أنا … الآخر) التي تتضمن ثلاثة مشاهد؛ وتم أختيار هذا النص كنموذج تطبيقي لتوفره على أغلب الدلالات والعلامات المبينة في  أعلاه أكثر من غيره؛ وبدءً فان عنوان النص المؤلف من كلمتي: (انا)و ( الآخر) تفصل بينهما أربع نقاط – كما يظهر في رسم كلمات العنوان؛ وأن وجود هذه النقاط  بين الكلمتين يدل على وجود مسافة أو تباعد بين الأنا والآخرمن ناحية ؛ وهو – في الوقت نفسه – يؤشر وجود علاقة بين هاتين الكلمتين؛ فـ(الآخر) هنا يحتمل محمولات عديدة فقد يكون المقصود به (الشخصية المسرحية) أو (الممثل) أو (الشخصية الضد) أو (النفس الداخلية للمؤلف) أو يشير الى ذلك التقارب والتلازم  الذي يحدث  بين الشخصيتين الرئيسيتين في المسرحية (الرجل الأول والرجل الثاني) فهما وبالرغم من اختلافهما الظاهري في الآراء؛ فإن المتلقي يكتشف من خلال السياق العام للمسرحية أنهما وجهان لعملة واحدة؛ وأن هذين الوجهين يتغيران بتغير الظروف والحالات التي يمران بها.

وبالأنتقال الى وصف (بيئة العرض) التي جاءت في افتتاحية  المشهد الأول؛فأن المتأمل لها لا يجد فيها بيئة طبيعية؛ بل يجد فيها فضاءً مسرحياً مصنوعاً؛ لذا فأن الوصف الأدق لها: هو (سينوغرافيا العرض) لأن الكاتب قدم فضاءً مسرحيا واسعا؛ وهذا الفضاء مع  أنه جاء حافلا بموجودات كثيرة متحركة وغير متحركة؛ إلا أنه جاء فضاءً مصنوعا ولم يكن فضاءً بيئيا طبيعيا.

لا يتوفر وصف.

يبدأ المشهد الأول من المسرحية بداية درامية متوترة تتمثل بفضاء سينوغرافي متحرك؛ أهم صوره تلك الكراسي التي تنزل من سقف المسرح والمربوطة مع بعضها بحبل يحركه شخص غير مرئي ؛ وصراع وتشابك بين أيدي مجموعة من الشخوص – يرتدون زيا موحدا نصفه بلون أبيض ونصفه الأخر بلون أسود– تحاول هذه المجموعة  الأمساك بأحد الكراسي المتدلية؛ دون أن يفلح أحد الشخوص الفوز بكرسي ما. وفي ذلك أشارة واضحة للصراع على كراسي السلطة الدائم في العراق ؛ ثم وبلا مسوغ واضح يدفع المؤلف الى فضاء المسرح بـ(سبورة بيضاء) أمام أمرأة تضع كومة أخشاب على المسرح؛ لتبدأ المرأة الرسم على اللوحة ؛ وهنا لابد من الإشارة الى فعل الرسم الذي يتكرر ظهوره في أغلب مسرحيات المجموعة ؛ وبعد أن تنتهي من الرسم ؛ تدير اللوحة بأتجاه الجمهور لتظهر عبارة (أحبك ياوطني) مكتوبة على اللوحة؛ يعقب ذلك صوت لطفل وهو يلقي قصيدة مطولة للشاعر السوري (محمد الماغوط)؛ ويلاحظ أن القصيدة بكل ما تحمله من معانٍ وأفكار تحريضية هي أعلى من مستوى تفكير طفل؛ كما يلاحظ بأن القصيدة بكل محمولاتها تبدو ضعيفة الصلة بالمواقف الدرامية التي سبقتها؛ فيما عدا العبارة الأخيرة الواردة في تلك القصيدة؛ التي يمكن أن تحمل تساؤلا أستنكاريا على عبارة (أحبك ياوطني) المبينة أعلاه ؛ والتساؤل هو: ((ولكنأي وطن هذا الذي يجرفه الكناسين مع القمامات في آخر الليل؟))… ص: 32 . وبعد هذه القصيدة تنتقل المسرحية الى المشهد الثاني الذي يبدأ بمشهد أستهلالي ثانٍ؛ وهذا يعني بداية جديدة لنص مسرحي جديد؛ لا صلة له بما تقدم؛ وهذا ما يحدث فعلا؛ فوصف سينوغرافيا المشهد الثاني تختلف عن سينوغرافيا المشهد الأول إلا بعنصر واحد وهو الحبل المتدلي المعلقة عليه هذه المرة لعبَ أطفال وخيوطاًخضراء؛ مضاف إليهقطعةُ حجرٍ كبيرةٍ تتوسط المسرح؛ لامبرر واضح لوجودها؛ ليستغرق المشهد الثاني بموضوع آخر لاعلاقة له بموضوع المشهد الأول؛ إذ يقدم هذا المشهد نقاشا مطولا بين شخصين جديدين لا صلة لهما بشخوص المشهد الأول هما (الرجل الأول) و (الرجل الثاني)؛ يوضح النقاش دراسة تفصيلية عن ماهية الحبال ووظائفها وأنواعها وأدوارها ومقارنات بينها؛ فهناك الحبل السري، وهناك حبل المشنقة وحبل نشر الغسيل وحبل الوصل وحبل الأفكار والحبل الشوكي وحبل المودة وحبل الوريد؛ وحبل صلة الإنسان بالرب؛ وتفضي هذه الدراسة الى النتائج الآتية: أن أنفع الحبال هو الحبل السري؛ وأشنع الحبال هو حبل المشنقة، وأقصر الحبال هو حبل الكذب، وأوثق الحبال هو حبل المودة، وأقرب الحبال هو حبل الوريد؛ أما أعظم الحبال وأقواها هو حبل الصلة بالله؛ ومع طرافة هذه الدراسة الأحصائية وفرادتها ؛ غير أن جميع تلك الحبال لا يكون لها أي تأثير درامي في نص المسرحية؛ فيما عدا حبلٍ واحدٍ يظهر في بداية المشهد يلتف حول رقبة (الرجل الثاني) بينا يحاول (الرجل الأول) فك  ذلك الحبل غير أنه يزيد من لفه على رقبة الرجل الأخر؛ ليختفي الفعل الموحي بالشنق في زحمة النقاشات حول أنواع الحبال وأدوارها. لذا فإن المشهد الثاني الذي أستغرق في شرح الحبال وأدوارها ووظائفها؛ لم يزد عن التذكير بمعلومات معروفة للمتلقين جُمعت في موضع واحد؛ وهو يُعد سرداً فائضا عن الحاجة من الناحية الدرامية؛ إذ لم يفضي هذا المشهد الى شيء محدد؛ سوى الإيحاء بأن الرجل الثاني يفكر كما يفكر الرجل الأول؛ وأن الآخر هنا يمكن أن يصبح نسخة من الأنا في أي وقت ممكن. والكاتب في أشارته الى أن هذا المشهد هو أستهلال يعترف – ضمناً – بأن وظيفة هذا المشهد هي الأعداد والتهيئة لفعل أو حدث قادم . أما الأستذكارات السردية الأخرى؛ التي ترد في هذا المشهد عن نوافذ مشرعة تتسع للجميع وعن ذكريات حزينة للمهاجرين والمغتربين، وعلاقات حب ومطر يتدفق يبلل الناس والطرقات، ودنيا بريئة خالية من النفاق والرياء، وأمهات أصيلات غادرن مع الغروب؛ فتلك صور شاعرية لم تقدم للمسرحية أضافة أو تصعيدا على المستوى الدرامي ؛ وتأسيسا على ما تقدم فأن ثلثي المسرحية اللذين يشكلان المشهد الأول والمشهد الثاني يمكن أختزالهما وتكثيفهما بمواقف درامية ثلاث لا تستغرق من الزمن أكثر من دقائق ثلاث؛ هي : أ-تشابك وصراع الأيدي للأمساك بكرسي ما وفشلها في ذلك؛ ب- تساؤل(الماغوط) الأستنكاري الذي لا يزيد عن العبارة الأخيرة الواردة في نهاية قصيدته؛ جـ -محاولة (الرجل الثاني) شنقه لنفسه؛ وعدم أكماله لتلك المحاولة؛ وفيما عدا ذلك فهو يُعد  فائضا عن الحاجة من الناحية الدرامية ويمكن رفعه دون أن يؤثر على الحبكة الدرامية للمسرحية ؛ وهنا لابد من التذكير بأن فن المسرح هو فن التكثيف والأختزال وليس فن السرد والأسهاب؛ وهو فن الأشارة والأيحاء وليس فن الشرح والأطناب.

أما المشهد الثالث الذي يجري بأجواء مغايرة للمشهدين السابقين والذي يستهل بمعزوفات من الموسيقى العالمية ؛ فانه ينشغل بموضوعين آخرين لا علاقة لهما بما سبق؛ الأول يدور حول حرمة الموسيقى من عدمها؛ والثاني حول الأقنعة المزيفة التي يرتديها أناس هذا العصر؛ ففي الموضوع الأول يقدم الكاتب وجهتي نظر مختلفتين حول الموسيقى الأولى يمثلها الرجل المدني العلماني والثانية يمثلها الرجل المتدين أو الذي يدعي التدين؛ وينحاز الكاتب – بوضوح – الى وجهة النظر الأولى عندما يقدم تسعَ  مبرراتٍ مقنعة؛ لضرورةِ سماعِ الموسيقى؛ في حين يقدم مبررا ضعيفا واحدا للرجل المتدين الذي يُعد الموسيقى جزءً من (لهو الحديث) ويبدو أنه مبرر ليس المقصود به الموسيقى؛ بل المقصود به الأحاديث اللاهية أو التافهة أو المبتذلة؛ وهنا يتضح أن (الأنا) هو الرجل العلماني؛ وأن (الأخر) هو الرجل المتدين أو مدعي الدين. أما الموضوع الثاني والذي يمكن لوحده أن يقدم نصا دراميا غنيا بالأفكار والرؤى لو صيغ بطريقة درامية محترفة؛ فهو موضوع الأقنعة المزيفة التي أعتاد البشر في زمننا الحاضر وضعها على وجوههم؛ فالمشهد يقدم رجلا طاعنا في السن رث الثياب يظهر أمام الرجلين الأول والثاني؛ باكيا وحزينا ومكسورا؛ يرن هاتفه النقال فجاة ويتضح ان الأتصال هو من عشيقة له؛ لينقلب الطاعن في السن الى مراهقٍ عاشقٍ يتغزل بعشيقته ويُعدها بالأموال والثروات. ليدور بين الرجلين (الأول والثاني) نقاش سردي آخر حول الأقنعة المختلفة التي يرتديها البشر؛ والتي سرعان ما يبدلونها بحسب الحالة أو الموقف الذي يمرون به؛ لينتهي النقاش الى نتيجة مفادها: أن الأصلح في الحياة هو أن نعيش بوجوهِ حقيقةٍ ومشاعرَ حقيقةٍ بدلاً من وضع أقنعة مزيفة على وجوهنا؛ وهذه الفكرة تُعيد الى الذاكرة ثنائيتي الكاتب الأيطالي (لويجي بيرانديلو) [ الوهم/الحقيقة] و[ الفن/الحياة] ؛ والتي ترى أننا في الحياة اليومية نعيش بأقنعة مزيفة؛ تخفي حقاقئنا الداخلية؛ لذلك فنحن نعيش في وهم دائم، وبما ان حياتنا أصبحت وهما دائما؛ فأننا نلجأ الى الفن حين نجد فيه الحقيقة التي تم تزييفها في الحياة؛ وأن اللجوء الى هذه الوسيلة؛ يجعل ما هو فن وهمي؛ أصدق تعبيراً من حياة مزيفة ذات أقنعة متعددة؛ وهكذا فأن هذا الموقف الدرامي يجعل (الأنا) هو القناع المزيف اليومي، وأن (الأخر)  هو الحقيقة الوهمية الغائبة عن العيان.

وخلاصة التحليل الآنف تفضي الى أن المسرحية بمشاهدها الدرامية الثلاث أنشغلت بالجدالات والنقاشات وأهملت تدفق وحيوية حركة الفعل الدرامي وأقتصرت على عرض وجهات النظر المختلفة حول موضوعات متعددة؛ فغدت أقرب الى خطاب (الحواريات) وأبعد من خطاب (الدراما) ؛ وأهم ماورد في هذا النص – بأعتقاد الباحث – هو  تعدد مستويات الـ(أنا) و الـ(الأخر) .

** أ.د مجيد حميد الجبوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت