في انتظار ” الميت الذي مات”…(الجزء الأول) / أ.د مجيد حميد الجبوري
قراءة تحليلية في نص وعرض مسرحية (ميت مات)
1- مدخل عام
لما زاد عن السنة ومسرحية (ميت مات) للكاتب العالمي/ العراقي: علي عبد النبي الزيدي توالت عروضها بنجاح في محافظات العراق أبتداءً من بغداد مرورا ببابل والديوانية وذي قار وليس أنتهاءً بالبصرة؛ وتعود أسباب ذلك النجاح الى أن عرض هذه المسرحية قدم مقترحات جمالية وفنية مبتكرة وجديدة؛ فعلى الرغم من موضوعها الفلسفي المتعلق بفكرة الانتظار؛ غير أنها بقيت تحظى بتلقٍ واسع أينما حطت رحالها.
وبعيدا عن لغة الأعجاب والانحياز لكاتبها السومري الأصيل؛ فأن قراءة علمية متفحصة يمكنها أن تكشف عن مبررات وأسباب هذا الاهتمام الجماهيري الواسع الذي حظيت به هذه المسرحية؛ فبالرغم من أنها عرضت أول مرة في مهرجان شهد تنافسا شديدا بين العديد من العروض العراقية المتميزة؛ غير أنها حازت على جائزة النقاد الخاصة في المهرجان المذكور؛ وتوالت عروضها في محافظات مختلفة بطلب من الجمهور المسرحي المتعطش الى مشاهدة عروض مسرحية أصيلة؛ تعيد الذاكرة الى عروض المسرح العراقي الأصيلة والراقية جماليا وفكريا؛ التي حظيت باستحسان ومتابعة الجماهير خلال عقدي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
إن أولى علامات المغايرة والابتكار في عرض مسرحية (ميت مات) تظهر أبتداءً من دليل عرض المسرحية (الفولدر)؛ فقد زينت واجهة الدليل صورة لأحد تماثيل النحات والطبيب العراقي (د. علاء بشير) التي تظهر نحتا مجسما لرجل أصلع الرأس تماما وحليق الوجه تماما؛ ويداً تظهر من قاعدة الفك الأسفل من الوجه لتغطي عيني الرجل؛ واختيار هذه الصورة له دلالات فلسفية ورمزية عديدة؛ ربما أظهرها أن هذا الرجل حرّم على نفسه رؤية ما يدور حوله بإرادته؛ أو أن هذا الرجل سأم مما يراه؛ فأجبر نفسه على عدم رؤية ما يجري حوله؛ ولربما هناك احتمالات أخرى. أما العلامة الثانية المغايرة في دليل العرض فهي خلو الدليل من أسم مخرج للعرض؛ وبدلا من ذلك تظهر كلمة (دراماتورج) مرافقة لكلمة (تأليف)، وبذلك فأن مخرج العرض وهو المؤلف نفسه؛ رأى أن مهمة (الدراماتورج) هي أكثر مسؤولية وسعة من مهمة المخرج لذا أسند لنفسه هذه المهمة في دليل العرض؛ غير أن (الزيدي) وكما سيتضح في سياقٍ آتٍ لم يتخلَ عن مهمة المخرج؛ بل باشرها بجدة وابتكار؛ أما العلامة الثالثة المميزة في دليل العرض فهي ظهور العلامة التحذيرية (+ 40) التي وضعت بزاوية من صورة التمثال؛ للتنويه على أن العرض موجه لمن هم تجاوزوا الأربعين سنة من العمر؛ وهذا يدل على أن هذا العرض لا يمكن فهمه لمن هم أقل من عمر الأربعين سنة؛ وهذه العلامة تولد علامة أخرى وهي أن هذا العرض يمكن أن يكون شاهدا تاريخيا على متغيرات حدثت فيما يزيد عن أربعين سنة ماضية.
فضلا عن ذلك فأن عنوان المسرحية نفسه يثير التساؤل ويدعو للتأمل؛ فأن المتداول بين الناس: أن كلمة (ميت) تعني أنسانا قد مات؛ وهي تكفي للدلالة على أنه مات بالتأكيد؛ لكن العنوان أضاف الى كلمة (ميت) الفعل الماضي (مات)؛ فهل يعني ذلك: أن هناك موتا آخر حدث لهذا الذي مات؟؟!! أم أن هذا الذي مات قد مات مرتين!!!.. المعروف في الميثولوجيا الدينية أن الذي يموت سيحيى ثانية حياة سرمدية أخرى أما في الجنة أو في النار؛ لكن عنوان المسرحية يخالف الميثولوجيا ليرى أن الذي مات قد مات مرة أخرى ولا أمل له بحياة أخرى!!
إن الدهشة التي يحدثها عنوان هذه المسرحية؛ ربما تكون أحد مبررات أسناد المؤلف لنفسه مهمة (الدراماتورج) لكي يمكنه أن يفسر في العرض ما أرادت المسرحية أن توصله من رسالة الى المتلقي؛ علما بأن (الدراماتورج) في هذا العرض تولى عدة مهمات؛ ففضلا عن مهمتي التأليف والتفسير؛ فقد تولى مهمة الإخراج؛ وتولى مهمة تدريب الممثلين على نوع مغاير من التمثيل يمكن أن تطلق عليه تسمية (الأداء التمثيلي الصوفي) الذي سيجري التنويه عنه لاحقا.
إن (علي عبد النبي الزيدي) في هذا العرض كان رجلا بثلاث رجال؛ إذ قدم نفسه بثلاث شخصيات مبدعة امتازت بالمغايرة ومفارقة المألوف هي: شخصية المؤلف صاحب الفكرة المفارقة للمألوف والمخترقة للتابوات؛ وشخصية المخرج المجدد والباحث عن صنع عرض مغاير لما يقدم من عروض؛ وشخصية المفكر والرائي المنظر؛ ففكرة المسرحية تعمد الى الجمع بين شخصيتين من المستحيل أن تجتمعا؛ هما: غودو والإمام المنتظر؛ غير أن (الزيدي) تجاوز المستحيل وعبر نحو إمكانات المحتمل التي لا تخطر على بال؛ وعمد الى الجمع بينهما.
من ناحية أخرى فأن اغلب نظريات الإخراج تشير الى أن العرض المسرحي كلما كان ضاجا بالحركة والإيقاعات المتنوعة والصور الدرامية المتغيرة والسينوغرافيا الحيوية؛ فإنه يكون أكثر تدفقا وجذبا لاهتمام المتلقين؛ غير أن المخرج (الزيدي) قدم لمتلقيه ما يمكن عدّه نظرية مغايرة في الإخراج ترى: أن العرض كلما كان ضاجا بالسكون وسائراً بوتيرة إيقاعية واحدة وسينوغرافيا ثابتة؛ فأنه قادر على أن يكون متدفقا من خلال السكون؛ ومتنوعا من خلال الإيقاع الواحد وحيويا من خلال الصورة الثابتة. واستدلالا على معطيات هذه النظرية؛ فإنه يمكن القول: إن (الزيدي) قدم الشخصية المبدعة الثانية وهي شخصية المخرج المجدد والمبتكر.
أما الشخصية المبدعة الثالثة لـ(الزيدي) في هذا العرض: فهي شخصية الرائي المفكر؛ وتتضح هذه الشخصية من خلال محورين: الأول على مستوى الرؤية الفلسفية المبتكرة لفكرة (السكون) بشكل عام؛ فما قدمه (الزيدي) لم يكن السكون بمعناه الدلالي المتداول بل أنه كان (سكون الضجيج) أو بعبارة أدق كان (ضجيج السكون)؛ إذ قدم العرض سكونا متوتراً غاية التوتر. وتمثل المحور الثاني بالفكرة الفلسفية للنص والرسالة التحريضية التي تخفيها تلك الفكرة؛ فمع أن ظاهر الفكرة في مستواها الدلالي المعلن تشير الى : الانتظار وتجعله محور خطابها المسرحي؛ وهي فكرة ترجع في أصولها الى نظرية العبث المعروفة؛ غير أن الفكرة التي أتى بها (الزيدي) لم تدع فكرة الإنتظار مفتوحة لا نهاية لها؛ كما فعل كتاب العبث؛ بل تجاوزتها الى ضرورة التخلص من أصنام الإنتظار ومن تماثيل الأمل غير المجدي؛ والعمل – فوراً – على إحداث التغيير الجذري والشامل لما نحن فيه؛ من دون انتظار لمخلصٍ يأتينا على ظهر دبابةٍ أو على صهوة حصان أبيضٍ (حاملا سيفا بسعة الكون) كما يشير النص الى ذلك حرفيا؛ وهذه هي الرسالة الأكثر أهمية والأبلغ دلالة التي يحملها هذا العرض؛ والتي تجعل من العرض أمتداداً للثورة التشرينية المباركة.
2- النص:
قدم النص – بحسب ما ورد منشورا في كتاب: نصوص المدينة الفاسدة – (1) شخصيتين طاعنتين في السن تنتظران أحدا ما على رصيف محطة قطار؛ ويبلغ عمر كل منهما (ألف عام)؛ وهما تجلسان على مصطبتين من خشب متآكل وضعتا أمام رصيف محطة القطار تلك؛ وبمعية كل شخصية منهما أكياس أدوية كثيرة (2)؛ وبحسب وصف المؤلف للمكان والجو العام؛ فإن هنالك سكوناً رهيباً يلف المكان؛ وما يثير الانتباه؛ أن سكة القطار مغطاة بكثير من شجيرات مليئة بالأشواك (3). وفحصا أوليا لوصف المكان والجو النفسي العام الذي يبتدأ به النص؛ يتبين للقارئ العديد من العلامات المميزة لهذه البداية؛ التي تهيمن فيها علامات المكان؛ والتي تدل على محطة قطار مهجورة؛ تهرأ خشب آرائكها وهي دلالة تشير الى قدم تلك المصاطب؛ وعدم استعمالها للجلوس منذ زمن طويل؛ وما يؤكد هجران هذه المحطة هي العلامة التي تشير الى أن سكة القطار مغطاة بشجيرات الأشواك؛ وهي علامة تدل على عدم مرور القطار على هذه السكة من سنين طوال؛ أما العلامة الأكثر أهمية ودلالة في هذه البداية؛ فهي العلامة التي تشير الى عمر كل شخصية من الشخصيتين؛ الذي ناهز (الألف عام)؛ ما يعني أن الشخصيتين جالستين هنا ما يقرب من ألف سنة؛ وهما ينتظران أحداً ما منذ ما يقرب من ألف سنة؛ وهذا ما يجعل المسرحية تقفز من عالم المعقول الى عالم اللامعقول؛ إذ ليس من المعقول في عالمنا الحالي أن يعيش شخص لألف عام؛ فما بالك اذا عرفت أنه ينتظر منذ ما يقارب تلك المدة الموغلة في القدم؟!
وعلى غرار هذه المحطة المهجورة فأن النص يقدم نفسه عبر عدة محطات؛ يفصل بينها عنوانات فرعية يضعها المؤلف؛ فعدا العنوان الرئيسي؛ هناك ثماني عنوانات فرعية تبدأ جميعا بمفردة الصمت وهي: (صمت ما بعد الزلزال، صمت ما بعد الحريق، صمت كالجحيم، صمت ما بعد الطاعون، صمت ما بعد الكارثة، صمت كالمقبرة، صمت صوفي، صمت يشبه الطوفان)4) وبين كل عنوان وآخر هناك مشهد يضم حدثاً مهماً يمثل مرحلة جديدة من انتظار هاتين الشخصيتين؛ وهذه المرحلة التي تأتي بعد فترة صمت؛ تأتي بعد حدث جلل مثل (الزلزال، الحريق؛ الطاعون، الكارثة) وغيرها؛ وتوالي الصمت لثماني مرات متتالية يعطي مفردة (الصمت) سمة العلامة المهيمنة التي يعلن ظاهرها عن مرور فترة زمنية تعقب كل حدث جلل؛ وتشير الى توقفٍ في الفعل والمصائر نتيجة سطوة الفعل الجلل وتأثيراته؛ غير أن العلامة المهيمنة هذه لا تكتفي بهذه الدلالة البينة؛ بل تكون قاعدة تنطلق منها: فكرة النص؛ وأحداثه، وفلسفته؛ والرسالة التي يحملها؛ فكل ما يجري داخل هذا النص يجري في ظل الصمت؛ وكل ما يتلقاه المتلقي يأتي تحت طائلة هذا الصمت؛ فضلا على أن هذه العلامة المهيمنة تشير الى دلالات غاية في الأهمية والحساسية في الزمن المعاصر ؛ إذ انها تشير الى أن كل ما نريد أن نقوله أو نصرح به قد غلفه الصمت؛ وأن هذا الانتظار الطويل الذي امده يمتد الاف السنين – بوصف أن كل شخصية يجلس خلفها الاف المنتظرين – هو انتظار ميت لا جدوى منه. أو أن هذا الصمت المحيط بكل شيء هو إشارة الى موت يحيط بكل ما هو حياة.
وعلى الرغم من رومانسية لغة الحوار التي تجري بين الشخصيتين؛ غير أن المتلقي يمكنه أن يتنبه الى الاختلاف بين لغة الشخصيتين؛ فلغة (هو 1) تبدو أكثر عملية من لغة (هو 2)؛ التي تميل الى أن تكون لغة شاعرية تقترب من روحية اللغة الصوفية؛ وأمثلة ذلك كثيرة في النص؛ منها:
((هو 2: اعتقدتُ أنك أيقظتني!
هو 1: ربما جاء وأيقظنا وراح..
هو 2: لم أشعر بروحه.
هو 1: النومُّ ملَّ.. فأيقظنا!
هو 2: كنت.. أظنه سيأتي في قطار منتصف الحب.)) (5)
أو المثال الآتي:
((هو 1: أتنفسُ عطرهُ من بعيد
هو 2: روحهُ البيضاء من تحرك هذا الجسد.. المكان الخرب فيَّ.)) (6)
وسوى ذلك من العبارات التي تمتد على طول النص.
إن فكرة النص الفلسفية هي الانتظار؛ غير أن الانتظار الذي يطرحه النص؛ هو انتظار مستحيل التحقق من الناحية العملية؛ فهو ليس انتظاراً بالمفهوم الغربي للمخلص (غودو)؛ وليس انتظاراً بالمفهوم الشرقي للمخلص (المُنتَظر)؛ اللذين تنتظرهما آلاف الجموع من البشر؛ بل إنه انتظار أحدهما للآخر وخلف كل منهما آلاف الجموع من البشر؛ أي أن كل مخلصٍ منهما ينتظر المخلصَ الآخر؛ وهذه هي الفكرة الفلسفية التي تفرد بها النص؛ وأثار حولها أسئلة وجودية غاية في الأهمية والخطورة؛ إذ إن كان المخلصُ يبحث عن مخلصٍ له؟!؛ فما هو حال آلاف الجموع من البشر الذين يجلسون خلف كلِ مخلصٍ منهما؛ على مقاعد الانتظار التي لا عد ولا حصر لها؟!!!. لقد جعل النص متلقيه – بهذا التساؤل – أمام معضلة وجودية محيرة؛ لا حل لها!!
وتدليلا على العجز واليأس الذي تعاني منه الشخصيتين المنتظِرتين (بكسر الظاء) والمنتظَرتين (بفتح الظاء) في الوقت نفسه؛ فأن أقصى ما يقومان به هي محاولة فاشلة للتبادل في أماكن جلوسها؛ إذ يَعدان ذلك بمثابة فكرة ثورية يغيران بها – جذريا – الوضع الذي يعيشانه منذ ألف عام:
((هو 1: ما رأيك أن نتغير؟
هو 2: كيف؟
هو 1: تجلس عل مصطبتي واجلس على مصطبتك!
هو 2: فكرة ثورية)) (7)
وعدا هذه المحاولة الفاشلة التي تتكرر ثانية في موضع آخر(8)؛ ومحاولة فاشلة للوقوف تستمر طويلا(9)؛ فإن هاتين الشخصين اللتين تحملان كل انتظارات العالم؛ لا تنشغلان إلا بالانتظار وبأحاديث – تبدو بسيطة في الظاهر؛ لكنها تبطن معانٍ تبين عمق مأساة الانتظار – من قبيل: من منا أكبر سناً من الآخر؟ ومن منا جاء قبل الآخر؟، ولماذا أنت بجانبي؟ وانا بجانبك؟، وفيما عدا الكشف عن هوية الشخصيتين؛ فأن ظاهر الأحاديث؛ لا يعدو أن يكون ثرثرة فارغة لا جدوى منها؛ وهذه واحدة من أهم الإشكاليات التي يثيرها النص: إذ يقدم لنا شخصيتين قد عوّلَ آلاف الجموع من البشر عليهما؛ ووضعت آلاف الجموع من البشر آمالها فيهما؛ وإذ بهما لا يعدوان عن شخصيتين باليتين تعيشان يومهما على الأدوية وكِسر الخبز اليابس التي تقيمان بها أودهما؛ وليس لهما همٌ؛ سوى انتظار أحداهما الأخرى. ومع إن هذا الانتظار يمثل المعاناة الأساسية للشخصيتين؛ غير أنه يشكل صدمة مفاجئة للمتلقين؛ تخترق جوهر معتقداتهم؛ وتكسر كل التابوهات المحرمة لديهم؛ وتجعل كل ما ينتظرونه من آمال بظهور مخلصِين؛ هو مجرد سراب لا أمل فيه.
ومن خلال ما تقدم يتبين بإن مأساة الانتظار التي تطرحها هذه المسرحية؛ هي مأساة مزدوجة؛ المستوى الأول منهما ظاهري يتثمل بانتظار كل شخصية من الشخصيتين مخلصا يخلصه من آلامه؛ والمستوى الثاني ضمني يمثله انتظار جموع البشر لهذين المخلصِين:
((هو 2:…. كنت أنتظرُ.. هو، لقد ملت أصابع يدي من عد مئات السنين بانتظارك البهي،
أعدُ وأعدُ وأعدُ، حتى حسبت بأنني أحمل قضبان زنزانتي في يدي بدلاً من أصابعي.
هو 1: وانتظرتك بشعرٍ طويلٍ فاحمِ السواد، وانتظرتك بعد أن أشتعل البياض في قلبي،
وانتظرتك وهو يسّاقط مني واحدة بعد واحدة، وانتظرتك برأسٍ لا شيء فيه الآن
سوى… الخيبة، وكان عليك فقط أن تلتفت لي وتعرفني وتنتهي المهزلة.
هو 2: وكان عليك فقط أن تلتفت وتعرفني وتنتهي هذه الفوضى
(يضحكان بصعوبة من نفسيهما)
هو 1: (يشير الى خلفه) الكثير ينتظرونك وأنا واحد منهم.
هو 2: (يشير الى خلفه) وأنت ينتظرك الكثير وأنا منهم.)) (10)
وواضح من الخطاب أعلاه: أن الانتظار بالنسبة لـ (هو 2) قد استحال الى سجنٍ؛ سجن نفسه به؛ وأن الانتظار بالنسبة لـ (هو 1) قد استحال الى خيبة لا أمل فيها؛ وبالتالي فأن الانتظار هو سجن لكل الجموع التي جلست خلف (هو 2)؛ وخيبة أمل لكل الجموع التي جلست خلف (هو 1).
إن محاولة التحول الوحيدة التي تأتي في مجرى أحداث هذه المسرحية؛ هي المحاولة التي تحاول بها الشخصيتان النهوض والوقوف باستقامة بعد أن ملتا الجلوس منذ ألف عام! وهذه المحاولة تلمح الى إمكانية حدوت تغيير ما؛ بوصف أنها محاولة للحركة بدل السكون؛ ولكن هل أن هذا التحول حدث فعلا؛ ام لا؟ ذلك هو السؤال الأهم:
((هو 1: (يحاول النهوض، يتوجع بشدة، لكنه ينهض… يتحرك بصعوبة وهو سعيد جدا)
أنا وقفت…
هو 2: (يحاول النهوض، يتوجع بشدة، لكنه ينهض… يتحرك بصعوبة وهو سعيد جدا)
وأنا وقفت أيضا…
هو 1: بعد ألف سنة وأكثر…
هو 2: وأكثر…
هو 1: وكيف نمشي؟
هو 2: لا أتذكر.. نسيت.)) ( 11)
وهكذا فإن وقوف الشخصيتين الذي حمل أملاً بتغيير قادم؛ سرعان ما تم وأده بسبب عجز (المُخلِصين) اللذين تنتظرهما الاف الجموع من البشر؛ عن التقدم خطوة نحو الأمل المنشود؛ بالتالي فأن محاولة التحول الوحيدة هذه تبوء بالفشل؛ ولا يبقى أمام هذين (العاجزين) سوى الموت لعجزهما عن أداء مهمتها؛ بل رسالتهما التي كانت البشرية بأجمعها تنتظر أنجازها:
((هو 2: …. ما رأيك أن نموت؟
هو 1: والبشرية؟
هو 2: لست مسؤولا عنها.
هو 1: هم يرونك منقذا لهم.
هو 2: ما يرونه لا أراه! ألست منقذا يا غودو كما يرونك أيضا؟
هو 1: ما يرونه لا أراه..))(12).
وهنا تأتي الخاتمة الصادمة لكل المنتظرين – على مدى التاريخ – حين يعلن المخلص المنتظر تخليه عن المهمة التي ندبته لها الآف الجموع من البشر؛ ويتضح أنه هو الآخر بحاجة الى مخلصٍ يخلصه من انتظاره؛ والأنكى من ذلك فأن هذا المخلِص المُنتظر هو عاجز عن فعل أي شيء يساعد به – حتى – نفسه؛ فكيف بإمكانه مساعدة جموع المنتظرين.. لينتهي نص المسرحية الى نتيجة مفادها أن فكرة انتظار أي مخلص للبشرية من آلامها وأوجاعها ما هو إلا ضرب من المهزلة والفوضى، وأن هذا الانتظار هو مجرد ورطة للبشرية؛ أوقعها بها؛ هذين (المنتظَرين) – بفتح الظاء -.
((هو 2: والانتظار.. ماذا سيحدث له يا غودو إذا متنا؟
هو 1: يتلاشى يا مولاي…!
هو 2: ونخلِص البشرية من هذه الورطة.
هو 1: نعم.. ورطتنا.
هو 2: التي ورطنا بها الكون.)) (13)
هوامش:
1/ نظر: علي عبد النبي الزيدي، مسرحية (ميت مات) ، ضمن كتاب(نصوص المدينة الفاسدة)، بغداد: منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين، ط1؛ 2022، ص: 151.
2 و 3/ ينظر : المصدر نفسه ، ص: 151 أيضا.
4/ينظر: المصدر نفسه، ص: 152، 156، 160، 164، 169، 171، 173، 174.
5/ المصدر نفسه، ص: 152 – 153.
6/ المصدر نفسه، ص: 153.
7/ المصدر نفسه، ص: 154.
8/ ينظر: المصدر نفسه، ص: 167 – 168.
9/ ينظر: المصدر نفسه، ص: 174 – 177.
10/ المصدر نفسه، ص: 166 – 167.
11/ المصدر نفسه، ص: 175.
12/ المصدر نفسه، ص: 177.
13/ المصدر نفسه، ص: 178.