جدلية المركز والهامش في المسرح العراقي ما بعد التغيير/ د . ياسر عبد الصاحب البراك
كرّس مشهد الإحتلال الاميركي للعراق عام 2003 قيماً جديدة سواء على مستوى البنية الإجتماعية أو أنساقها الثقافية، إذ وجد المثقف العراقي وبضمنه المسرحي نفسه أمام ازدواجية في الموقف بين قبوله بالمحتل بوصفه مُخلّصاً من نظام شمولي دكتاتوري قاسٍ، وبين رفضه لفكرة الاحتلال التي تتعارض مع الموقف الوطني الذي ينبغي على المثقف اتخاذه والبدء بالمقاومة الثقافية لقيم المحتل التي أثَّرت بنحو سلبي ومميت على النسيج الإجتماعي أولاً والبنى الثقافية ثانياً ، وما زاد المشهد تعقيداً تحكم أحزاب الإسلام السياسي بالمشهد العام وإشاعة التطرف الديني والإرهاب والقتل على الهوية، فضلاً عن الفساد المالي والإداري الذي راح ينخر جسد مؤسسات الدولة بما فيها المؤسسات الأكاديمية والفنية والثقافية، وكان من نتائج هذا المشهد الدراماتيكي بروز النظام الديمقراطي الذي بدأ المحتل بصياغته بوصفه نظاماً بديلاً للنظام الشمولي الذي حكم العراق على مدى أربعين عاماً، وعلى الرغم من الطبيعة التعسفية التي فُرض بها هذا النظام سواء في تأسيس ( مجلس الحكم الانتقالي ) الذي بُني على المحاصصة الطائفية والحزبية، أو الجمعية الوطنية التي انبثقت عنها لجنة صياغة الدستور والإستفتاء عليه ومن ثم قيام أول إنتخابات ديمقراطية عام 2005 وتشكيل أول حكومة مُنتخبة، إلا أن هذا النظام قد قوَّض من فكرة الدولة المركزية وما عادت العاصمة مركز القرار بمفردها، بل أصبح للهوامش (المحافظات) حكوماتها المحلية صاحبة القرار، وانعكس ذلك بنحو واضح على طبيعة المؤسسات الثقافية والفنية التي تحوَّلت إلى مجرَّد أنقاض حاولت أغلبها مقاومة الفكر المتطرف الذي بدأ يضرب بجذوره في بنية المجتمع العراقي ووصل إلى حد تأثر النخب الثقافية والأكاديمية بذلك، ولعل التجسد الواضح لذلك التأثر هو في بروز الهويات الفرعية على حساب الهوية الرئيسة فأصبح المذهب أو القومية أو الحزب أو العشيرة أهم من فكرة الوطن، الأمر الذي أدى في النهاية إلى صعود الهامش الثقافي ومضاهاته للمركز، وقد أعلن هذا الهامش عن نفسه بعدَّة مظاهر نستطيع أن نشخص بعضها في التالي :
1 – التمسك بالهويات الفرعية أدى إلى إنفتاح المسرح العراقي في الهوامش على الكثير من الثقافات المقموعة والمهمشة في ثقافة المركز حيث بدأ الإهتمام بالموضوعات المسكوت عنها فيما سبق وشكلت قضية الإمام الحسين ( ع ) أولى تلك الهوامش التي أعلنت عن وجودها عبر فعاليات عديدة سواء عن طريق العروض المسرحية التي تعاملت مع هذه القضية أو من خلال المهرجانات التخصصية لها، أو عبر الإصدارات التي وصلت إلى حد إصدار مجلة باسم (المسرح الحسيني) ومسابقة للنص المسرحي كذلك .
2 – من ملامح صعود الهامش في المسرح العراقي إنتقال مركز الثقل المسرحي من العاصمة إلى الأطراف عبر إقامة المهرجانات المسرحية المتنوعة، فضلاً عن الفعاليات الأخرى .
3 – وكان من نتائج تضاؤل سلطة المركز لحساب سلطة الهامش أن فرق المحافظات قد استطاعت كسر طوق الإحتكار الذي مارسته فرق العاصمة لتمثيل المسرح العراقي في المهرجانات العربية والدولية فضلاً عن مشاركات الباحثين والنقاد كذلك .
4 – أعلن الهامش عن صعوده أيضاً في المسرح العراقي بوسائل أخرى عديدة أبرزها تأسيس المعاهد والأكاديميات المتخصصة بالمسرح والفرق المستقلة التي اتسعت رقعتها على الرغم من اعتمادها على قدراتها الذاتية.
5 – تجرأ الهامش المسرحي في الإعلان عن نفسه بنحو أكثر تأثيراً حينما أقدمت بعض المحافظات على إقامة مهرجانات مسرحية دولية مثل أربيل والبصرة والديوانية.
6 – دخل الهامش المسرحي إلى مساحات الفعل الأكاديمي عبر البحوث العلمية ورسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه التي تعاملت مع منجزات ذلك المسرح بوصفها مُضاهية لما أنجزته العاصمة.
7 – حصد مسرح الهامش قصب السبق في الممارسة التجريبية للفعل المسرحي تنظيراً وتطبيقاً عبر بروز تجارب مبتكرة في العديد من المحافظات لم يسبق للعاصمة أن عرفتها كما هو الحال في بعض التجارب المسرحية التي قدمتها مدن بابل والناصرية والبصرة.
8 – انشغل مسرح المركز طوال المدة الماضية ما بعد التغيير في كيفية تقديم عروض نخبوية والمشاركة في المهرجانات الخارجية ومارست الفرقة القومية احتكاراً واضحاً في ذلك، بينما نجد مسرح الهامش حاول الانفتاح على الجمهور الواسع عبر العديد من التوجهات المسرحية مثل: مسرح الشارع، ومسرح المقهورين، والمسرح الصامت.
هذا المشهد المتغير الذي فرضته ظروف السياسة والجدل المحتدم بين ثنائية المركز والهامش يمكن أن يظل مستمراً في متوالية لانهاية لها إذا بقيت الدولة ومؤسساتها الفنية والثقافية وفي مقدمتها وزارة الثقافة غير معنية بوضع إستراتيجيات بعيدة المدى لخلق مراكز مسرحية متعددة بلا هوامش مقموعة ومقصية من مساحة المشهد المسرحي العراقي العام، إذ أن بقاء المركز مركزاً والهامش هامشاً في صراع مستمر لا يمكن له أن يُنتج لنا مسرحاً مؤثراً في البنية الإجتماعية، بل على العكس سيكون انعكاساً طبيعياً لتلك البنية المتصدعة أصلاً بفعل ويلات السياسة والحكم التعسفي للظاهرة الدينية العمياء التي اجتاحت الوطن منذ التغيير وحتى الآن وخلَّفت وراءها كل هذا الخراب والألم .
إن المتابعة الميدانية الدقيقة لحركة مسرح الهامش سواء من خلال المهرجانات المسرحية أو عبرالمتابعة الشخصية أو من خلال مواقع التواصل الإجتماعي تكشف لنا سعة هذه الحركة ونشاطها المستمر على الرغم من إعتمادها على المبادرة الفردية بنحو رئيس أو العمل الفرقي الذاتي المستقل الذي مازال يتوسل الدعم الحكومي من أجل بناء إستراتيجيات إنتاجية حقيقية في العمل المسرحي، وهذه السعة تحتاج إلى عوامل ديمومتها التي يمكن أن تُسهم بنحو كبير في إنضاج فكرة المراكز المسرحية المتعددة. ولأجل تحقيق ذلك نقترح بعض الخطوات التي يمكنها أن تُسهم في توفير الأرضية المناسبة لذلك وكالآتي :
1 – عقد مؤتمر وطني عام للفرق والجماعات المسرحية المستقلة والحكومية فضلاً عن الشخصيات المسرحية العاملة وأساتذة الأكاديميات لوضع خطط إستراتيجية للنهوض بواقع المسرح العراقي في المراكز كافة.
2 – السعي لإصدار تشريعات قانونية من مجلس النواب تُلزم بعض الوزارات والحكومات المحلية بتخصيص موازنات عامة لدعم النشاط المسرحي في جميع المحافظات.
3 – إنشاء بُنى تحتية متطورة وخاصة المسارح ذات قدرات تكنولوجية متميزة تتناسب مع ما وصلت إليه المسارح العالمية .
4 – التوسع في إنشاء وإجازة الفرق المسرحية الحكومية والمستقلة وتوفير مقرات ومسارح خاصة بها والتكفل بديمومة إنتاجها المسرحي.
5 – شمول جميع المحافظات العراقية بفتح معاهد وكليات الفنون الجميلة لتوسيع رقعة الدراسة الأكاديمية للمسرح وإلغاء الفصل بين الجنسين في معاهد الفنون.
6 – فتح المجال للمسرحيين المتميزين لإكمال دراساتهم العليا في بعثات دراسية لمختلف البلدان العالمية من أجل الاطلاع على التجارب العالمية ونقلها للعراق.
7 – توسيع مساحة المهرجانات المسرحية الوطنية بما يحقق الحوار الإبداعي بين جميع المحافظات العراقية.
8 – الاهتمام بالثقافة المسرحية العملية والنظرية عبر إقامة الورش المختلفة واستقدام شخصيات مسرحية عالمية لتدريب الكفاءات العراقية، فضلاً عن الاهتمام بنقل وترجمة مختلف النصوص والدراسات المسرحية العالمية.
9 – تفعيل الأشكال والأنماط المسرحية في مختلف الوزارات ذات العلاقة مثل المسرح الجامعي والمدرسي والعمالي والفلاحي والشبابي والنسائي وغيرها.
10 – إطلاق قناة فضائية متخصصة بالمسرح لعرض وتوثيق مختلف النشاط المسرحي في العراق، فضلاً عن عرض الأعمال العربية والعالمية عبرها.
11 – التأسيس لمسابقات وطنية في التأليف والبحث المسرحي لتنشيط حركة التأليف والترجمة وتطوير الفعل الإبداعي على مستوى التنظير والنقد.
12 – إقامة المؤتمرات والندوات الدورية التي تناقش واقع المسرح العراقي وتطوير آليات عمله مع الجمهور المسرحي.
13 – الانفتاح على الجمهور الواسع عبر التنوع في بروغرام الفرق المسرحية لتقديم مختلف التوجهات المسرحية التي تلبي حاجة الشرائح الاجتماعية كافة .
14 – وضع نظام اقتصادي عادل ومنصف سواء في إنتاج النشاطات المسرحية أو في أجور طواقم الفرق المسرحية الحكومية والمستقلة بما يضمن وضعاً اقتصادياً مستقراً لجميع الفنانين المسرحيين.
15 – تشجيع الزيارات بين الفرق المسرحية الحكومية والخاصة لتقديم عروضها بين العاصمة والمحافظات وبالعكس وتوفير المستلزمات كافة لتحقيق هذا الغرض.
16 – العمل بمبدأ تبادل المخرجين والممثلين بين فرق العاصمة والمحافظات لتحقيق فرص متكافئة في الانتشار والعمل المستمر وتلاقح الخبرات.
17 – تخصيص درجات وظيفية في الفرق الحكومية ومكافآت شهرية مجزية في الفرق الأهلية للنساء اللواتي يعملن في المسرح بقصد تشجيعهنَّ على ممارسة العمل المسرحي والإستمرار فيه .
يقيناً أن أي ورقة نقدية أو بحثية ستبقى قاصرة عن الإحاطة بمختلف إشكاليات المسرح في العراق لأنها في النهاية ستكون جهداً فردياً محدوداً، وما لم يتحوّل ذلك الفعل الفردي إلى فعل مؤسساتي مبني على إستراتيجية التحول من القول إلى الفعل ستبقى حركة المسرح لدينا محكومة بعوامل ذاتية قد تقاوم لمدة تطول أو تقصر لكنها في النهاية ستخضع وتستسلم لسياسة الإهمال الحكومي وعدم الاعتراف بأهمية هذا القطاع الثقافي والاجتماعي المهم في حياة الناس الذين ينتظرون من الفن المسرحي الكثير.
* د . ياسر عبد الصاحب البراك