بموريتانيا: المخرج التونسي حافظ خليفة يحكي عن تجربته التكوينية المسرحية بنواكشوط (الجزء الأول)
ارتأى المخرج والسينوغراف المسرحي التونسي (حافظ خليفة) أن يقربنا من أجواء تجربته الثرية ـ حسب تعبيره ـ بالزيارة التكوينية بنواكشوط، والتي اختار التحدث عنها وفق أجزاء/حلقات.
ولكم الجزء الأول
الزيارة كانت بدعوة من إدارة المسرح بدائرة الثقافة للحكومة الشارقة بالإمارات العربية المتحدة لتطوير التجربة المسرحية بموريتانيا بالتكوين و الممارسة،و لإعداد و الإشراف على عملية اخراج لملحمة فرجوية من تراث و هوية الشعب الموريتاني للمشاركة بها في فعاليات الدورة 06 لمهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي بمنطقة الكهيف بإمارة الشارقة من 9 إلى 13 ديسمبر 2022, و التي تم تشريفنا باختيار العرض للختام ،و هو دعم مادي و معنوي من ناحية التكوين بالولوج إلى داخل التجربة المسرحية الموريتانية لتحفيز الشباب و وضعهم على الأسس السليمة ثم الانتاج من خلال صياغة عمل مسرحي من لحضة الكتابة مرورا باللعب و الاداء ثم الاخراج ثم العرض من خلال المشاركة بمهرجان دولي و للالتحام بالتجارب الدولية الاخرى.
و نظرا لتجربتي مع العروض الفرجوية الملحمية و القدرة على تطويع الصحراء بثقافتها و تضاريسها كفضاء فرجوي بديل تم الاختيار علي كمشرف مخرج لهاته المهمة المشرّفة، التي تهدف إلى البحث و التطوير بشعوب و مناطق معزولة نسبيا ثقافيا و تستحق المساعدة من اجل تطوير الياتها الابداعية.
فكان الاختيار على جمعية ايحاء للفنون الركحية بنواكشوط بادارة الرائع Le Souleye Abd El Vetah ومراد ولد محمد آب الذين يحاولان نحت تجربة مسرحية شبابية جديدة كمواصلة للجهد للمحاولات المسرحية السابقة بالبلد.
بدأ العمل عبر الوسائل الافتراضية منذ شهر اوت (اغسطس) حول الكتابة و اساليبها لأي ملحمة فرجوية و اختيار الموضوع و الصياغة للسيناريو و كتابة المتن النصي و باختيار الشخصيات و اللغة و كل باقي المكونات. فكان نص ملحمة “منت البار” هاته الاسطورة التي تمثل جزءا كبيرا و هاما من الهوية الثقافية الموريتانية. و بلغة عربية فصحى و بنكهة حسانية في بعض مشاهده.
ثم كان السفر و اللقاء بالمجموعة التي اشتغلت لمدة شهرين و نصف (سبتمبر و اكتوبر و نصف نوفمبر 2022) فتم اللقاء مع شباب متفاوت التجربة في علاقته بالمسرح مع تواجد عنصر نسائي ملفت لما تعرف الساحة المسرحية الموريتانية من عزوف النساء عن هذا الفن نتيجة النظرة الاجتماعية التي ترى لحد الان من المسرح فعلا مخلا بالاخلاق، و كأن الزمن عاد بنا بالثلاثينات و العشرينات في بقية البلاد العربية و ما نعرفه عموما من تاريخ علاقة شعوبنا بهذا الفن..
إن اهم ميزة لدي هؤلاء الشباب حدة الذكاء، فهم جديون و مولعون باصرارهم المستمر و بشغفهم الكبير لمعرفة اسرار عالم المسرح، مجموعة متكونة من الموظف و الطالب و الممرضة و المصور و حتى العامل اليومي، يتجردون من كل هوية دنيوية، عند الخامسة (عندما يكون الجو اكثر لطفا كباقي المناطق الصحراوية بالعالم) و على رمال الصحراء يركضون و ينفذون بكل حرفية و دقة ما يُطلب منهم.
لم يكن الأسلوب تدريسيا او تعليميا او تلقينيا بل كان التعامل انسانيا كفرد منهم، كنت امرر المعلومة لتصبح ملك الجميع و يتبناها فيما بعد الشباب باداءهم، القريب من العفوية و عدم التكلف.
لم تكن ورشة تكوين أو تمارين لإنتاج عمل مسرحي حسب الطلب، بل كان الأمر تشاركيا في كتابة السيناريو و الاعداد و التنفيذ و الاخراج و التسجيل الصوتي و حتى في اختيار الموسيقى و تفاصيل المعلقة الاشهارية للعرض و كذلك سبل ترويج العمل و السعي إلى نشره و ايصاله للناس وطنيا و إقليميا و دوليا، و عن نفسي اقترحت عليهم أن يكونوا بيننا و معنا بالدورة القادمة للمهرجان الدولي للمسرح في الصحراء بتونس لسنة 2023.
اعتقد اني انا المستفيد الأول من هاته التجربة، بمناطق و اناس يستحقون كل الجهد و المثابرة، و الشكر موصول لمن فكر اولا بهذا الأسلوب المطور و المحفز من الداخل و هي دائرة الثقافة بحكومة الشارقة لما انتبهوا إلى أن التطوير لا يكون الا من خلال زرع كيان محترف وسط مجموعة هاوية للعبور بهم إلى منطقة الفعل المسرحي القويم و الذي يختصر عليهم مسافات التيه في البحث عن سبيل حقيقي لممارسة المسرحية..
و هنا استحضر تجربتي الناجحة مع المسرحي العماني الرائع يوسف البلوشي من خلال فرقة مزون بمسرحية مدق الحناء و التي نالت عديد الجوائز و لعل اهمها جائزة أفضل عمل متكامل بمهرجان المسرح الخليجي سنة 2019. و الذي قام بالاستفادة من خبرة الممثل العراقي القدير عزيز خيون وسط بقية الممثلين بالعرض و ما اثاره من عطر و شحنة احترافية بالاجواء مع اشرافي على الجانب السينوغرافي و التصميم للانارة لاحتواء الجانب البصري للعرض و اظهاره بأسلوب علمي مدروس..و لا يفوتني أن استحظر تجربة رائد المسرح العربي المرحوم منصف السويسي و ما قدمه من تجارب بمختلف البلدان العربية و خاصة بالكويت. و ما يقدمه الان أحبتنا من اساتذة الفن المسرحي التونسي بلمدارس الإماراتية من تأسيس حقيقي لمسرحيي و جمهور الغد هناك،و ما يقوم به الرائع لسعد المحواشي من نقل خبرته بفن العرائس إلى هناك..و لا ننسى ما قامت به الهيئة العربية للمسرح من تأسيس للمسرح المدرسي بموريتانيا بداية من 2010 ، و إقامتها لدورات تكوينية متعددة بجميع الاختصاصات اضافة إلى دعمها الكامل لمهرجان مسرحي وطني موريتاني، و هي جهود حميدة من الأكيد و حتما ستنهض بقطاع المسرح بهذا البلد بشكل سريع و ملحوظ.
اعتقد انه لا وجود لكيان لمسرح تونسي او عراقي او مصري او الخ بل وصلنا إلى مرحلة ضرورة نحت كيان مسرحي عربي و بحاجة أكيدة للتمازج لافراز شكل مسرحي عربي جديد، و اعتقد جازما ان التطور يكون حتما من خلال العمل و الانتاج المشترك، و الذي اعتبره اهم من السياحات المسرحية من مهرجان إلى آخر و من مسابقة إلى اخرى لنيل جوائز كرتونية احيانا قد تظلل صاحبها و تدخله بمتاهة النرجسية و حقول الإبداع على القياس الجدبة.. فنحن بحاجة ايضا الى مراجعة نحت كيان لمفهوم التظاهرات و المهرجانات المسرحية العربية و التي ظلت لمجرد العرض و السابق دون اضافة تكوينية دولية تذكر، و ظلت منتصبة مثل الحوانيت المستنسخة، او ترانزيت لمجموعات الفنانين وجودها دون فائدة كضيوف او لجان او مكرمين دون فائدة او اضافة تذكر.
موريتانيا هذا الشعب الطيب و البلد الخصب، و الأرض البكر و الشباب الذي سيدهشنا بمستقبل مسرحي واعد.