النص المنكتب وإزاحاته الدلالية في النص المسرحي ” ادب سز “* للكاتب علي العبادي/ حيدر جبر الأسدي
يتفرد النص المنكتب عن غيره من النصوص المسرحية بوصفه نصاً إبداعياً ، كونه قابلا للتمركز في بؤر ذهنية يوقدها في لحظة الاتساق والتماهي الجمالي، ويوقظ فيها جذوة الفعل التأويلي، كبنية درامية تعتمد على الانصهار والتمظهر داخل النص وخارجه، وبحسب بارت : “فإن النص المنكتب هو أن يجعل القارئ منتجاً للنص لا مجرد مستهلك”، كذلك فإن ما يوصف به النص المنكتب بأنه متعدد المعاني أو ما يسمى بنصوص معتدلة التعدد فإنها تحتاج كما يقول (بارت) : ” إلى متذوق متوسط لا يستطيع الامساك بها سوى بجزء وسطي من التعدد”، وهذا المعنى يقودنا بأن التأويل الحاصل بالفعل الدرامي عبر نسق النص، يحتاج إلى إيحاء كي نصل إلى المعنى المندثر أو المتواري خلف الجدران، وبحسب مفهوم (هلمسيف) : ” فان الايحاء يشكل معنى ثانياً ليكون دالة من علامة أو نسق لدلالة، فالـ (ت) مثلاً هو النص والـ(م) هو المحتوى والـ(ع) هو العلاقة بين العنصرين، وما يؤسس العلامة هو (ت ع م).
وعليه فان نص “أدب سز ” للكاتب (علي العبادي) ينتمي إلى النص المنكتب بحسب ما أشرنا له في المقدمة، ومن خلال بنية العنوان الرئيسي فأن الكلمتين (أدب/ سز) تشيران إلى عدم وجود الادب والأخيرة كما هو معروف من الكلمات التركية التي دخلت إلى العربية وتستخدم للتوبيخ، وفي هذا السياق هي علامة لفظية تشير إلى سوء أدب مما سيطرح أو أن ما يطرح يستحق توبيخه بهكذا كلمة وهي التفاته موفقة تحسب للكاتب.
انطلق النص بثلاثة مشاهد وهو يصور حالة اجتماعية أو ظاهرة باتت تستفحل في مجتمعاتنا وهي ظاهرة العهر، امرأتان تجلسان على طاولة في إحدى زوايا البيت، تتحدث الأولى لتخبر رفيقتها بأن لديها مشروعاً ، وهذا المشروع غريباً بعض الشيء وربما فانتازي بامتياز ، وهو تأسيس معهد الطهارة لتنقية العاهرات من عهرهن، ليحدث جدل كبير بين الشخصيتين وليدخلنا هذا الجدل في إزاحات دلالية متعددة، ونتلمس ذلك في الحوار الآتي:
المرأة الأولى: ما هذا الموضوعُ الذي يجعلُنا أَنْ نجتمعَ سويةً؟
المرأة الثانية: تذكري جيداً.
المرأة الاولى: لا اعتقدُ هناكَ موضوعٌ يدعونا إلى نجتمع.
هذا الجدل الحاصل في سياق النص يحيلك إلى أمرين: الأول : إن ثمة أمر هام سيحدث قريباً يحتاج إلى تأمل وإصغاء ، والثاني : إن ثمة إزاحة دلالية متعددة يشتغل عليها الكاتب لايهام القارئ ببعض العلامات التي هي ليست مركز التشظي الدلالي، وبظاهر النص أن الأمر متعلق بظاهرة اجتماعية، يحاول الكاتب سحبها إلى منطقة اشتغال حر ليرسل كل مبثوثاته البنيورؤيوية.
فالمرأتان اللتان تمثلان جانباً من العهر المجتمعي ويتظاهران بالعفة والطهارة، فقد سيق بهن مثالاً للعهر، فليس العهر هي تلك الصفة المقتصرة على بائعة الهوى، أو أن العهر بمعناه التداولي مختص بالنساء مثلاً دون الرجل، بمعنى ليس العهر فقط ما هو متعلق بالجنس، فقد يأخذ العهر مديات أوسع ومنه العهر السياسي، والذي سنأتي له تباعاً. وفي المقابل أجاد الكاتب حين طرح فكرة تلبس الرذيلة بلباس الفضيلة وهذا هو النفاق السائد في هذا الزمان وبشكل جلي، وهذه من الازاحات الدلالية التي اشتغل عليها النص ، وقد تكون هاتان الشخصيتان هما ضحيتان لمجتمع مشتبك ومعقد السر والسريرة، إن جاز لنا التعبير ، وهذا ما أشار له (فوكو) عن طبيعة رؤية الشعوب للمرأة : “إن أكثر الشعوب تحريماً لشيء ما هو أكثرها هوسا به، وهذا الهوس في مجتمعنا مرتبط بشعر امرأة أو حمرة متناهية أو لون قميصها أو طول فستانها، وحقيقة ما كشف الفستان إلا هوسكم “، وهذا المعنى يحمل مسؤولية الانحراف إلى المجتمع بأسره .
بعد ذلك ينتقل الكاتب الى المشهد الثاني وبعد حوار جدلي بين (المرأة الأولى والمتدربة) وهو الصفة الغلبة لهذا النص، تتكشف الحقيقة الأولى أن المرأة الأولى ما هي إلا قوادة وإنها متظاهرة بالعفة والطهارة وتتستر على حالها من خلال هكذا مشاريع، ظاهرها التقوى وباطنها الفجور والانحلال بكل معانية. كما تجلى في الحوار الآتي:
المتدربة : هل يعني أني مُسيّرة.
المرأة الأولى : ما دام الأمرُ يصبُ في الفضيلةِ نعم، وهي نعمةٌ ويا لها من نعمةٍ.
المتدربة : وكيف أعرفُ أنها نعمةٌ دونَ الأسئلة؟
المرأة الأولى : أنتِ بكثرة اسئلتكِ خرقتي، أخلاقياتِ التدريب، ونحن تعليماتُنا صارمةٌ وعليك أن تلتزمي بها كمتدربة.
وبهذا الحوار أصبحت خيوط اللعبة واضحة عبر كشف حقيقة المرأة الأولى بوصفها عاهرة ولكن ترتدي ثوب الطهارة . ويتضح هذا في الحوار الآتي:
المرأة الأولى : التزمي الأدبَ أيتُها الساقطة.
المتدربة : مَنْ أنا أم أنتِ؟
المرأة الأولى : أنتِ تعرفين مدى تفاهتِكِ جيداً.
المتدربة : لأني لم انساقْ وراءَ شهواتِك المريبة؟
بعد أن كشفت المتدربة بوصفها شخصية عارفة بتاريخ المرأة الأولى وتبين للأخيرة حقيقتها، رغم أنها لم تعترف بذلك، فإن المرأة الثانية عززت بالمشهد الثالث والأخير تلك الحقيقة، حين واجهتها أنها عاهرة وإنها مصابة بـ(الزهايمر) لذلك فأنها لا تتذكر شيء من ماضيها الاسود، وفق ما جاء في الحوار الآتي في المدونة النصية:
المرأة الثانية : لأني أعرفُ ولا أعرف (تقاطعها المرأة الأولى بعصبية)
المرأة الاولى : تعرفينَ ماذا؟
المرأة الثانية : إنكِ مصابةٌ بالزهايمر.
المرأة الاولى: (تصدم) ماذا؟
المرأة الثانية: نعم، مصابةٌ بالزهايمر.
بعد نهاية هذا المشهد فإن الكاتب بعد أن يرسم الركح النهائي للمشهد، وهو مطاردة الأولى للثانية فانه يعيدهما إلى حركتهما الأولى التي بداهما في النص بمعنى جعل البنية الدرامية بنية دائرية وهي التفاتة مميزة تحسب للكاتب، وبتقديري تعطي معنيين، أما أنه أي الكاتب أراد أن يقول: “إن الفعل مستمر وحادث ولن ينقطع أو أن ما حدث هو ضرب من الجنون وصحة الفعل ما هو إلا افتراض، وأنا أبني على الاحتمال الأول كون هذا الفعل حادث ومستشري اجتماعياً وسياسياً “.
وبعد هذا اقول أن النص أخذ منحى سياسي فهو يختزل تجربة مابعد 2003 ويوصفها بالعهر السياسي وهو نتاج أصلاً للعهر المجتمعي (كيفما تكونوا يولى عليكم)، وبتقديري أن الكاتب انسحب إلى تلك المنطقة ملتحفاً بالعهر المجتمعي، والدليل على هذه الرؤية هي مساحة العلامات اللفظية المتشكلة بالنص، تبدو واضحة وكثيرة وفيها إحالات تداولية تقض مضاجع التأويل كونها تنفتح على مخرجات شفروية قابلة للتأصيل، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ( العهر، الدعارة، الطهارة، المشروع، الملصقات، الأوراق، الشعارات، الأهداف، المتدربة، الجنون …الخ ) ، وهذه الملفوظات حملها الكاتب في مواضع تعطي حقيقة الإحالات الدلالية التي تكشف الواقع السياسي المتردي، ليخرج الكاتب عبر تلك التوصيفات وهو يسير في حقل الغام هائل بنتيجة صادمة ليعلن بيان موت هذا المشروع ظاهرة الرحمة وباطنه العذاب، كونه يظهر التجليات ويخفي مبثوثات العالم السفلي، فبرانيته خلابة ومؤثرة لكن جوانيته نتنه ومقوضة لكل فعل إنساني نبيل، كما جاء في الحوار الآتي:
المرأة الأولى: هذا استفهامك ليس كل استفهام، سبق لك أن قدمتيه، سوف تعثرين على جواب.
المرأة الثانية: ( بنفاد صبر ) تحدثي.
المرأة الأولى : هذا المعهدُ يعملُ على مكافحةِ الدعارةِ والعاهرات؟
واللافت للنظر أن هذا المشروع بوصفه مشروعاً اصلاحياً بامتياز، لكنه للأسف منشؤوه هم المفسدون بالأصل، وهذا ما أراده الكاتب من اسقاطات معاصرة تضرب في باطن العملية السياسية التي تآكلت بفعل الفساد بكل أنواعه ،
ومازال هناك من يرتدي ثوب الطهارة علناً ويتحدث بمليء فمه وكأنما هو شخصية مقدسة لا علاقة له بما يحدث من خراب وضياع وفقر وقهر مجتمعي وانتهاكات للإنسان دون اكتراث من الجميع.
ومما تقدم فأننا نضع بعض المؤشرات بين يدي القارىء وهي على النحو الاتي :
اولا : استل الكاتب فكرته من موضوعة حياتية متداولة ليقرأ الواقعين ( الاجتماعي / السياسي )، معاً في توصيف حالة مجتمع والتي تتناسب مع حجم المأساة .
ثانيا:العلامات المتشكلة في النص فيها تعددية في المعاني والإزاحات الجمالية، توحي بتحميل النص عدة دلالات وإن كانت الثيمة المركزية واحدة .
ثالثا :النص يتسم بالسلاسة والرشاقة في اللغة والتعبير ، إلا إن معانيه عميقة تحتاج إلى تأني في القراءة لكشف المخبوء والمتواري عن الاذهان .
رابعا :يحيل الكاتب إلى اشتغالات نصية مابعد الحداثة، وهذا واضح في العناصر والقيم الدراماتيكية، ويحاول أن يؤسس (ضد نوعي ) باتجاه السياقات المتمظهرة في نسق العرض، ليكون كاتب موقف يشار له فيما بعد .
خامسا :اعتمد الكاتب على البنية الدائرية للزمن عبر الفعل، من خلال عودته من المشهد الأخير إلى المشهد الأول، ليثبت دلالة بأن الأمر مستمر بلا توقف وهو يساوق الأحداث كعادته السابقة .
أخيراً يرى (جاك دريدا) :”إن كل قراءة للنص تخرج بدلالة مختلفة عن القراءات السابقة له “، بمعنى أن الدلالة تظل مصونة أمام كل قراءة جديدة، إذن لا توقف مادام الأمر كذلك (كالاختلاف المرجا) كما يسميه (دريدا) فهو الامل المنشود .
الاحالات:
*النص الفائز في جائزة (علاء الجابر للإبداع المسرحي- النسخة الثانية) والتي نظمها (ملتقى القاهرة الدولي للمسرح الجامعي، الدورة الرابعة – دورة الفنان محمود ياسين) في مصر.
**حيدر جبر الأسدي/ مخرج وناقد مسرحي من العراق.