” الدنتيل” انشودة الى حيفا / إدريس الجاي

” و حيفا من هنا بدأت

و أحمد سلم الكرمل

و بسملة الندى

و الزعتر البلدي و المنزل”/  محمود درويش

 

“مسرحية الدنتيل” ، التي كتبتها ومثلتها المسرحية الفلسطينية سلوى نقارة، و اخرجتها المخرجة الشابة سوار عواد، تمثل رحلة هوية وتاريخ شفوي فضاءها مدينة حيفا بشوارعها واحيائها و زمانها قبل ومع امتداد الاحتلال الاسرائلي. انها تجربة مسرحية الممثلة الواحدة و كاتبة النص في أن واحد. مسرحية الدنتيل ليس عمل سوار عواد  الاول من هذا النوع، الذي تتعامل فيه مع الممثلة وكاتبة النص، فقد سبق لها و قامت باخراج عمل فني مماثل سنة 2018 ، مسرحية “اخر يوم في الربيع” ، التي كتبتها ومثلتها ايضا الممثلة فداء زيدان. قصة اسرة درزية من الجليل فقدت ابنها الوحيد، اثناء التجنيد الاجباري الذي فرضته عليهم سلطات الاحتلال الاسرائيلي سنة 1956 و من خلال لقاء اخته الوحيدة مع الاسر التي فقدت اهي ايضا بنائها سواء العرب او الاسرائليين، يتبلور عند الاخت حوار بين الفقدان الشخصي والعام للاخ و هوية الانتماء. فسؤال الهوية هو قاسم مشترك بين مسرحيتي “اخر يوم في الربيع” و “الدنتيل”، غيران هذه المرة تلج سوار عواد عباب تجربة تراكمات فنية ونضالية ، تجمعت في شخص سلوى نقارة وتجدرت وتبلورت منذ تخرجها عام 1980 من مدرسة بيت تسفي للفن المسرحي، و الحائزة على عدد من الجوائز مثل جائزة “لانداو” وجائزة مهرجان حيفا السينمائي ممثلة ذات حضور فني قوي سواء على ساحة المسرحية الفلسطينية او العبرية او في مجال السينما و التلفزيون، داخل و خارج الوطن.

لقد اودعت نقارة في مسرحيتها “الدنتيل” هواجسها وتخوفاتها من فقدان الهوية المحلية والجغرافية لمرتع طفولتها وشبابها و وطن نشأتها كتعبير على كل ما يحدث في فلسطين. فمن خلال مسرحية الدنتيل تعرض يوميات ترشح بالوان فيض الحب و الوفاء والعشق الجنوني لمدينتها حيفا . انها رحلة بين الواقع والخرافة، بين الواقع المر و الحلم المؤجل. عمل يتداخل فيه قبس سيرة ذاتية بما هو موضوعي. انها رسالة حب مهداة الى مدينة ساحرة، عانقتها سلوى نقارة من خلال لغة الرمز و الاشارة والتصريح تارة و التلميح تارة اخرى وسخرية علنية. الدنتيل ، ذلك الثوب الجميل المنظر المنمق، لكنه مخرق، عنوان يترجم الخروقات و الزيف في واقع محير. إنها وقفة تامل في تاريخ مدينة حيفا القريب منه و البعيد. تفتتحه الكاتبة بالعودة الى توظيف خرافة الغولة:

ـ “الغولة، التي خلتنا نعيش الخوف واحنا صغار، واضحكتنا وحنا كبار.”

فحكاية الغولة تبدو بريئا، لكنها تصبح حاوية، تحمل حمولة ازمة الحياة تحت سلطة المستعمر، والصراع الدائم مع كيان يتخذ كل مرة صورة الضحية واللعب على وتر الضعف عدم الحول و القوة:

ـ “انت تضرب الغولة, انت بتتوهم, انها ماتت, واستسلمت, ولكنها
تفاجئك, بتقوم وتغف عليك , وبتوكلك, بأنيابها الطويلة والحادة.”

ثم يجمل هذا الكيان صورته عالميا بما يملكه من امكانيات متوزعة حول العالم كاخطبوط بللاف الاذرع، من اجل ابتلاع الاخر.

ـ”واذا ظهرت الغولة , بمظهر أمرأة جميلة , هاي بتكون حيلة ,عشان , تطمئن ضحيتها , وتوكلها بسهولة. ”

لا يتوفر وصف.

“الدنتيل” مزيج من اسلوب السرد الحكواتي والفعل الدرامي المجسد مسرحيا و من ورائه ذكريات الكاتبة عن طفولتها، عن جدها، عن امها، خروجها من القرية، ركوب الحافلة الى ساحة الحناطير ثم الى المدرسة في وادي النسناس في حيفا . انه حكي يقربنا من الماضي بعيون الحاضر، بقسوته ، بتشابكاته ومزيجه الذي تتداخل وتختلط  فيه المفاهيم و المسميات. تحملنا نقارة معها في جولة ذاتية وموضوعية في ان واحد، تنسج فيها من خيوط ما لا زال عالقا بالذاكرة خريطة حيز خاص، لكن في علاقته و التصاقه بما هو عام . نكتشف من خلال هذه الخريطة اوجه تهويد الاحياء و الشوارع، عبرنة و مسح تاريخ المدن الفلسطينة. وكذلك: “اعادة وحياكة وبناء النسيج الهش للحالة السياسية الاجتماعية التي نعيشها.” كما كتبت جريدة كل العرب عن عرض المسرحية الافتتاحي.

ـ “المدرسة, الموجودة في حي وادي النسناس…
مش النسناس الاسطوري, النسناس الاسطوري هو نتيجة تزاوج
ما بين شيطان مع انسان, عنده نصف راس , ونصف جسم,
بقفز على اجر واحدة وبقوم بخطوات كبيرة!!
مجرد لمسه للبشر , بقتلهم وبفقدها جسمهن……. لا مش هذا
النسناس! وادي النسناس ما بخوف.”

الدنتيل خزان احداث و وقائع، سفر يجوب عوالم مهن و ممارسات اختفت من عالم حيفا. حفر في وهاد هوية المكان و الزمان، تصحيح الاسماء والدلالات، اعادتها استحضارها في الزمن الحاضر، الاشعار بإتلاف الهوية، التي هي جزء من الماضي و بوصلة الحاضر و بناء المستقبل الفلسطيني، تاكيد على السمات الوطنية، قاعدة امسار الانسان الفلسطيني المستقبلي. انها تخاطب الاجيال القادمة، تؤكد على ان لهم هويتهم بعلامات ورموز وطنهمن التي يعمل بكل حزم على تغييبها.
ـ “امشي مع شارع الحناطر. الحناطر هدول
كانوا مخازن للبضاعة هلي تصل من المينا”.
“هذا كان قبل ما جففوا البحر اللي كان يوصل لحفة شارع
الملوك, اللي اليوم اسمو شارع العتسمؤوت, عشان يوسعوا
المينا”.
انها تعيد الى الحياة ذكر ساحة كان يلتقي فيها الشرق و الغرب كسر نبوءة، ساهمت قبل الاحتلال في ربط حيز كبير من دول الشرق العربي، نقل السلع و البضائع ومجال تجارة بين لبنانن مصر، سوريا وحتى اسيا، كما ساهمت الحناطير في نقل المسافرين والمتسوقين القاصدين السوق التركي. وشوارع مثل شارع يافا الذي اصبح اسمه اليوم شارع نتانزون,

ـ “والقسم الاخير من شارع يافا, صار اسمه اليوم شارع ههغنا…” او شارع وادي الصليب الذي يحمل اليوم اسم بال ـ بام. انها تستحضر من خلال هذا الشارع احداثا تاريخية عاشها هذا الجزء من حيفا: “سنة ال59 المهاجرون اليهود من اصل شمال افريقيا, ضاقت روحهن من التعامل العنصري ضدهم, من قبل دولة اسرائيل, اعلنوا ثورة , وسموها “عصيان وادي الصليب “. واليهود من اصل شمال افريقيا, طلعوا كل غضبهم على مباني وادي الصليب, كسروا , قلعوا, خربوا, هدوا, نهبوا, وحرقوا.”

وامثلة كثيرة عن التحريفات وتغيير اسماء الاحياء و الشوارع في حيفا.

لقد اختارت الممثلة و الكاتبة سلوى نقارة، التي ولدت على جبل الكرمل في مدينة حيفا ، فضاء مدينتها والمسرح كجنس ادبي للتعبير من خلال مساهماتها العديدة في مسرح حيفا وغيرها من المسارح داخل الوطن وخارجه، مواصلة الطريق الذي بدأه والدها حنا نقارة، الذي كان ناشطا في الدفاع عن حقوق المواطنين الفلسطينيين ضد التميز و الاحتلال من اجل التعايش العربي اليهودي. فقد قررت بلدية حيفا تسمية شارع في حي واد النسناس باسمه، نقارة حداد. كانت سلوى طالبة مشاغبة اختارت المسرح بدل الرياضيات و العلوم، وترجمت هذا الشغب الى فقرات في مسرحيتها الدنتيل:

ـ “وصلت البوابة, الحارس كان واقف هناك, رجعت , طلعت على ساحة المدرسة, نزلت الشنطة عن ظهري, شولاحتها من فوق السور, تعمشقت على شجرة السنديانة, ونطيت وراء الشنطة, هذا الدرس أنا حفظته عن غيب.”

بعد القفز هذا تستحضر احداث قاسية تسردها في اسلوب حكي درامي كانها وليدة الامس. فكل جزء من المدينة له قصة وكل شارع له حكاية، و كل حي له ذكرى ماساة الشعب الفلسطيني:

ـ “وقفت, بالضبط, بملتقى, شارع مار يوحنا مع شارع الخوري, هون, بالضبط وين الهغناه *) حطوا الحاجز , بعد ما لموا ما تبقى من عرب حيفا في 48, العرب اللي ما قبلوا يشوفوا طريق الهروب, اللي دلتهن عليه جماعة الهغناه, وكان عددهم يا دوب ال 3000 نسمة, وجابوهم وحجزوهم داخل وادي النسناس.”

لم تقدم مسرحية الدنتيل عالم حيفا بعين واحدة، عين درامية فقط، بل ايضا بعيون السخرية المرة، عيون طفلة تتبع نبضات وحركات ما يدور حولها في عالم يصدح بالشعارات، و الالقاب الجوفاء:

ـ “رفعت عيوني, وشنطة الجلد على ظهري, وتطلعت على البلكون
اللي فوق بلكونة ستي ندى.
( بغضب )
– “هاي, بلكونة الرفيق, المناضل, المفكر, العريق, المكافح ,
الزعيم, الشيوعي, الماركسي, اللينيني , التروتسكي, الستاليني,
البروليتاري, الديناميكي, الاشتراكي, الثوري, الشريف, القائد,
الخالد, الفضيل ,العظيم, الفذ, العنيد, هلي يا جبل ما تهزك
ريح … ساكن هناك.
وهذا الرفيق الطويل الرفيع, احتفل بعيد استقلال اسرائيل, سنة
بعد اقامة الدولة, سنة 49”.
“كان مهرجان مطنطن على الاخر, طلع الرفيق ,المناضل,
العريق, الثوري , الشريف, على المنصة وقال :” نحتفل بإقامة
دولة اسرائيل, هو انتصار مبدأ حق تقرير المصير للشعب
اليهودي في ارض اسرائيل”…
وقال :”نحتفل بهزيمة الاستعمار وفشل الحملة العدوانية
لجيوش الحكام العرب الرجعيين”…
وقال:” نشكر الاتحاد السوفيتي الذي كان الداعم الاكثر مثابرة
وصدقا في حربنا للاستقلال”

لقد كان حضور الممثلة سلوى نقارة حضورا مميزا في هذه المسرحية، من حيث انها كانت في هذا الدور الحكواتية والممثلة، التي لا تقدم حكاية عالم غيرها بل حكايتها الذاتية ، حكاية مدينتها ، شعبها وهويتها، التي رتقتها في نسيج من الاحداث و الشخصيات والوقائع كوثيقة سردية تاريخية من ظاهر العمر الزيداني **) الى مجزرة الاتراك في الارمن، حتى حكايات التراث الفلسطسني.

لقد استطاعت سوار عواد من خلال اشتغالها على هذا الكثافة من الحكي والتداخلات، ان تخلق اطارا سينوغرافيا جماليا مرنا ، يمنح المسرحية امكانية العرض و التكيف مع كل الفضاءات، و قابيلة التاقلم مع كل المواقف الفنية . فكما يبدو من العمل، فتداخل هذه الاحداث و تشعباتها الى حد المتاهة، لكنها متاهة ممتعة، قد وضع امام المخرجة سوارعواد تحديا صعبا و مهمة شاقة، لم تستطع معها ، ان تخلق مسافة فاصلة بين الحكي و التشخيص المسرحي، وتباعدا فنيا بين سلوى نقارة الكاتبة والممثلة حتى يخرج النص في عدد من المواقف و المشاهد من دائرة ما هو حكائي الى ما فسحة هو مسرحي درامي.

لا يتوفر وصف.

الإحــــالات:

*) منظمة عسكرية صهيونية ، معناها الدفاع ، تاسست في القدس سنة1921 في فترة الانتداب البريطاني للدفاع عن ممتلكات المستوطنات اليهودية في فلسطين خارج حيز الانتداب البريطاني

**) ظاهرالعمر الزيداني حاكم فلسطيني في فترة العثمانيين (1695ـ1775)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت