سخرية الواقع بواقعية فائقة / شاكر عبد العظيم جعفر

قراءة لعرض مسرحية لقمة عيش

 

تأليف :جمال صقر

إخراج : محمد سعيد الرواحي

المكان: الدورة الثالثة لمهرجان بغداد الدولي للمسرح (20 ـ 28 أكتوبر 2022)

 

تشتغل آليات الواقعية الفائقة في الفنون التشكيلية والأدبية ومن ثم الحياة المسرحية، ولست اقصد ما رآه بودريارد مفكر مابعد الحداثة الفرنسي في كتابه ( التشبيه والمحاكاة ) وعدها اي الواقعية الفائقة بكونها تعبير عن واقع مزيف وترسيخه لاحقا، بل ما أريده هنا في هذه المقاربة النقدية هو الدقة المتناهية في نقل صورة الواقع والمبالغة في توصيف هذه الدقة ورصفها لمتون الواقع وتقديمه وفق ذائقة مسرحية تبتعد عن القولبة، فقد سعى نص العرض الى تدشين افكار مخففة تحمل بساطتها التي كشفت عن تشكيل اواصر تلقي فائقة هي الاخرى .

ثمة انتقالات رشحت عن المتن الحكائي لنص المؤلف ونص العرض، يقوم بها مجموعة من الشخصيات باداء جماعي هارموني، بطلها شخصية رمضان الذي يمثل تمظهرا لشخصيات كثيرة في المجتمع العربي من الطبقات المهمشة التي تعتاش على راتب شهري، يتسرب اول الشهر بفعل تقشيطي من قبل مؤسسات واشخاص ليتبخر سريعا، وهو مقبل على الزواج، وفي الزواج يتعرض المدعوين في حفل زفافه لامراض بسبب نفاد صلاحية هذا ال(خبز) وبذلك يسعى رمضان الى مؤسسات الدولة ليقدم شكايته حول بائع العيش منتهي الصلاحية دون ان يلقى اي اهتمام، لتذهب به الاحداث الى الانتخابات ويقوم بالتثقيف لاحد الشيوخ على امل ان يرفع موضوع العيش الفاسد للجهات العليا، وبعد فوزه بالانتخابات يخذل رمضان ويرمى رمضان بعيدا من قبل ازلام الشيخ .

لا يتوفر وصف.

في العرض المسرحي (لقمة عيش ) ادرك المخرج ان ترشيق فضاء المسرح وخلوه من اي اثاث يمكن ان يمنح العرض مساحة جمالية ادائية لتحركات وتشكيلات اجساد الممثلين الذين تحولوا في كل انتقالات العرض الى اثاثات مختلفة بحسب الحالة التي تقدم، ويمكن تقسيم حركات العرض وبنيته الى :

  • رمضان والراتب
  • رمضان وزواجه
  • رمضان بعد مشكلة العيش الفاسد
  • رمضان ومؤسسات الدولة
  • رمضان ومركز الشرطة
  • رمضان في الانتخابات لصالح الشيخ حمدان
  • رمضان مرميا ومنقلبا على الشيخ .

وفي الترسيمة هذه يحاول العرض بحركاته بالقيام بعملية نقل للواقع بدقة عالية (واقعية فائقة)، كما لو انه ينقل الواقع عبر الفوتوغرافيا، والسؤال هنا، اليس هو هذا الواقع المعيش في حياتنا العربية؟ ، اليس هذا هو الواقع بكل متعالياته الفاسدة بمنظوماتها المؤسساتية ؟ ويجيب هنا عرض لقمة عيش على هذا السؤال بكل دقة .

لا يتوفر وصف.

فكان الاخراج لو نظرنا اليه بتفاصيله ، يحاول تفعيل امكنة الخشبة بطريقة مدركة لأهمية التنويع الزمكاني، فنجد ان المخرج لم يترك فضاء المسرح دون ان يقوم بتصنيعه ادائيا وحركيا وصوريا من خلال اجساد الممثلين الرشيقة جدا، والانتقالات السريعة من حالة الى اخرى، فكان السر الذي ربط حلقات التلقي وشدها كامنا في الايقاع السريع الذي يتلائم مع روحية الحاضر، كما ان المخرج كان مدركا ايضا وفق البناء البنيوي والسيميائي لتشكيل علامات العرض من خلال تلك الاجساد ذاتها، فالمعروف في العروض المتحولة قدرة العلامة على التحول لتعطي اكثر من صورة دلالية ومعنائية، فكان التحول يطال الممثلين المشكلين لأثاث العرض باجسادهم، وكان هذا الاثاث متحولا هو الاخر .

كما ان الاخراج سعى الى ترصين جماليات العرض الادائية بالاعتماد على كوميديا الاداء التمثيلي التي كانت مغايرة لنسق العروض الضاجة بالواقع الاليم وتراجيديا الدمار اليومي، الى التمترس خلف حضور الغناء الشعبي المتجانس مع يوميات عمان وموروثاتها، فضلا عن الرقص غير المتكلف وغير المفتعل، الرقص العادي الذي من الممكن ان يؤديه اي جسد، ومما زاد في جمالياته ادائه من قبل مجموعة وليس ممثل واحد بنسقية ممتعة .

لا يتوفر وصف.

لقد تنازل العرض عن السينوغرافيا بغية تشكيل سينوغرافيا جسدية بما تقتضيه ضرورة الصورة المشهدية المرتبطة بكل حالة، حتى ان المتلقي لا يشعر بهذا الغياب نتيجة البث الصوري الدافق والمتعدد، بحيث يتنازل المتلقي عن تشكيلات السينوغرافيا المتعارف عليها الى سينوغرافيا تتناغم مع السخرية من الواقع عبر التشكيل الجسدي، الرقص، الاغاني الشعبية .

ان جماليات لقمة عيش بكل ما فيها من سخرية كبيرة من واقع لا يساعد الفرد على العيش بسلام والاحساس بذاتويته تكمن ببساطة التناول لهذا الواقع وبساطة الاداء وبساطة الاخراج . كل شيء في هذا العرض لم يكن مفتعلا مما منح العرض حضورا لامعا وجميلا حد الجمال .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت