” آخر مرة” .. تناول جاد لتيمات عادية / أحمـد خميس
قدمت تلك المسرحية التونسية للمؤلفة والمخرجة (وفاء طبوبى) على خشبة المسرح القومى ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى الدورة 29 والتى أقيمت فى الفترة من 1 إلى 8 سبتمبر 2022 ومدة العرض لا تتجاوز ساعة وربع الساعة ، وقد فاز فريق العمل فى التجريبى بجائزتى أفضل ممثلة مناصفة (مريم بن حميدة) وأفضل ممثل مناصفة (أسامة كشكار) فضلا عن الترشح لجائزة أفضل عرض بالمهرجان وكانت نفس المسرحية قد قدمت فى مهرجان (إيزيس) فى دورته الاولى بالقاهرة أيضا وعلى خشبة المسرح الفلكى بالجامعة الامريكية، كما فازت المسرحية بالجائزة الكبرى فى اخر دورة من مهرجان قرطاج للمسرح.
فلسفة التناول
بداية هناك عروض مسرحية فارقة تعيش فى ذهن المتلقي وخاصة المتلقي المنتبة للتفاصيل المؤثرة والجادة فى العرض المسرحى ، ذلك الذى يعرف تماما الافكار النشطة والاسئلة الجمالية النيرة التى يحتفظ بها لنفسه والتى لا يمكن أن تفارقه وعادة ما يعود إليها كمرجعية جمالية يمكن أن تكون مرشدا له فى الحكم على جودة تيمة ما، أو إختلاف صيغة آدائية لافتة، أو فلسفة ترمى اليها التيمات المتضمنة أو مكان مناسب بقوة لطبيعة عرض بعينه، المسرحية التى نناقشها فى ذلك المقال واحدة من تلك المسرحيات التى يمكن أن نعتبرها نموذج خاصة فى إتجاة (فنون الاداء) وكيفيات الاشتغال عليها بالقدر الذى يجعلك كمشاهد تنتبة لتلك الكفاءة غير العادية فذلك عزف فارق على جسد الممثل ومثابرة جادة وواضحة لانتاج دلالات ادائية فائقة التكوين، فتلك التركيبة المعقدة فى التلوين (الحركى والسمعى والبصرى) التى ضمنتها اللعبة الدرامية المقدمة هنا لا يمكن أن تتكرر الا مع العروض التى تعرف وجهتها تماما، فذاك عرض بنى على مهل كى ينشئ لنفسه طريقا خاصا ، قد لا يكون جديدا إذ يعتمد بداهة على خلط مناهج آدائية تجمع (ستانسلافسكى وجروتوفسكى ومايرهولد وارتو وبيتر بروك) بوعى يهضم تلك الافكار وتلك الطرق فى التدريب وانتاج المعنى والدلالة ولكنه ينسج هؤلاء بوعى الذى ينحت بدقة على جسد الممثل الذى طلب منه فى كل مشهد جديد أن يبدل جلده تماما كى ينشأ مع شخصية مغايرة لا تتفق الا والمعنى العام الذى رمت إليه المؤلفة المخرجة (وفاء طبوبى) والذى يبدو عصيا على المراقب المتعجل فى مسائلة المعنى والفلسفة من وراء تلك الافكار الدرامية وتلك الاحداث التى قد تبدو من الخارج مستهلكة أو معتادة ولا تقدم جديدا ولكنها بالفعل مفعمة بكثير من الاسئلة والبنى التى تغوص فى قلب قضايا الراهن من الداخل ، ذلك الاداء وتلك الافكار فى تدوير اللعبة الدرامية مؤكد تعيدنا للأسئلة الاولى ، حول الفن وأهميته الجمالية ودوره الاجتماعى ، وحول جديد الحكاية وماضيها ومستقبلها ، وحول اللعب الدرامى وأثره وبنياته المغايرة والمعقدة التى يمكنها أن تلمع من جديد وفق تناول يحترم الخصوصية والتشييد .
على جانب آخر بدت تلك الحكايات التى ضمنتها اللعبة الدرامية المتسمة بالعبث الكوميدى الاسود تنحت بقوة فى أصل الموضوع الملح هذة الفترة، فذلك القتل المتعمد الذى يقابلنا وتلك الطرق العجيبة فى الاستغلال والتحرش والاغتصاب أو التنكيل بالجثث أو تشويهها أو قتل الاباء والابناء والازواج وتلك الصراعات التى نشأت نتيجة العنف والضجر والفراغ والوحدة والخوف والطمع واللا معنى كانت حاضرة بشكل أو بأخر فى ذلك التناول – حتى وإن وقفت الدراما فى كل حدث جديد عند نقطة القتل – باعتبارها فارقة فى تشكيل الحدث، لتبدو المسألة فى فلسفتها العامة تساءل ذلك العنف الزائد والتصرف الحاد الذى جنح اليه المجتمع فى الاونة الاخيرة، وعليه فاللعبة الدرامية التى تشيد وتهدم فى ثلاث حكايات متضمنة داخل تركيبة العرض المسرحى تقف أمام نتائج متشابهة وتضعهم جميعا فى صيغة السؤال وتضعنا معهم أمام الحقائق المذهلة التى جنح اليها المجتمع الذى على ما يبدو يغير جلده نحو الانفلات والفوضى، فمع كل مرة تقف اللعبة مشدوهة أمام حقيقة مذهلة عن وحشية الانسان وإنسلاخه من قوانين المجتمع ليلمع السؤال الملح الذى يدور حوله العرض المسرحى (من المسؤول) ؟! هل هو القانون أو التربية أو البنى الاجتماعية الرخوة أو الفقر والجوع، هل هو السأم وتكرار المواقف والتصرف أم تبدل المزاج العام وشيوع الفوضى وعدم إنتباة الرأى العام ؟ هل هو المزاج المنحرف والعزلة المفرطة الذى سببته وسائل التكنولوجيا الحديثة والتى ساعدت بقوة على إعتزال الانسان وشيدت أفكار منفلتة عن كيفيات التعامل حتى بين افراد الاسرة الواحدة والمجتمع الواحد ؟ هل هذا كله ؟
رجل وامرأة فى ثلاث حكايات منفصلة متصلة
قد يقودنا هنا فى هذا التشكيل الدرامى العبثى والمغاير بداهة سوء التفاهم أو عدم التلاقى فى نقطة مريحة أو عدم التواصل المناسب بين رجل وإمرأة ولكن التناول الذكى يطلب منك أن تصبر للنهاية المعقدة كل التعقيد فى كل مرة، فتلك الحكايات المتجاورة لا تركن للعادى فى العلاقات الانسانية الجديدة وإن كانت تقدم لك ما يمكن أن نسميه بالمعتاد – مؤخرا – فكثيرا ما تقابلنا فى تلك الفترة عناوين من نفس النوعية (موظف مسؤول يحاول غواية مرؤسته فى العمل، شاب متهور يصل به حال السأم واللا تحقق والبؤس اليومى لقتل أمه، زوجة ساقتها المشاكل الزوجية اليومية والضجر لارتكاب جريمة شنيعة فى حق زوجها) فى تصورى لم يقصد من هذا التكوين الاشارة أو الميل لتفضيل ما سواء للمرأة أو الرجل وإنما تغوص اللعبة الدرامية لما هو أعمق وتساءل المجتمع والناس والقوانين والدولة والفلسفة، فذلك العنف الذى يتزايد، وتلك التصرفات الوحشية التى تلطمنا يوميا ليست بنت لحظة متهورة أو موقف مباغت، وإنما هى فى الاصل كما النار تحت الرماد تنخر فى عظام المجتمع وتنشئ لنفسها أرضا جديدة كارثية فى أفكارها وعنفها المتشكل من مواقف واحداث معتادة ومتعارف عليها، ومن ذكاء المؤلفة المخرجة كانت البنى الدرامية فى بعض الاحيان تراهن على السخرية فى تكوين الحوار الداخلى ولكنها سخرية مرة وملتبسة ومغلفة بقنبلة المعنى الدفين، فالحوار الكوميدى الاسود يسيطر على كثير من اللحظات والمواقف، ولكنه ضحك مر يشى بنفس مقهورة وتحايل ذكى على قسوة وانفلات كثيرا ما إطلعنا عليهم فى السوشيال ميديا الى الحد الذى بدت فيه تلك التصرفات معتادة ومتوقعة ويمكن حدوثها فى كثير من المجتمعات التى لم تحل بعد مشاكلها الاولية بعد، أو تلك المجتمعات التى غامت فيها الانسانية من قسوة ما مر بالناس فى المجتمع من مواقف واحداث جسيمة ومؤسفة، وفريق العمل فى هذا التكوين الدرامى المزعج يحفر بقوة كى يقف أمام ذلك التكوين المبهم لإنسان هذا العصر ذلك الذى يتسم بالعنف والعزلة والوحشية وتطرف رد الفعل.
تلك الحكايات الغامضة لا يربطها إلا تتبع العنف فى اكثر من موضع إجتماعى يبدو عاديا من على السطح ولكنه مريض ومعقد للغاية ويشير لكوارث وأمراض إنسانية قد تقضى على الكائن البشرى فى المستقبل، أمراض متفشية فى مجتمعات فاشلة تتراكم فيها الضغوط والمشاكل النفسية وتتضخم على نحو مرعب دون أن يدرى أحد، بل وحينما تفاجئنا وسائل الاعلام ببعض نتائجها لا نأخذها على محمل الجد فى التعامل مع الظاهرة لنعود لنقطة الصفر مع كل خبر جديد موجع، وهنا يبدو من تكوين الخرافة المركبة رغبة فريق العرض المسرحى فى نقاش تلك الامور التى قد تبدو عادية ومنتظرة، فالحكاية الاولى تقوم على محاولة بائسة من موظف متسلط ومتحرش فى الايقاع بموظفة صغيرة متزوجة حديثا ساقتها الظروف الصعبة لتقع فى حبال ذلك الوحش الذى يعمل بدأب على النيل منها بأى طريقة كانت، فنراه يناور ويضغط ويسخط منها ويهددها وينكل بها وبما تقوم به من مجهود وظيفى، هنا تقاوم تلك المرأة الواعية للطرق الملتوية حتى النهاية، وتضطر للدفاع عن نفسها فى بعض المواقف لاستخدام وسائل عنيفة .
والحكاية الثانية تتعلق بأم محبطة من تصرفات ولدها الذى عانت كثيرا كى تبنيه كأنسان سوى يعرف طريقه كرجل مسؤول فى أسرة صغيرة ولكنه على عكس ما أرادت خيب أملها برعونته المستمرة وغرقه فى الاحباط العام وعدم رغبته فى مقاومة الواقع الصعب فتحول لشخص مهزوم يرمى بالمسؤولية على غيره ولا يمتلك أى شجاعة أو قوة لمقاومة ذلك والحرص على تغييره، ذلك التراخى أدى به لشخص مستهتر يقضى معظم وقته مع أصدقاء مهزومين يشبهونه فى التصرف والمعيشة والاحباط، ومع تطور الحدث ورغبة الام فى عدم السكوت على هزيمة ولدها ومحاولتها الدؤوبة لاصلاحه بالمساءلة والتوبيخ يتحول الامر فجأة للقتل المتعمد عبر تشكيل حركى يرمى الى عفوية الموقف وسرعته وكأن ما كان جاء عفويا من غير ترتيب من الابن .
والحكاية الثالثة تتناول الضجر اليومى بين زوجين سئما تلك الظروف وتلك التركيبة المعتادة والمشاكل اليومية المتكررة التى تقابلهم وقررا على غير إتفاق أن تتطور الحكاية فيما بينهما الى حد ترصد كل منهما للأخر حتى القتل، فى تلك المرة سبقت الزوجة وفى مرات قادمة قد يسبق الزوج فى التخلص من المرأة التى تجثم على حياته وتحولها لحياة مستحيلة، يبدأ الموقف من المشاكل العادية بين الزوجين ثم ما يلبث الموقف العبثى أن يتنامى بسرعة فائقة حتى نصل للنهاية التى تبدو ككرة من الثلج تتدحرج بسرعة فائقة لتصل لنهاية المنحدر حيث تبدو عملية القتل متوقعة فى ظل الموقف الاجتماعى المتأزم بينهما، قد يقابلك فى ذلك التكوين العبثى بعض الالفاظ والحوارات كوميدية الطابع لتخرج المأساة من قلب الضحك الاسود، فتلك الاحداث التى تضحكنا تحمل مأسى نعرف انها دفينة وقابلة للتنامى والانفجار.
وبمراجعة التيمات الثلاث سنكتشف بداهة أننا فى كل مرة ننتهى عند نفس النقطة تقريبا فالازمة التى تبدأ من عادية المواقف والاحداث تتنامى بسرعة كبيرة مع كل حدث لنصل لقمة الازمة فى كل مرة، وكأننا أمام دوائر لا نهائية من العبث المفرط الذى تفشى وأصبح له مكانة كبيرة فى قلب الحدث الاجتماعى، وتلك الطريقة فى البناء تخرج من المعتاد الارسطى للجمع بين التغريب واللا معنى عبر تناول يتخذ من الترويح الكوميدى الاسود منطقا لتمرير الفلسفة، فالمواقف والحوارات تميل هنا الى صدمة المتلق لتجعله يتسائل ولا يرتاج، أو لتجعل ذهنه متيقظ ومصدوم فلا فكاك من تلك الاوبئة الاجتماعية الخبيثة التى تحفر فى قلب الموقف الانسانى المأزوم
طاولة وكرسيان
المنظر المسرحى هنا بسيط للغاية فقط منضدة مستطيلة وكرسيان وعلى ذلك التكوين أن يتجاوب مع التيمات الثلاثة المختلفة على طريقة جروتوفسكى فى (المسرح الفقير) وعلى فقر المنظر أن ينتج الدلالة المناسبة فى كل مرة، بهذا المنطق العام يبدو التشكيل وكأنه لمنظر محايد يمكن إستخدامه بنفس منطق التكوين فى كل مشهد جديد، ولكنه يعطيك اجابات جمالية تخدم الخرافة المقدمة بنفس الكفاءة المرجوة مع كل تيمة يتم تقديمها، وظنى هنا أن ذلك الاستخدام قصد منه الفقر الموحى الذى عادة ما يستخدمه صناع الافكار الدرامية الكبيرة، فرغم فقر المنظر إلا أن الاستخدام المعقد يمكنه أن يجعل من التكوين سلاحا مهما من أسحلة العرض المسرحى، ففى كل مشهد جديد كنا نتقابل مع الطاولة والكرسيان وفق إستخدام يفى بالغرض فهما مكتب المدير وحجرة معيشة العائلة الفقيرة وعش الزوجية، وعلى وسائل الاداء المختلفة والايقاع أن يشبعوا النسرح بالطرق المناسبة وبمنطق الايقاع الملاءم .
وعلى نفس النهج تقريبا كان إستخدام إضاءة العرض المسرحى تلك التى قصد منها فى بعض الاحيان التلصص على حيوات ساكنة مفعمة بالافكار والتصرفات العنيفة، فتارة يكون استخدام الضوء للتعبير عن قلق الموقف وتارة اخرى لتوصيل الاحساس بكأبة المعنى المطروح او سخونته، إننا هنا أمام طريقة تخلط الدرجات الرمادية والساخنة بالقدر الذى يستحقه الموقف الاجتماعى المعروض، أما عن موسيقى العرض فقد تم إستخدام الايقاعات الافريقية والشرقية بالمنطق الذى يؤهل المتلق لطبيعة التيمة المقدمة ويقربها من روح الشرق، فى بعض المواقف كان المقصود هو تحفيز الممثل ومساعدته بايقاع مناسب جماليا، وفى احيان اخرى كان الهدف تأهيل التلقى للحدث الصعب، وحتى فى التفاصيل الداخلية للتيمات الثلاثة كان للموسيقى شخصية مؤثرة للغاية فى طبيعة الموضوع ودرجات التأهيل والتعاطف والتحفيز والتعقيب
عن: “مسرحنا”/ العدد 791 صدر بتاريخ 24 أكتوبر 2022